الابارتيد في القرن ٢١؟!

بقلم الدكتورة جعيد حكيمة

من بعد نقل سفارة أمريكا من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ولأن هذا النقل جاء بقانون يعترف بإسرائيل دولة و عاصمتها القدس، تكرر لدينا سؤال حول ما إذا كنّا سنرى بعد هذا دستورا لإسرائيل؟ و فعلا ما لبثت أن أصدرت إسرائيل دستورها، ولكنه بخلاف التوجه الذي تسعى لأن تضمنه دول العالم أجمع دساتيرها: مدنية يتساوى فيها جميع مواطنين الدولة في الحقوق و الواجبات لإسرائيل توجهها الخاص: دينية، فاشستية …

إعادة تكريس نظام الابارتيد

في الوقت الذي تتجه فيه جميع دول العالم للاحتفاء وإحياء ذكرى الزعيم المبجل “نيلسون مانديلا” في يومه العالمي الذي جعلته الأمم المتحدة ذكرى مناسبة للتأمل في حياته وتراثه وتحقيق رسالته في جعل العالم مكان أفضل فهذا العظيم كان له الفضل في مناهضة والقضاء على نظام الابارتيد  أو الفصل العنصري الذي ساد جنوب أفريقيا لعقود، نجد أن اسرائيل تتجه نحو العكس، ونحو تكريس الابارتيد من جديد، وذلك باصدارها بالتزامن مع ذكرى القضاء على هذا النظام “قانون الدولة القومية للشعب اليهودي”.

تعريف نظام الابارتيد

والابارتيد هو نظام للفصل العنصري يتميز بطبيعته الرسمية و المؤسسية حيث يضمن في القوانين والنظم المعمول بها ، وتجعله الدولة أساسا للسياسات العمومية في مختلف مناحي الحياة علنا وبلا مداراة حتى انها لا تتحرج عن الحديث عن شعبين مختلفين و مسارين للتنمية متابينين.

متى طبق نظام الابارتيد وفي أي مكان؟

وقد ساد هذا النظام في جنوب أفريقيا لعقود منذ عام ١٩٤٨ حيث أصدر الحزب الذي وصل السلطة آنذاك “الحزب الوطني” المتطرف قانون بعنوان “سجل السكان” الذي قسم سكان جنوب أفريقيا الى أربعة أصناف: البيض (الأفريكان)، و السود (البانتو)، و الخلساء، و الاسيويين، وأكد القانون على أن انتماء المواطنين يثبت في هوياتهم، وحدد لكل صنف مناطق حضرية له ولكن بنِسَب غير عادلة حيث لم يمنح للسود سوى منطقة جغرافية فقيرة ونائية ( لا تتجاوز ١٣٪‏ مع أنهم الاغلبية ) ما أوجد أحياء فقيرة مكتظة تنعدم فيها ابسط الخدمات أما البيض فكان لهم القسم الحضري الأغنى و الأوسع.

تسمية نظام الابارتيد بنظام الفصل العنصري

ولم يقف الامر عند هذا الحد بل إن قانون “سجل السكان” السابق الاشارة كان أساسا لعدة قوانين عنصرية أخرى كقوانين العمل(التي أعطت للبيض وحدهم الحق في التوظيف)، و قوانين التعليم (التي مكنت البيض فقط من العلم و التعليم)، وقوانين الزواج (التي لم تسمح زواج البيض من باقي الالوان) وقوانين حيازة الأراضي والفصل الجغرافي (التي لم تسمح سوى للبيض بامتلاك و حيازة الاراضي).. إلى غير ذلك من القوانين العنصرية، ولذلك تسمى بنظام الفصل العنصري.

لأنه نظام يقوم على مجموعة من القوانين التي تصدرها الدولة و تفصل بموجبها عنصريا بين طائفة و طائفة ( في حالة الفصل العنصري على أساس الدين )، و جنس و جنس ( في حالة الفصل العنصري على اساس الجنس )، و لون و لون ( في حالة الفصل العنصري على اساس اللون ) وهو ماحدث في جنوب افريقيا و ذاق به ذرعا سكانها.

 مواجهة جنوب أفريقيا لنظام الابارتيد

فلزمت المجابهة لهذه القوانين العنصرية شعبيا من خلال مظاهرات متكررة قوبلت بالرصاص من الجانب الآخر، وسقوط العديد من الضحايا، و سياسيا عن طريق تأسيس “حزب المؤتمر الأفريقي ” عام ١٩١٢ بزعامة الزعيم المبجل “نيلسون مانديلا”، و ذلك للدفاع عن حقوق السود امام سيطرة العنصرية البيضاء.

