ارفع رأسك أنت فاسد

بؤر الفساد

في الوقت الذي ترتدي فيه الثعالب الماكرة قناع غزال ضعيف مزمجرة بصوتها رافعة شعارات كثيرة في المنابر الإعلامية صائحة: لا للفساد، لا لإهانة الضعفاء، نعم لاحترام حقوق الإنسان ، لا للسرقة ، لا للنصب والإحتيال ، لا للواسطة ، لا للمحسوبية… لا لا لا، ترتفع فيه بنفس ردة الفعل أبواق المستمعين والمشاهدين لهذه الزمجرات الزائفة حين رؤيتها بأن: نعم ، هذا ما نطلبه ، نعم لوطن أفضل لغد أجمل بلى بلى بلى. وللأسف ردّت الفعل هذه لا تصدر سوى عن الضعفاء ومن جيوبهم خاوية من قطعة نقد، حتى من خلت جيبه من قريب مسؤول أو من وظيفة محترمة تسهل عليه الدخول لبؤر الفساد الكبيرة.

حين كنت صغيرا ، كانت معدتي الخاوية تصرخ فيّ كثيرا أن: أعقل، معدتي تصرخ بالفعل حين يعجز العقل عن التفكير ، فكيف له الجرأة على أن يفكر ويستهلك الطاقة المعدّة والمخزنة في المعدة والتي هي بأمس الحاجة إليها ، لكني كنت أستفرغ حين تظهر لافتات محاربة الفساد ومحاربة الجوع، التي تنهمر علينا كوابل المطر حين تكشف الرؤى العليا عن نواياها بكشف ” فضيحة فساد” مصطنعة تنوي من خلالها التستر على “فضيحة” أكبر ، لكني كنت أملك الجرأة الكبيرة والقوة الأكبر لإسكات صوت المعدة هذا الذي كان يؤرقني وينغص علي عيشتي، فصرخت فيه المرة الأولى والثانية والثالثة، صرخت في الصوت، حتى خمد قليلا إلى أن كبرت ، ونهض معي هو وكبر، حينها قررت بالفعل أن أخمده بالمرة ، بأن أكون فاسدا.

كان أبي مغفلا

أبي المغفل ، كان أبي مغفلا إلى حد كبير ، و أراد بي الصيرورة نحو كينونة الغفل الخاصة به ، علمني الصدق و الإخلاص والوفاء واحترام الكبير والعطف واللطف والرحمة والشفقة وغيرها، مما لا يسمن ولا يغني من جوع ، لكني كنت الشاكر لوجوده ، الشاكر لضعفه وغفلته وجبنه وخوفه ، فكان النموذج الحقيقي لجملة ما قال به لي وما عرفني به ، فشكرت وجوده كثيرا ، وكان أول صنم لي حطمته بفأس وجودي وكينونتي ، عندها أحسست بانطلاقتي نحو الوجود ، فشرعت بتربية أظافري و أطلت ذقني ونما الشعر على بدني بالكامل ، وغطّى وجهي و أخفى ملامح الإنسانية لدي ، وشرعت بتمزيق من حولي وبشرب دمهم والغذاء من لحمهم ، ذلك كله حدث لما قررت الفساد ، قررت أن اكون فاسدا .

بالفساد صرت موجودا

سخافة كل ما قلت وما سبق ، فقط السخافة في الصفات والأفعال التي أسبغتها على “الفاسد” ، فهو ليس كما قلت ، وليس كما أصبحت خاصة عندما خالفت الوصايا “الأبوية” مع أن أمي كان لها نصيب من هذه الوصايا أيضا ، ولكن فلنعد ، لم أكن بتلك الصورة الوحشية ولكن ببساطة صرت موجودا ، فملابسي مرتبة وذقني قد حلقتها وأظافري قد قلمتها وشرابي الحليب وغيره مما تطيب له الأنفس مع ما يقدم من موائد الأكل الفخمة، فضلا عن ذلك ، لساني مليء بحلاوة الكلام حتى وإن كان كذبا ، ونفسي مطمئنة ومرتاحة البال خاصة عندما آوي إلى فراشي الباهظ الثمن الذي اشتريته قبل فترة وجيزة مع آخر صفقة فساد لي ، والذي بثمنه بالفعل ، اقول هذا ولست مازحا ، بثمن الفراش الجديد كنت قادرا على شراء كل الحارة الفقيرة التي كنت أعيش فيها ، ليس الجدران والبنايات ، بل الحارة و أهلها.

