البعبع التركي

“.. في حين أن الساراسين Saracens “أي سكان الصحراء الشرقيون” لم يكونوا يريدون من العلم سوى القرآن، إلا أنهم قد أوضحوا بالفعل أن نبوغهم يمكن أن يمتد إلى كل شيء. فالإضطلاع بتجديد القناة القديمة في مصر والتي كان قد شقها الملوك، ثم أعاد “تراجان” شقها، وربط النيل بالبحر الأحمر، إنما يليق بالعصور الأكثر استنارة، وقد قام أحد الولاة في مصر بهذا العمل العظيم في ظل خلافة عمر، وتوصل إلى إنجازه. فما أوسع الفارق بين نبوغ العرب ونبوغ الترك. إن هؤلاء الأخيرين قد تركوا للزوال عملاً تعتبر صيانته أكثر أهمية من فتح ولاية كبرى…” هكذا قال “ڤوليتير“.

قيام الحروب بين الدول الأوربية نفسها

ومع انقلاب الميزان الحضاري توسعت دول أوروبا في استعمار بلدان آسيا وأفريقيا لاستغلال ثرواتها الطبيعية حتى يذكر “صمويل هنتنجتون” أن أوروبا في أوائل القرن العشرين كانت تسيطر على ما يقارب ال84% من مساحة الكرة الأرضية؛ وحيث كانت فكرة الجمهورية التي نشرت الحروب النابليونية عدواها إلى جانب الطفرة الرأسمالية تهدد بالفعل فكرة الملكية الأوروبية، فقد كانت المملكة الإنجليزية ومنذ البداية تركز جهودها السياسية لضبط التوازنات بين القوى الأوروبية بعد الإنتصار على نابليون في معركة “واترلو” ١٨١٤م وبعد انتهاء حرب الثلاثين عاماً بعقد صلح “وستفاليا” ١٨٤٦م.

لكن ما يصعب الأمور أكثر وينصب أفخاخ الالتباس أو التدليس التاريخي هو التعقيد والغموض الذي تخلل المشهد الأوروبي فيما تلي تلك الحقبة؛ فمن غير المعروف بالضبط ما الذي دفع الطالب الصربي إلى اغتيال الأرشيدوق “فرانز فرديناند” الأمر الذي استثار ” النمسا- المجر” للدرجة التي أعلنت فيها الحرب ضد الصرب؛ ومن ثم استثارت التعبئة الروسية بجانب الصرب “فيينا” فأعلنت الحرب على روسيا، وبالتالي على حليفتها فرنسا؛ واستثار الرفض الألماني لحياد بلجيكا الحكومة البريطانية فأعلنت الحرب على ألمانيا.

ولكن آلان.ج. تايلور أشار إلى أن الأسباب الأعمق التي يشير إليها المؤرخون والتي تجعل حادثة الاغتيال هي المبرر لشن الحرب ربما تكون: النزاع بين سلالات التيوتون والسلاف في شرق أوروبا، أو أنها تطورت لحرب خلافة تركيا، وآخرون يلومون المنافسة الإمبريالية خارج أوروبا، ويلوم البعض انهيار توازن القوى في أوروبا وقد ركز على مزيد من موضوعات النزاع الأكثر دقة مثل التحدي الألماني لرفعة الأسطول الإنجليزي، ورغبة فرنسا في الإلزاس واللورين وطموح روسيا في القسطنطينية والمضائق…

ويختتم “تايلور” “أن الحرب الأولى أضرمت لكل تلك الأسباب وليس لأي منها على حدة”، ويؤكد أنه إذا ما طرح التساؤل.. فيم كانت الحرب العظمى الأولى؛ ستكون الإجابة لإعادة صنع أوروبا. وإذا طرح تساؤل آخر.. فيم كانت الحرب العظمى الثانية؛ فإن الإجابة ستكون لتقرير مصير بقاء أوروبا المعاد صنعها.

رجل أوروبا المريض

توقف التهديد العثماني “الحربي” لأوروبا أخيراً بعد محاولة غزو فيينا عام 1683م مرة ثانية في عهد “محمد الرابع” والفشل الذريع الذي لاقاه الأتراك؛ لكن ظلت ترسيبات أسطورة “البعبع التركي” الذي كان يهذب أطفال أوروبا لما يقارب الربع قرن آخر.