غير أنه ما لبث أن حُظر الحزب من قبل الحكومة عام ١٩٦٠، واعتقل قادته و على رأسهم الزعيم “نيلسون ماندلا” الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة قضى منها ٢٧ عاما متواصلة مواصلا نضاله ضد التفرقة العنصرية التي تسود بلاده من وراء القضبان مما اشتدت معه المقاومة الداخلية التي لم يفلح معها لا القمع، و لا الوحشية،  و لا الاحتجاز و القتل، إلا أن تم إطلاق سراح الزعيم مانديلا ليقود مفاوضات مع “الحزب الوطني” المتطرف الحاكم إنتهت بإخضاع هذا الحزب لإنهاء قوانين الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، وإجراء أول انتخابات متعددة الأعراق عام ١٩٩٤،

و بهذا طوي العالم فصلاً من العار، و القسوة، و العبودية في تاريخ البشرية، وهو اليوم يفتخر بما حققه الزعيم المبجل ” نيلسون مانديلا” من قضاء لنظام الابارتيد و جعل العالم مكان أفضل يتساوى فيه جميع البشر مهما كان عرقهم او انتماءهم ..

هل هناك فرق بين نظام الابارتيد وقانون (الدولة القومية للشعب اليهودي)

و إذا كان ابارتيد جنوب أفريقيا الذي ساد لعقود عَلى النحو السابق الإشارة قام على أساس اللون فإن ابارتيد إسرائيل الذي تريده أن يسود اليوم يقوم على أساس الدين ذلك أن قانون “الدولة القومية للشعب اليهودي” الذي أصدرته يؤكد في بنوده على أن “إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وهي الدولة القومية للشعب اليهودي، و أن حق تقرير المصير حصري للشعب اليهودي، وأن العبرية هي اللغة الرسمية الوحيدة و ينزع هذه الصفة عن اللغة العربية، و تعتبر الدولة تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية و تشجعه، والقدس الكاملة والموحدة هي عاصمة اسرائيل..”.

هذا القانون هو عنصري بلا منازع و يشبه كثيرا قانون “سجل السكان” لجنوب أفريقيا السابق الإشارة، لأنه يقسم سكان إسرائيل إلى يهود و غير يهود (باقي الديانات) واليهود هم فقط من سيكون لهم الحق في اللغة، و الدين، و تقرير المصير، و التوطين، و عاصمة الدولة، أما غير اليهود من أصحاب الديانات الأخرى فليس لهم الحق في شيء.

نظرة في بنود قانون(الدولة القومية للشعب اليهودي)

1ـ تأكيد الاحتلال

بعض بنود القانون جاءت لتأكيد الاحتلال مثل”إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، و هي الدولة القومية للشعب اليهودي، و تعتبر الدولة تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية و تشجعه” بالرغم من أن التاريخ نفسه يتبرأ من هذا القول ليشهد بحقيقة واحدة، وهي أن دولة فلسطين و كغيرها من دول كثيرة كانت تحت الانتداب البريطاني، ولكن من سوء حظها أن بريطانيا كان يقطنها يهود قامت بترحيلهم إلى فلسطين.

البعض يقول بسبب ما كانوا يصنعوه من مشاكل بها، والبعض الآخر بسبب اقتناع بريطانيا بطموح الحركة الصهيونية التي نشأت آنذاك في إقامة دولة يهودية بفلسطين، و أن بريطانيا نفسها تندمت فيما بعد لمساندة هذا الطموح. آيا كان السبب الحقيقي المهم أنه بين ليلة و ضحاها لم يستفق الشعب الفلسطني كغيره من شعوب الانتداب على فرحة انتهائه؛ بل على يهود يقولون بأن هذه الارض – ارض فلسطين – هي ارضهم ؟!

2ـ تأكيد عنصرية هذا الاحتلال

و بنود أخرى جاءت لتأكيد عنصرية هذا الاحتلال و ذلك ابتداءا من اللغة، فاللغة في القدس المحتلة لن تكون سوى يهودية، ولا مجال فيها للعربية!، و تقرير المصير الذي لن يكون سوى لليهود، فهؤلاء الآخرين وحدهم من يكون لهم تحديد المسار والخيارات السياسية بما في ذلك تشكيل الحكومة، وتحديد شكل الحكم، والاندماج مع وحدة سياسية مجاورة أم الانفصال عنها، أما غير اليهود فلا يملكون تقرير المصير داخل القدس المحتلة!.

وهذا القانون الأساس الذي يتعين أن تتماشى معه جميع القوانين التي ستصدر لاحقا في إسرائيل يمهد لصدور قوانين  عنصرية تميزية لاحقة له كقوانين الحقوق السياسية والتوظيف التي لن تكون سوى من حق اليهود (تنفيذا لبنود اللغة، و تقرير المصير لليهود فقط)، و قوانين الخدمات الاجتماعية، التطوير و الاراضي التي لن تكون سوى من حق اليهود (تنفيذا لبنود تطوير الاستيطان اليهودي و تشجيعه)، و الممارسة أو العبادة الدينية لليهود فقط (تنفيذا لبنود اللغة و القدس عاصمة اسرائيل فحائط المبكى هو المعلم الديني الوحيد الذي سيكون في عاصمة اليهود)…!