هذا فضلا عما أعيشه من ترف ونعيم ، في ظل قصر فخم مليء بالأنوار والإضاءة الملونة ، حتى يضحي فيه الليل نهارا ، أفلا تتذكرون: وزينا السماء الدنيا بمصابيح . نعم ، أضحى سقف قصري من الداخل مزينا بمصابيح . أتذكر ذات مرة حين كنت صغيرا ، في الساعة الثانية فجرا ، كنت نائما و أهلي على سطح منزلنا شبه المهجور من الحياة ، مع أننا كنا نعيشه ، المهم ، علا صوت جيراننا النائمين أيضا على السطح.

علا لحظة صرخت ابنتهم بنت التاسعة عشر ربيعا من لدغة عقرب تسلل إلى مكان نومها وأفرغ سمّه في قدمها ، وبسبب تعثر المواصلات ليلا والغباء والعلاج الشعبي السخيف الذي قام به الأهل من فرك مكان اللسع بالثوم والبندورة والبصاق وغيره مما ورد على لسان العجائز آنذاك ، كانت الفتاة بالفعل تعد الدقائق الأخيرة مفارقة الحارة إلى الأبد من لدغة عقرب حقير، وبالفعل تأخر أهلها كثيرا عن إرسالها إلى المستشفى لتفارق الحياة.

أموات أحياء

لن أعود لذكر ذلك مجددا ، فلها الرحمة ، ولأهل الحارة الرحمة أيضا ، لهم وعليهم ، فموتهم أفضل لهم من هذه العيشة ، هم بالأحرى أموات قياسا بغيرهم . فأين هم عن ملذات الدنيا التي يعيشها غيرهم؟! ، أين هم عن هذه الملذات وما تطيب له الأنفس؟ . أين هم عمّا أعيشه أنا حاليا؟ ، اين هم عن القصور والفلل والسيارات والمطاعم والفنادق؟ ، أين هم عن ذلك كله؟ ، صحيح صحيح ، هم في صدقهم وإخلاصهم ووفائهم ومحبتهم وأخلاقهم بلى بلى بلى.

على كل ، يعتقدون أنهم بذلك قد فازوا ، وأنا بأموالي وعقاراتي والصفقات قد فزت أيضا ، مهما كانت الطريقة التي جمعتها بها ، سلبتهم هم أم سلبت غيرهم أم سلبت الوطن الذي ينادون به ، فالمهم هو اللحظة التي أكتب فيها ما أكتب وكأس النبيذ أمامي على بطر ، وحسناء تداعبني كنت لن أرى شعرة منها لو أني الآن هناك ، مع أولئك “الأخلاقيون” . أو مع أولئك “الوطنيون” ، لكني الآن صرت مجامعا ما يقارب الألف من النساء الحسناوات.

خلوا لي الوطن

سمعت مرة أغنية تقول: خذوا المناصب خذو المكاسب لكن خلوا لي الوطن ، كنت وقتها في سيارة حصلت عليها عبر رشوة حصلت عليها من تمرير إحدى المعاملات لمنظمة تدعي أنها غير ربحية ، فكنت من مررها وكنت من حصل على هذه السيارة جراء ذلك ، إنها إكرامية ، المهم ، سمعت عبر الراديو ذلك المقطع “خذوا المناصب خذوا المكاسب لكن خلوا لي الوطن ” عندها ابتسمت لا وبل قهقهت ، وخاطبت القائل بقولي: خذ الوطن ، مبارك عليك بما فيه، وأنا مبارك علي هذه السيارة . وليهنأ كل منا بما أخذ ، وليهنأ كل منا بفوزه.

فيديو مقال ارفع رأسك فأنت فاسد

أضف تعليقك هنا