وللحق ظل التأثير العثماني ضعيفاً للغاية في قرون الاحتكاك الحربي السابقة؛ فالدين والثقافة والعادات الشرقية المختلفة أثارت حفيظة الأوروبيين للدرجة التي جعلتهم متمسكين بثقافتهم حريصين على عدم تلوثها بالعنصر الشرقي رغم احتكاكهم بالأندلس الإسلامية؛ إلا أنه بعد 1683م اقترب الأوروبيون لتحسس الغول العثماني المتحجر في ضوء الشمس.

بل إن الرحلات والبعثات الاستكشافية التي كانت ترسلها لندن لتدرس نظم وشعوب وطبيعة الشرق الأوسط كان لها تأثير على النظرة الأوروبية حيال التراث الشرقي، مثلما كانت بصمة الأندلس في الشعوب اللاتينية في العصور الوسطى؛ وقد سمع الأوروبيون في نداء الصحراء والجبل ما شابه نداء الغابات والجبال في قارتهم الوعرة وداعب فيهم روح المغامرة.

وتماماً كما كان أجدادهم الإغريق لا يتوانون في قضاء رحلة قد تكون مهلكة فقط لكي يستمتع بيوم ترفيهي في مسرح بلدة بيدروس في اليونان القديمة؛ وحيث كانت سعادة الإغريقي والكمال في نظره هو توظيف إمكاناته وقدراته لخلق حياة لا تعرف الضغوط أو القيود.

ونجد الاختصار في وصف اللورد بايرني الروائي “بيير لوتي” ولورانس العرب لأرض الشرق التي كانت تحت السيادة العثمانية بأنها؛ أرض الأحلام التي تشبع فيها رغباتك وشهواتك وتهرب من حياة الروتين في مجتمعاتك الصناعية..

وفيما تلا العام 1863م بدأت موجة من الهوس بطريقة الحياة الشرقية بين الطبقات العليا، فكان الرجال مثلاً يلبسون السروايل الحريرية الفضفاضة المزركشة ذات الأصل “الفارسي”، وكان الأوروبيون يرتادون المقاهي التي تقدم القهوة التركية، واستبدلت الخيل الأوروبي الضخمة بالخيول العربية الرشيقة.

وللحقيقة أيضاً أن الأوروبيين تعرفوا ما في الشرق من غنى ثقافي وحضاري في فترة الاضمحلال العثماني، فقد عرفوا عن الشرق القهوة، وزهرة التيوليب، ولقاح الجدري، والآلات الصغيرة الميكانيكية التي كانت مشهورة في الصناعات الإسلامية ذات القطع الواحدة “Master piece” وفي رواية “الجبل السحري” لتوماس مان أشار إلى مطحنة قهوة تركي ولعبة ميكانيكية تضحك وتسلي..”

وبمناسبة التأثير الشرقي؛ وفي خصوص الموسيقي، يذكر أن الموسيقة الشرقية وبعض آلاتها كانت تغزو أوروبا منذ 1720م؛ فملك بولندة “أوغست الثاني” سمع أحد الإيقاعات الإنكشارية وأعجب بها فأهداه السلطان فرقة عزف إنكشارية؛ ولا تخلو الكثير من المعزوفات الأوروبية من الإيقاعات الإنكشارية كالسيمفونية التاسعة لبيتهوفن.

المسألة الشرقية

تلاشى الهوس التركي في المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر، كأي جديد يخالف الثقافة المحلية؛ لكن عنصر الجذب الذي أبقى العرش العثماني محط تقدير لدى شعوب الشرق الأوسط المُستعمَرة، شأنه في ذلك شأن العرش العباسي في عصور اضمحلاله البطيء، هو ما قال عنه “دونالد كواترت” أنه ” وبحكم استقلال تركيا والصين واليابان أصبحت محط آمال الشعوب الآسيوية المستعمرة في كفاحها ضد الإمبريالية الأوروبية..”