حتى أن المحكمة العليا في إسرائيل وهي رأس نظام المحاكم وأعلى هيئة قضائية تختص بقضايا الصراع العربي الإسرائيلي وحقوق عرب إسرائيل لن تستطيع التصدي لمثل هذه القوانين العنصرية كونها تستند إلى قانون أساس أي بمثابة الدستور الذي يلزمها بتفضيل الهوية اليهودية للدولة على القيم الديمقراطية أو الحقوق في حال وقع تناقض بين الهوية و الحقوق.

ضرر قانون (الدولة القومية للشعب اليهودي) على أتباع الديانات الأخرى غير اليهودية

إن هذا القانون المضر بتباع الديانات الأخرى في إسرائيل وهم على كثرتهم يكفي فقط تواجد أعظم معلمين دينين وجدا عبر التاريخ و هما المسجد الاقصى، وكنيسة القيامة اللذين عمليا لم يسلما من بطش قوات الاحتلال بحرق للمسجد الاقصى (قرار الامم المتحدة رقم ١٧١ يدين اسرائيل بحرقها للمسجد الأقصى)، و غلق لكنيسة القيامة في وجه المصلين المسيحين ( بعد فرض اسرائيل لضرائب عَلى الكنيسة من اجل السماح باداء الصلوات فيها)، هذه الأعمال العنصرية و غيرها ضد المسلمين المسيحين، دروز، و غيرهم ستكون من الآن فصاعدا  مشروعة و مستندة إلى قانون للابارتيد يبررها، هذا الأخير الذي صدر على مرآى من العالم.

على من تقع مسؤولية إدانة نظام الابارتيد ولماذا؟

العالم بأكمله

يجب إدانته من العالم نفسه الذي حسب أنه أنهى عهد قوانين الابارتيد، و الدول الفاشستية منذ انتهاء عهد الآريين، والاسبرطيين، والنازيين.

كل يهودي

يدان من اليهودي نفسه الذي يسكن إسرائيل الذي من المفترض أنه رافض لأي تميز عنصري جينيا بسبب قوانين نورمبورغ للسلالات والمحرقة اليهودية التي نصبها ادولف هتلر لآبائه.

لجنة الدستور بالكنيست

يدان من لجنة الدستور بالكنيست عند قراءتها الثانية لهذا القانون الأساس، لأن أدنى عضو به نفحات الدستوريين سيئنٌ جبينه عاراً لما لهذا القانون من ابتعاد عما يجب أن يكون عليه دستور الدولة حتى أن الإغداق في المساواة وكفالة الحقوق لجميع مواطني الدولة دون أي تمييز  إغداق إلى درجة المثالية لا يخرج الدستور عن مساقه، بل هو ما يسعى و يطمئن له قلب المختص بالدستور، و إن اشتم هذا الأخير لأدنى تمييز و لو بسيط، بل و لو كان ايجابيا (كالتمييز الايجابي للمرأة) تخوف منه، فمابالك بالمختص عضو اللجنة الدستورية بدراسة هذا القانون من المؤكد أن تصببه عرقا ألف مرة لن يكفيه و يقيه عار إصدار مثل هذا القانون الاساس، ثم إن هذا الاخير سيطرح في الواقع مشكلة أخرى داخل إسرائيل، وهي تطبيق الشريعة اليهودية بدلاً من القانون الوضعي طالما أن هذه الدولة هي دولة اليهود فقط الذين يدينون بالدِّين أو الشريعة اليهودية، وواقع الحال أن إسرائيل لم تكن بحاجة لإصدار مثل هذا القانون، فاليهود يتواجدون بجميع دول العالم فهل يجوز إصدار قوانين عنصرية ضدهم؟

الأمم المتحدة

يدان من الأمم المتحدة التي تسعى إلى عالم السلام و المساواة وهو قانون يناقض هذين المبدأين، فهو يكرس للقتل و الابارتيد، و لأنه يخالف إعلان أو وعد بلفور الملزم لليهود الذي نص على أن “تنظر حكومة صاحبة الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي، و ستبدل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقض من الحقوق المدنية و الدينية التي تمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، و لا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في بلد اخر”.

الولايات المتحدة الأمريكية

يدان من أمريكا نفسها إذا ما كانت تتغنى بدستور آبائها المؤسسين الذين كرسوا به لدولة المواطنة مهما كان لون أو جنس أو دين أفرادها، وهو ما سمح في الواقع بأن يصل إلى حكمها يهودي الديانة “دونالد ترامب” بالرغم من أن دين الغالبية بها هو المسيحية، هذا كله بفضل دستورها الذي يساوي بين جميع مواطنيها سواء أكانوا يهودا أو مسيحيين، بيضا أم سود.

بقلم الدكتورة جعيد حكيمة

 

أضف تعليقك هنا