الإبداع بين تشويه السمعة والدعوات الأصولية/3

بقلم: حسام جاسم

مع دخول الإعدادية نصبح ذوي قرار..
– علمي أم أدبي؟!
سألني وهو ينظر من خلف زجاج النظارة، وكرشه يتهدل إلى ما بعد الطاولة ذات السجلات الطلابية.
– علمي
– ستشقى يا بني، وبضحكه ساخرة كتب اسمي و جعلني أوقع لأول مرة في حياتي أتخذ قراراً رسمياً في المجتمع هههه.

ما وراء الانتخابات، ما السياسات التي تمارسها أنظمة الحكم بحق الشعوب؟

اتخذت الكثير من القرارات المصيرية، منذ سن الخامسة داخل الأسرة ورأيي يؤخذ به، ولكن حكومياً لا يتم الأخذ إلا بولي الأمر، يلهث الآباء خلف أبنائهم لشكاوى المدير والتملق بالهدايا.

منذ الطفولة علمني أبي الاستشارة، كان يأخذ برأيي في كل قرار يخص حياتي أو نظرتي للمجتمع، ونتناقش وبعد النقاش يحصل الإقناع، ويوقع أبي بدلاً عني وبقراري، ولكن هذه المرة اختلفت الأمور، لقد تم الاعتراف حكومياً بتوقيعي وجاء متأخراً، فأسرتي اعترفت بكياني الإنساني في اتخاذ القرار قبل الحكومة، ولا يمكن أن تعطي حكومة ما قراراً يُرضي قناعات الأطفال، لا شيء يرضي الأطفال إلا النقاش والحوار..

سياسة إغلاق الأفواه وقمع الآراء

لم يبق أحد من زملاء المتوسطة سوى شخص واحد، نقطع مسافات بعيدة عن المنزل في الأحياء المجاورة للوصول، نرى النيران مشتعلة قرب الباب الرئيسي للمدرسة و ندخل بصمت، تتجمع الصفوف من الصف الرابع إلى السادس.

الاجتماع الأول كان في ساحة المدرسة المُبلّطة، تحيطها مياه المجاري من كل جانب، والأرض الطينية خلف الصبات الكونريتية كانت سابقاً مكاناً لزراعة الورود، وأصبحت الآن ترعة تغوص فيها الأحجار و النفايات، وبعد الوقوف بانتظام يتقدم المدير بطوله الفارع وسط الساحة، وهو يمجد التعليم والتربية اللطميات!

أصبحت كلمة تعليم تعني دين، و كلمة درس تعني لطم، يخطب المدير بلا ملل لمدة ساعتين متواصلتين، ويدعو إلى إقامة عزاء ديني في قلب المدرسة قبل الذهاب للصف، لابد أن يلطم الجميع لكسب الثواب.

وسألت صديقي الجديد: هل توفت أمّ المدير؟!
-لم تتوفى، إنه عزاء واجب شرعي للإمام فلان ابن فلان الذي توفي قبل آلآف السنين..
-هل تذكر المدير موت ذلك الإمام الآن و نحن بحاجه للدروس العلمية؟!
-انت لا تعي شيئاً، هذا ثواب ما بعده ثواب يجعلك ترفع يديك، و تأكل مع النبي، والإمام في الحوض!
-أي حوض؟! حوض الاستحمام؟! وما علاقة هذا بالتعليم؟!
-اصمت لا أريد أن أتعلم، دعنا نستمتع باللطم..

ألا تسمع صوت المنشد الإسلامي الذي حير المنطقه بأناشيده الحزينة؟ إنه قادم، ألا تراه؟ أنا معجب به أشد الإعجاب!.
وتنهّد بآهة جعلتني أصمت.

لم أر وجه المنشد، والطلاب يجتمعون حوله بدائرة مقفلة يرتدون الأسود، ولا أرى إلا أياديهم المرفوعة عالياً مع قفزة جسدية خفيفة وترتطم الأيادي بعدها على الصدر، يتمايلون حول المنشد في تغيير أماكن الحركات الجسدية.