وكان المغزى من مجاراة الأوروبيين لهذا التأثير هو حرص الجميع وخاصةً بريطانيا على ضمان انتقال السيادة السلس لمواقع استراتيجية في التركة العثمانية “الشرق الأوسط والبلقان في شرق أوروبا” ؛ لأن أي تضارب بين المصالح قد يحدث قد يؤجج الاحتقان الأوروبي.

ولأن علم الاقتصاد يمقت الفراغ كما قال عنه “لستر ثارو“، فقد كان الصراع بين الرأسمالية والإقطاعية وحيث لم تكن الماركسية قد تثبتت في موطأ قدم لها هو المحرك الأول لضرورة تصفية هادئة وسريعة لبقايا الإقطاع استعداداً لمواجهة مع الماركسية، تستشعر بين سطور أدبيات ذلك العصر حجم الكراهية التي ستمارس بها؛ وكانت المسألة الشرقية على رأس أولويات السياسة الإنجليزية؛ وبما أنه من سمات هذا العصر هو الحفاظ على النمط الاستعماري الروماني، ورغم من الاستثناءات الاستيطانية الإغريقية الأصل الواردة على العالم الجديد وإسرائيل.

ومنذ أن انتقلت الرأسمالية إلى طور التنظيم ودخلت في عشرينيات القرن الماضي الى نظام الانتاج الكبير أو النظام “الفوردي- Fordism “؛ وارتكزت في تحقيق الأرباح على ثمان محاور كان أهمهما “الإنتاج الكبير والاستهلاك الكبير”؛ كانت الشركات قد وصلت إلى حد غير متواضع في رسم خطوط السياسة الوطنية، ورغم المشاكسات التي كانت تطرأ من آن لآخر بين السلطة ورأس المال، كموقف شركة “الهند الشرقية” البريطانية المرحب بامتياز حفر قناة السويس الذي منح لفرنسا برغم من تحفظ لندن، إلا أن السلطة كانت تعتبر الشركات في أغلب الأحيان ضمن ترسانتها السياسية؛ وهو ما يفرض وجوب الوصول إلى اتفاق على طريقة “اكسب- اكسب” “win-win approach”.

ومن هذا المنطلق؛ ومع أولى الخطوات خارج النطاق القاري، مع إنتاج لا بأس به من الآلة الصناعية، وحيث كانت “شبه القارة” الهندية الغنية هي درة التاج البريطاني ولم تكن إنجلترا تعني بشيء آخر سوى الهند والعالم الجديد “الذي تتقاسمه مع أسبانيا والبرتغال وفرنسا”؛ كانت إحدى إفرازات العبقرية النابليونية سبباً في وضع مسألة “تنظيم طرق المواصلات” على قائمة أولويات الحكومة والشركات البريطانية بعد جلاء الفرنسيين عن مصر.

لأن صادرات بريطانيا قفزت لأكثر من أربعة أضعاف تقريباً على مدى قرن من الزمان (90 مليون جنيه استرليني في عام 1815م — 403 مليون جنيه استرليني في العام 1913م)، مما أوجب بالتالي على الحكومة أن تؤمّن الطرق من وإلى الأسواق وموطن المواد الأولية في الهند والعالم الجديد.

وختاماً..

إن تعريف فرانسيس فوكوياما للتاريخ أنه “عملية مفردة متلاحمة وتطورية” -مع بعض التحفظات- قد يبدو -واقتباساً عن أحد الأثريين- “تعريف فلسفي مُحلِّق”؛ فبالرغم من كون التاريخ علم محافظ ذو قواعد شديدة الصرامة، إلا أن النظر فيما مقاصد الكاتب المختبئة بين السطور قد يعطي الحدث مغزى قد يكون مختلف لكن غير متناقض، في كل مرة.

المصادر:

  • آ.ج.ب.تايلور: أصول الحرب العالمية الثانية.
  • فرانسيس فوكوياما: معايا التاريخ.
  • دونالد كواترت: الامبراطورية العثمانية.
  • فوزي جرجس: تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي.
  • محمد إبراهيم الديب: الجغرافيا الاقتصادية.
  • ريتشارد نيسبت: جغرافيا الفكر.
  • هنري لورانس: الأصول الفكرية للحملة الفرنسية علي مصر.
  • ويل ديورانت: قصة الحضارة.

فيديو مقال البعبع التركي

أضف تعليقك هنا