بين مساحتين

بين الشوطين

جلس اللاعبون مع مدربهم لمراجعة الشوط الأول، التفت المدرب إلى اللاعب “سهل” وبنبرة فيها توجيه وتوبيخ،

  • لقد كان لدينا فرصة لتسجيل هدف، لو نظرت إلى زملائك وأعطيت الكرة إلى ” مساعد”.
  • سهل: لكن مساعد كان في مكان أبعد من ” سعيد”، الذي حاولت إيصال الكرة له.
  • المدرب: لكنه كان مراقباً، فلم تكن لدية مساحة كافية للتحرك، بعكس مساعد.
  • سهل: سعيد أقرب للمرمى!
  • المدرب: القرب مطلب مهم، لكن ثمة معيارٍ آخر، وهو وجود المساحة الكافية وعدم المراقبة لمن ترسل إليه الكرة، تذكر أن بقاء الكرة معنا أولى من احتمالية إضاعتها، حتى لو كنا بعدين عن المرمى.
  • سهل: ما الفائدة إذا كنا سنبتعد عن الهدف.
  • المدرب: بقاء الكرة يعني إعادة الترتيب والبدء بهجوم جديد باستغلال الثغرات الموجودة لدى الخصم مع مراقبة المساحات المتاحة، ومن مهارات اللاعب المتميز ” التمركز” هو البحث عن المساحة الفارغة وسرعة التوجه لها واستثمارها، وهو لن ينجح إذا لم تصله الكرة في هذه المساحة وفي أسرع وقت ممكن.
  • سهل: لكن قد لا يسمح الوقت بذلك كله.
  • المدرب: أنا كنت لاعباً، واعلم يقيناً أن اللاعب مع انشغاله بالمباراة ومع الضغط النفسي والجماهيري ومع وجود الخصم القوي، قد لا يحسن اختيار المساحة المناسبة فيهتم كثيراً بالاقتراب من المرمى دون النظرة الشاملة للملعب، وتدفعه الرغبة في سرعة التسجيل إلى الدخول في الساحة الضيقة الصعبة وربما الممنوعة عليه لشدة خصومه، فيقع ضحية تلك المساحة فيفقد السيطرة ويخسر المساحة وربما يخسر الكرة ليستلمها خصمه المترصد به ليصبح في وضع المدافع بعد أن كان في وضع الهجوم.
  • مساعد: لكن قد تكون المساحات المتاحة قليلة؟

على السبورة

ينهض المدرب ويتجه إلى السبورة الورقية، ويرسم مستطيلاً، ثم يعلق عليه:

  • هذا هو الملعب، كل فريق يحاول تغطية الملعب كاملاً، لكنه لن يستطيع تغطيته كله كل الوقت، والفريق الذكي هو الذي يغري الخصم بطريقة ما ويسحبه إلى ساحات معينه ليشغله عن ساحات أخرى، وبمعنى آخر يصنع مساحات فارغة.
  •  سهل: وإن لم يستطع.
  •  المدرب: لدى كل فريق مساحة متاحة الحركة فيها إما لفراغها في وقت ما، أو لضعف اللاعب المسؤول عنها، على فكرة إذا أحسنت استغلال المساحة المتاحة وبشكل متقن غالباً ستزداد المساحات المتاحة مع الوقت نتيجة لخلخلة الخصم بسب الهدف الذي سُجِّل عليه، والآن لنعد خطتنا للشوط الثاني، تذكروا أنه في كل ملعب هناك نوعين من المساحات: مسموحة وممنوعة وأنتم تتحركون بينها.

لعبة الحياة

ونحن في حياتنا كاللاعبين في ملعبهم، نركض نتحرك ننشغل وأعيننا دائماً على أهدافنا، وغالباً نسلك الطريق الذي نراه أسهل وأسرع، دون النظر والتأمل والمراجعة لكامل الملعب، فنعيش تحت ضغط المساحة الموجودة، ولا نفكر بالمساحة المتاحة، بل إن البعض يصنع لنفسه مساحة ضيقة ويبني حولها أسوارا ليمنع نفسه من رؤية بقية الملعب بحجة هذا واقعنا ونحن لا نستطيع تغييره.

تجربة اليابان

“نحن الإمبراطور الياباني والحكومة اليابانية والقيادة الإمبراطورية اليابانية، نتعهد بالوفاء بكافة بنود “إعلان بوتسدام”، وبالإطاعة لكافة الأوامر الصادرة عن القائد الأعلى للأمم المتحدة لتنفيذ الإعلان وسائر البعثات التمثيلية الخاصة بالأمم المتحدة، ونتعهد بتنفيذ كافة الإجراءات اللازمة”.

هذا جزء من وثيقة استسلام اليابان للحلفاء في 2/ سبتمبر / 1945م، التي وُقِّعت على متن بارجة من بحرية الولايات المتحدة USS Missouri BB-63، حيث أعلنت اليابان عن استسلامها غير المشروط وتنفيذها لكافة بنود “إعلان بوتسدام” والإعادة غير المشروطة للأراضي الصينية التي تحتلها اليابان، بما في ذلك تايوان، وجزر بنغهو إلى الصين.

نعم استسلمت اليابان، لكن ماذا عن اليابان اليوم، الكل يتحدث عنها والكل يشهد بقوة اقتصادها وتطورها الذي سبقت به بعض دول الحلفاء أنفسهم، كيف تم ذلك لليابان؟ ليس حديثي عن التجربة اليابانية، ولا الألمانية ولا غيرها، لكن أردت القول: أن اليابان ضُيّقَ عليها وقُلّلت مساحتها المتاحة في الحياة، لكنها قبلت ذلك وبدأت تتقن فن اللعب في تلك المساحة، ومع الوقت والنظرة للملعب الكامل بدأت المساحة تزداد وتتطور، بل سمعنا مَن يطالب اليابان للدخول في مساحة جديدة.

ما ينطبق على الدول ينطبق على الفرد، وفي مختلف مناحي الحياة، ارفع رأسك ووسع نظرك وتأمل الملعب كاملاً فهناك الكثير من المساحات المتاحة والمسموحة، ولا تكن أسير المساحة الضيقة أو الممنوعة، ومهما حاول خصمك أن يُضيّق مساحاتك فلا تنشغل بهذه المساحة وابحث عن غيرها، يقيناً ستجد وستصل إلى اليوم الذي تحقق فيه هدفك عن طريق استثمار المساحة المتاحة، فمع العسر هناك يُسرين من رب الثقلين ” فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6).

دوائر الماء

المساحة المتاحة هي كدوائر الماء التي تتكون نتيجة رمي حصى في بركة أو بحيرة، فهي تبدأ صغيرة لكنها مع الوقت تتسع، لكنها لن تتكون دون رمي الحصى، فما أجمل الاستمتاع بتلك المساحة دون التذمر من المساحة الممنوعة. قد لا تجد مدرباً يوقظك، فكن أنت مَن يوقظ نفسه. المساحات تنتظرك.

فيديو مقال بين مساحتين

أضف تعليقك هنا