تعجبت من ذاك المنظر الذي كنت أراه في إحدى الفضائيات في التلفزيون ببث مباشر من إحدى المحافظات الدينية أسفل بغداد التي يحكمها الشيوخ، كيف أتصرف مع هذه الهستيريا الجماعية التي اجتاحت الطلاب جميعاً؟ ووقفت كالتمثال وسط ساحه تعج بالناس،صوت السماعات الإلكترونية والأجهزة الصوتية يتزايد بازدياد ألم وصرخة المنشد، الذي دفع له المدير ليعلمنا اللطم.

أدركت أن مدير المتوسطه أكثر رحمه من هذا المدير، و أدركت نكبة المدينة، و أدركت كيف أساتذة من خريجي الجامعات يزرعون الخرافات بعقول الناشئة ويعلمونهم اللطم في أوقات الدوام الرسمي، وأدركت حجم الجهل لا يتعلق بالتقدم بالعمر أو الدراسة مهما كانت، بل يرتبط بالطفولة وبذور النشأة الأولى للتعليم، علمت أن وزارة التعليم تشجع اللطم في المدن الشعبية، وتمنعه في المدن الحكومية.

أصابني الشحوب و لم يتبق سوى ساعة ونصف لانتهاء الدوام، هل تكفي ساعة ونصف للدروس يومياً؟!

وساد الصمت فجأة، وتوقفت الأصوات، وشحبت الوجوه كالآلات كأنها لم تحدث صخباً في حياتها، و انسحب المدير وبعده المعاون والمدرسون يقودون الطلبة إلى الصفوف كالحيوانات نحو الحظيرة بدقه عالية، لم ينحرف أحد باتجاه مخالف، كأن الشعور بالألم الديني أعطاهم دقه نحو التخدير والسكون، لم يستوعب أحد موضوع الدرس، ونام أغلب الطلبة نحو بعضهم البعض ولكن صوت المدرس لم يصمت، فالمهم هو إكمال المادة وليس فهمها.

رجعت للبيت ورنين محنة تعذيب الجسد لإرضاء شخص مات قبل آلاف السنيين لا تفارق أذني وفمي!

الكذب من أجل تحقيق المصالح الشخصية

إنها مؤامرة، اعتبرت هذة الممارسات مؤامرة لتأخير الطلبة عن العلم وإكمال الدروس العلمية.

وتذكرت مدير المتوسطة السابق حين يجعلنا نحلف على المصاحف كي لا نغشّ، ويُحلّف المدرسين كذلك على كتاب الدين كي لا يساعدوا الطلبة، ورفعت يدي وقلت له: كيف لأوراق قديمة لكتاب يخرج من مطبعة يمنحني ضميراً كي لا أغش؟! ألا يعتبر الغش ضد مبادئ الشرف والعدالة والصدق؟ فأنا لا أغش لمبادئ أخلاقية، وليس خوف من ورق كتاب الدين الذي لم يفهمه الطلبة ولم يقرأوا منه شيئاً سوى سورة الفاتحة، ولم يفهموها حتى!
فقال لي: هذا كتاب الله، أأنت تخاف على الأخلاق أكثر من الله وكتابه؟
فقلت له: الله ليس حروف بكتاب مطبعة، الله هو ممارسه العدل والصدق والأخلاق، علنا دون خوف وسرية وليس حلفان!
صمت ولم يجب، و رجع يلفت النظر نحو الأساتذة ويحلفهم.

تذكرت هذة الحالة، و حمدت الله عليها، يا ليتها تعود، فإنها ليست كالحالة الجديدة الحالية، فالمدير الجديد يرى الدين بوجهة نظر مختلفة عن المدير السابق فكيف إذن بالحكومة التي تفسر الآيات سياسياً، وأحزاب المعارضة تأكل مع رئيس الوزراء في بيته، ويتناسبون مع بعض، هذا يعطي ابنته لذاك، وتلك تعطي ابنتها لأي شخص دخل صفقة سياسية مربحة، وبعدها بيوم واحد يظهرون ليتعاركوا ضد بعضهم، ويرفعون آيات من القرآن أو أحاديث أحد القدماء دينياً، ويرمي بعضهم البعض بعبوة الماء المقطر.

تزوير وتشويه الحقائق والأحداث

تمر الأيام بسرعه و تنهض الهمم نحو لا شيء، ولا شيء يدعوني للأمل سوى المستقبل لأنه ليس محكوم بأحد، فالماضي كتبوه بأيديهم الكاذبة و الحاضر يملكونه بالإعلام المزيف والسلطه وبالقوة العسكرية، أما المستقبل أغيّر فيه في خيالي كيفما أشاء، أضع القصص، و أتنبأ بالأفكار الشارده نحو الأمل، وأضع نهاية الحاكم والمدير، وأقيم ثورة غضب تدمرهم ،وأعلن حالة طوارئ لإنقاذ الوطن، وأعترض على كل شيء، واعترضت فعلاً على كل شيء ولم أحضر العزوات، ولم أرفع يدي و أضرب صدري لأجل أحدهم، وبقيت أقول “لا” حتى انعزلت خلف سور المدرسة أقرأ الكتب تمهيداً للامتحان.

قمع قوى التفكير العقلاني المعارضة لأفكارهم

إن أبنية القوة في الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية يفوز بها ويحميها الطبقة البرجوازية بصرف النظر عن عمليات التصويت، وبرغم وجود الأجهزة الرسمية للديمقراطية، لذلك تفرض نفسها على الشعب بقوة تتستر بالدين، والوعود الغيبية، وتكسب ود الشعب غير الواعي بما حوله لأنه يدور في حلقة مغلقة تتلطخ حوافها بالثقافة الصامتة غير الفعالة، والجهل بالدين والعدل والتطور الاجتماعي للحقوق المدنية وتطور الحكومات، تلك أجهزة وجماعات الضغط من الضغط فكرياً فقط إلى جماعات ضغط قتل ممنهج في وضح النهار بضوء أخضر منها، وينسحب جسد المفكرين الأحرار من الكلام الجهور الحر إلى سياج الغسل والدفن على أروقة الشوارع العامة، فيصمت الشعب غير الواعي فثقافته مستمدة من الحكومة الرأسمالية الدينية البوليسية.

لذا تتحول أصوات الشعب الناضج إلى سكاكين في قلب النظام الفاسد كما حدث في مظاهرات مدينة البصرة التي تستمر بالرفض للنظام القادم من السماء كذباً وزوراً، فالفقر والماء غير الصالح للشرب ليس بسبب السماء والأحكام الشرعية، بل بسبب سياسة من يحكم باسم الله، والولاية الدينية التي تستثمر الجهل بالدين باقتصاديات كبرى لملء البنوك الخاصه للساسة.

والوضع الحكومي في العراق حالياً يعارض الديمقراطية الشعبية، و هي الديمقراطية التي سواء اعتمدت على الانتخابات أم لم تعتمد تكون القوة في أيدي ممثلي الشعب أو أبناء الطبقه العامة.
الطبقه العامة من متوسطي الدخل والكادحين وليس 10% يملكون كل ثروات الوطن، ويعيش الباقي بالبؤس، فلا يمكن إنتاج تنمية اقتصادية فقط دون تنمية تشمل معها التغيرات الاجتماعية والثقافية المصاحبة لها، ورغم الارتباط الوثيق للتنمية بإيدولوجيات معينة تحدّ من جعلها شمولية ومنها العلاقات الدولية والهيمنة الاستعمارية للخارج وتاريخ العالم الاقتصادي من حولنا.

وتقاوم الطبقات الحاكمة داخلياً وخارجياً قوى التفكير العقلاني الوطني في ضرورة تجديد الخطاب الديني، لأن تجديد التفسير القرآني والإنجيلي نحو المدنية والحريات التي نصت عليها جميع الأديان كجوهر وليس نصوص قطعية ثابتة كما يراها الأصوليون والجماعات الإسلامية المسلحة في البرلمان السياسي.

فلا يمكن لدين من الأديان أن يعارض الثوابت القطعية لصحة الإنسان وجسده و روحه، وعليه يجب أن تتطور الأديان نحو حرية الإنسان لا أن تبقى تدور في فلك النص الثابت القطعي بلا اجتهاد، وإنْ تحققَ هذا التطور فإن النظم السياسية الدينية ستندثر حينها إن لم تتحول نحو المدنية المنفتحة نحو العدل و الحرية والكرامة التي هي أساساً جوهر الأديان، ولكن تغيير النصوص الثابتة في الدين والتراث الديني والقانوني سوف تؤثر على مصالح الحكومات الرأسمالية التي تشجع الجهل كضرورة كي يطول الصراع بين الطبقات إلى حاصل تحصيل و فطرة طبيعية، ويخضع الشعب للواقع الفاسد.

يتناسى الكتّاب والساسة أنواع المقاومات الفردية، والثورات الشعبية الكادحة والاجتماعية للأطفال والمرأة، والمنظمات الحقوقية التي تقف ضد الامتداد الطبقي الديني والامتداد العولمي الاقتصادي لاجتياح الوطن.

التملك والسيطرة من خلال إبعاد الشعوب عن التحضر والرقي

تتضمن الفكرة التقليدية للتنمية مقولة “أن المجتمعات أو الأمم يمكن تقسيمها لمقياس تطوري، تكون فيه الدول الغربية هي الأكثر تقدماً، وتوجد عليه دول العالم الثالث (كما تسمى لخضوعها للاستعمار والهيمنة الاقتصادية للدول الغربية) باعتبارها ما زالت تمر بمرحلة التغيرات والتحولات الضرورية لتصل لمرحلة الرخاء والنمو الاقتصادي.

اهتمت معظم الدراسات التقليدية للتنمية بالطريقة التي تحقق بها دول العالم الثالث التحول نحو التصنيع والتحضر، ولذلك استغرقت دراسات التنمية نفسها في تحليل السمات الاقتصادية والسياسية للدول النامية، والتي تعوق تقدم تلك الدول، والطريقة التي يمكن للدول المتقدمة من خلالها نشر أو نقل العناصر التكنولوجية أو الثقافية من أجل صالح الدول النامية.

غالباً ما تدّعي الدراسات التي تتصدى لتحليل تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية في عمليات التغير التكنولوجي والاقتصادي أن الفروق التي طرحت لتفسير عملية التصنيع في الدول الغربية خلال تنميتها يمكن أن تنطبق على عملية التنمية في دول العالم الثالث.

وقد حظيت العلاقة بين الاتجاهات والقيم وبين التغير الاقتصادي بأهمية كبيرة في الدراسات الأنثروبولوجية للتنمية. وهناك من الأنثروبولوجيين من سار على نهج فيبر (الذي يؤكد على أولوية العوامل الأيديولوجية في استثارة النظم الاقتصادية) أو مفهوم “ماكليلاند” عن دافعية الإنجاز، وحاول هذا الفريق تحديد العوامل الأيديولوجية التي تعيق التنمية الاقتصادية، فقد حاولت دراسات الأنثروبولوجيا التطبيقية والتكيف الثقافي حلّ التناقضات بين الأنماط الثقافية التقليدية، وبين متطلبات التنمية الاقتصادية والتكنولوجية.

ولكن الأنثروبولوجيا المعاصرة أفرزت اتجاهاً نقدياً جديداً اتجاه مفهوم التنمية، وقد أثار العديد من الاعتراضات على كل من الدراسات التقليدية للتنمية، وعلى دراسات الأنثروبولوجيا التطبيقية، فلقد أشار النقاد من أتباع هذا الاتجاه في أكثر من موضع إلى أنّ مفهوم التنمية يضع عنواناً مريحاً على مجموعة من المتغيرات الفائقة التعقيد، يثير تحليلها مشكلات نظرية وسياسيه وإثنية.

ولا شك أن مفهوم التنمية ينطوي بصورة ضمنية على المقولة التطورية التي ترى أن “المجتمعات تتقدم و تتحسن تبعاً لمدى ما قطعته من تقدم على طريق التنمية”.

وقد أشارت كل من نظرية التبعية ونظرية النظم العالمية إلى أنه من الإغراق في الوهم أن نحاول دراسة الدول في العالم الثالث على أنها وحدة تنمو بشكل مستقل، وإنما يجب بدلاً من ذلك أن نضع في اعتبارنا أن العالم الثالث وتخلفه إنما هو نتاج لتوسع النظام الرأسمالي العالمي الاستعماري، وسيطرة الاستعمار الجديد.

كما انتقد علماء النظرية الماركسية مقولة التنمية، لأنها صرفت الانتباه عن تحليل بناءات القوة العالمية داخل الرأسمالية، وأخفت علاقه نهب الدول المتقدمة للدول المتخلة، لذلك تحاول الدول الكبرى عسكرياً على تعادل النفوذ السياسي والاقتصادي لمنع أيّ دولة نامية أخرى (مستقلة عن فلك القوى العالمية) من محاولة الاستئثار بالنفوذ لغرض سيطرتها على دولة أخرى بما تملكه من تفوق عسكري، وإمكانيات اقتصادية، ووسائل إعلامية متقدمة للكذب والنفاق.

وقد أدى التوازن الدولي الراهن إلى السباق في التسلح لدى الدول على اختلاف أهميتها، و إلى تكديس الأسلحة واستبدالها بين حين وآخر، ولا شيء ينتهي بالربح إلا تجارة السلاح الحر بالأسواق الحرة من جهة، وإعطاء المعونات وإغاثة المنكوبين من تلك الأسلحه من جهة أخرى!

بث الفتنة من خلال زرع ثقافة الإرهاب في عقول الناس

ما هذا؟!
مؤامرة الصمت؛ مَن ترسل الأسلحة لقتل الشعوب هي نفسها من تتصدق بسفن الإغاثة الإنسانية لنفس مكان القصف!

ويوماً بعد يوم تنكشف صورة الإرهاب العالمي للأمم المتحدة، ولم يبقَ منها إلا شعارات كاذبة للرأي العام تخفي شراستها للتجارة في كل شيء، حتى لو كان نقاباً أو لثاماً أو لعبة مسدس ناري لأطفال المدارس في بلد الوطن، ليعم الجهل والصمت، وتتعمد الحكومة وتتسابق لزراعة ثقافة الإرهاب في المدارس، وملابس الاطفال، وعطورهم، وجسدهم، وإدخالهم للحوزات، بدلاً من العلم المتقدم للرحمة والعدل والمساواة بين الجنسين.

هجمه شرسة لقتل كل من يفكر، وينقد، ويرفع كلمة حرة جديدة غير مسموعة، ومخفيّة، ومخيفة للحكومة والأحزاب السياسية الدينية، لا يفتح تحقيق جنائي لقتل المفكرين إلا عندما تنتقل قصصهم للرأي العالمي، وتصل لمنظمات الحقوقية المستقلة، وإلا لا أحد يسمع أين اختفى فلان!

يتعرض المشرد -مَن لا بيت له، أو ماء صالح للشرب- الناقد للحكومة، المُطالب بحقوقه الأساسية إلى القتل، والتنكيل بسمعته، وتطول ظاهرة الاغتيالات الفردية والجماعية، يريدوننا أن نصمت ونرضح بأن الواقع ما هو إلا حالة طبيعية للإنسان من يده التي صوتت على الانتخابات، وكأن صندوق الانتخاب دليل على الديمقراطية الحقيقيه! ما هو إلا تلميع زجاج ليصمت الرأي العام حين يرى الزجاج لامع، إنها الخديعة الكبرى هي صندوق الانتخاب الكاذب.

خداع الناس بالكلام المنمق والنفاق

انتهت مدة الحجز للإنتماء الحزبي، وتأخرت امتحانات الطلبة لحين رفع الصور والملفات للأحزاب السياسية “دينية أو يسارية”، كلها تتبع وتدور حول الاستعمار كالجاذبية القوية للشمس لحفظ المجموعة الشمسية من الرقص بحريتها..

-جاء المدير كفانا ضحكاً!
تعدلت الوجوه كأنها في الأمم المتحدة، واستبشرت كأنها تتلقى المعونات الأمريكية بعد عطش طويل!
– وما لديه سوى الخطب المفرغة من الأمل حتى؟!
– أنت لا يعجبك العجب، إنه أفضل مدير في هذة المدينة، احمد ربك أنه يمثل مدرستنا، غيرها من المدارس تتمناه.
-هههههههه بالعافية.

وقف المدير وخلفه اثنان من المعاونين، كأننا في محكمة “لاهاي” وظل ينمق كلامه الجديد على غير العادة، وينطق بالفصحى أشد النطق، ويرسو حين يقف بالكلام بكلمة إنكليزية و يلملم أقوال النبي محمد أو ابن عمه “عليّ” بجملة حديث لا يعلم من قال الحديث أمحمد؟! أم علي؟! ويبتسم ليقول لا فرق بينهم، ولاد عم واحد.

المهم يا أبنائي الطلبة أنا -وبفضل من الله، وبجهودي الذاتية- رشحت نفسي عن مدينتكم الموقرة لخوض الانتخابات البرلمانية، وأتمنى من صميم قلبي أن نطور بلدنا العظيم الجميل بوجودكم يا أبناء المستقبل الرشيد، وتهامست الأصوات، وتهامس معي صديقي:
-ما هذا الكلام؟ إنها فصحى لا أفقه شيئاً، وما علاقة المستقبل بنا على رأيي المثل (نجحني اليوم و موتني باجر)؟
-هل هذا وقت النكات؟!

ضج الصراخ في أنحاء المدرسة بصوت (علي وياك علي، ومحمد وياك محمد)،  وركض الطلبة لأخذ البطاقات الانتخابية وصور الدعاية! ومشينا نحو الصفوف، ولا زال صوت النفاق يصرخ ذاته، ومر أمامي أحدهم يصيح (علي وياك علي) فقلت له: كيف تربط اسم الوصيّ علي باسم المدير الفاسد؟! هل تعلم بأن بينهم ألفين سنه مضت، فكيف جمعت الاثنين معاً بلا سبب؟!
فأجاب: هذة لغه العصر، أنت لا تفهمها؛ إنها النفاق، أنا لا أحب المدير أتمنى أن يخسر، ولكن أوحي له بالمحبة كي لا أرسب هذه السنة، ومن الأخير هل أنا حيوان بلا عقل كي أنتخبه؟! وسار أمامي وهو يضحك ويصيح (علي وياك علي).

سياسة إشغال أفكار الناس بأتفه الأمور وأبسطها

تُولّد الخبرة السياسية المستمدة الدين كواجهة حالة انفعالية، قد تصل في شدتها حداً يستدعي القيام بسلوك ما من أجل إعادة التوازن إلى النفس و الجسد، اللذين غيرت التجربة من حالتهما الاعتيادية، ويترافق تقنين الطقوس الدينية أو السياسية أطر محدده ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية وضبطها في معتقدات واضحة، يؤمن بها الجميع، ويرون فيها تعبيراً عن تجاربهم الفردية، وبذلك يتحول الطقس من أداء فردي حرّ إلى أداء جمعي ذي قواعد وأصول مرسومة بدقة، ويتم ربط الطقس بالفكر السياسي الحاكم، ويتعايش هذان النوعان في الثقافة الواحدة.

يرسم المعتقد صوراً ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم المقدسة سماوياً (ظاهرياً) وحكومياً (باطنياً)، لذلك الأفكار وحدها لا تكفي لصنع دين سياسي دون احتوائه على تلك الطقوس لإلهاء الشعب عن المقاومة الاستعمارية، والبحث عن تنقيب اليورانيوم، واكتشاف العلم الجديد حولنا، وتتحول الأفعال حينها للدفاع فقط عن هذا الدين السياسي، ومحاججة رافضيه، والاهتمام بنقدهم وقتلهم، وتشويه سمعتهم دون الالتفات إلى الصراع القائم حولنا، والتطور القائم أيضاً.

وتبقى وحدها الأساطير تدور في عقول الجماعة مثل أساطير (الخلق والتكوين والغيبيات)، التي لا نستفيد شيئاً منها سوى التخدير عن العمل والإبداع الذي سبقتنا إليه أمم الأرض و أحجارها!

إن الإنسان غير الواعي بحاجة دوماً إلى أساطير تعينه في العيش والتكيف والتواصل، وقد باتت صناعة الأسطورة وظيفة سياسية، ويؤشر “إرنست كاسيرر” في كتابة (الدولة والأسطورة) ظهور قوة مفزعة في الفكر السياسي هي قوة الفكر الأسطوري حتى: (أصبحت غلبة الفكر الأسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية الحديثة)، وإذا كانت الأسطورة تتخذ أشكالاً لاعقلانية فإنها تتوجه نحو مقاصد هي في الصميم مرسومة بقوة العقل ومنطقه.

وبحسب كاسيرر: قد وصفت الأسطورة دائماً “أنها نتيجة لفعل لا شعوري، وبأنها نتيجة لانطلاق الخيال، ولكننا في الأساطير السياسية الجديدة نرى الأسطورة تتبع مخططاً فهي لا تظهر عشوائياً، إنها ثمرة شيطانية من صنع خيال خصيب، إنها أشياء مصنوعة، قد صنعها صناع مهرة ماكرون إلى أبعد حد”.

أما هربرت ماركوز فيؤشر إمكانية رجوع الفكر العقلاني إبان تقدم الحضارة إلى الحالة الميثولوجية، وكما يشير “ما زالت عناصر التضليل الأسطوري تستخدم إلى اليوم، وتستعمل بصورة منتجة في الدعاية والإعلان والسياسة، فالسحر و الخزعبلات يمارسان تأثيرهما على نحو روتيني ويومي في البيت والمكتب والمخزن، وينتشي الناس، ويدهشون بالإنجازات العقلانية التي تحجب لا عقلانية النظام”.

مع أم ضد الانتخابات؟ 

-هل حاولت إقناعه بدخول الامتحانات النهائية؟!
-إنه مجنون! لقد طلب مني هاتف محمول بسعر عال جداً من الدولار الأمريكي كي يسمح بنجاحي.
-وهل وافقت؟!
-لا طبعاً، وهل أسمح لعقلي أن يتلوث؟ سوف أنتقل من هذة المدرسة وأحاول النجاح السنة القادمة، سأبذل جهداً كبيراً.
-أنا سعيد لأنك عرفت الصواب، وماذا تعتقد سوف يفعل إن فاز بكرسي البرلمان للحكم بالانتخابات القادمة؟! أي إنه منذ الآن يجاهد للسرقة قبل لمس كرسي السرقات العليا في الخضراء!
-سيفوز، لا تخف ما دام لديه القوة من الحزب الإسلامي.
-إذن سأقاطع مهزلة الانتخابات، إنها الفاجعة والمؤامرة الكبرى.

بقلم: حسام جاسم

فيديو مقال الإبداع بين تشويه السمعة والدعوات الأصولية

أضف تعليقك هنا