جدلية التراث الشرقي

يتجمد التاريخ حين يأبى النسيان، وحول تحديد “الماهية” دارت رحى الجدل رغم أنها ببساطة تعني “ما أنت بحكم طبيعتك نفسها..”، وفي دائرة الجدل المفرغة علقت الحضارة برغم أن تلك البلاد ظلت دوماً غنية مفعمة بروح تراث يستمسك بعرى ماضيه استمساك وثيقاً.

ففي الوقت الحالي تتعالى أصوات في مصر على سبيل المثال، منادين بأن هويتهم تكمن في القاهرة العلوية “الخديوية”، ويقف الرأي الآخر عند القاهرة “الأيـوبـية”، أو ينكر آخرين القومية ويدعون للتمركز حول كيان أكبر، قد يصدق القول أنه انتهى زمنه، فلكل زمن رجال ودولة.

حصر التاريخ عند طور واحد أو اختزاله

وفي ذات السياق يقول نورمان كانتور أن الحادث الوحيد الذي يعرفه الخريج العادي من الجامعة الأمريكية في العصور الوسطى هو الحملات الصليبية الأولى عام 1095 والتي ترسم في ذهنه صورة براقة أخاذة؛(*) وهو ما قد يجعلنا نرجع إلى أن بداية الاحتكاك والمشاحنة كانت ضد “الإسلام” باسم الصليب ونشأت منذ ما يقارب الألف عام تقريباً.

لكن الأمر قد يتخطى حصر تاريخ عريق عند طور واحد منه – طور العصور الوسطي وسيادة “الديانات الإبراهيمية”- والذي بدء في منتصف الألفية الأولى بعد الميلاد، أو اختزاله في كيان سياسي معين؛ فالحضارة التي ينتمي إليها هذا الأستاذ “كانتور” لا تتخطي الألف عام على أقصى تقدير أي أنه الفرق بين عمره وعمر حضارات الشرق قد يتخطي الثمانية أضعاف إن لم يكن أكثر.

بل إنه يرقى إلى أن يكون سياق زمني متصل، لكتلة ثقافية، وضعتها الأقدار فوق رقعة من الأرض، تهيأت لظروف المعيشة بشكل أو بآخر لشعوبها، سابقةً العالم الهيليني الكلاسيكي (منذ العام ٦٠٠ ق.م تقريباً) والمسيحي من بعده في المدنية بما لا يقل عن ٣٠٠٠ عام على أقل تقدير وحسب ما وصل مكتوب عن تلك الحضارات.

مبدأ سلطان الجغرافيا

ولكي لا يخرج السرد عن سياقه؛ فسأبدأ من حيث سيكون، ولا شك، مبدأ سلطان الجغرافيا، هو المبدأ الذي لا يحده أي سلطان آخر داخل السياق الحضاري؛ ونستبين سلطانه بجلاء بعد الإطلاع على كتلة شعوب وسط وغرب آسيا ومصر؛ وللحقيقة أيضاً أن عملية الفرز الثقافي تستحيل في حالة كحالة شعوب تلك المنطقة الواقعة بين وادي النيل غرباً وحتى وادي السند شرقاً ومن البحر الأسود شمالاً وحتى خليج عدن جنوباً.

فعلى هذا المسرح غير الدقيق التحديد الآهل بالسكان والثقافات المتباينة نشأت الزراعة والتجارة واستئناس الخيل والمركبات، وسُكَّت النقود، وكتبت خطابات الإعتماد، ونشأت الحرف والصناعة.. وكل ما نعرفه اليوم تقريباً(*)؛ وإذا تتبعنا مسار التاريخ إلى اللحظة التي إخترع فيها أحدهم على ضفاف دجلة والفرات أو النيل، سنصل في النهاية إلى أن ما نعرفه اليوم بالـ”حضارة” بدأت على ضفاف تلك الأنهار في هذا الصقع من أصقاع العالم.

مصطلح (الهلال الخصيب)

فحين تفرغ من تأمل زهرة اللوتس التي رسمت عرضياً وبعناية جغرافية في محيط أصفر استولى على شمال القارة السمراء فأزهرت دون تأثر من التغيرات الديموجرافية “الخريطة السكانية” المحيطة، وتتحرك العين قليلاً إلى اليمين ستجد الشام والعراق مظللة كهلالاً أخضر إصطلح عليه باسم “الهلال الخصيب” تحدها جبال كردستان وطوروس من الشمال وجبال زاجروس من الشرق فاصلة غير مانعة للاحتكاك بين الهلال الخصيب ومصر وبين حضارة الهند، وتنبسط جنوبها صحراء أكبر أشباه الجزائر في العالم؛ ما جعلها موطناً لثقافات مختلفة عكست الاختلاف الأوّلي بين الطبيعة الجغرافية لكل رقعة من الرقع الثلاث، الجبلية في الشمال، والنهرية في الوسط والغرب، والصحراوية في شبه جزيرة العرب منذ فجر التاريخ.

إختلافات ثرية لا نقائض مُنّفِرة

الخريطة السكانية لمنطقة الشرق الأدنى القديم

منذ مايقارب الأربعة آلاف عام تقريباً كانت الخريطة السكانية لمنطقة الشرق الأدنى القديم اختلفت كثيراً عن عصر بداية التأريخ؛ فقد كان الجنس السامي الذي قذفته أمواج الحرارة وموجات الجفاف المدارية إلى الارتحال شمالاً وجنوبا في منتصف الألفية الثالثة؛ فاستقر الكثير من الساميين في الهلال الخصيب وفي بادية الشام الأقل قحولة من الجنوب.

العبرانيين

وعن العبرانيين، مثلاً، يحتمل أن يكونوا هم سكان الصحراء على وجه العموم، وإذا تأملنا الأسم المنتمي للغة “سامِيّة” فيفترض أنه كان يطلق على إبراهيم وغيره ممن عبروا نهر الفرات متجهين إلى الغرب عبر بادية الشام فهم في الوقت ذاته عبروا من حياة المدنية إلى حياة البداوة؛ وقد ورد ذكر مصطلح العابيرو أو الخابيرو ” Hebrew ” في النقوش والمصادر المصرية والبابلية والآشورية والحيثية؛ ومن المعقول أن العبرانيين كانت إشارة لأحد القبائل السامية؛ التي كانت بدايتها عبور نهر الفرات فسموا بالعبريين أو العبرانيين.

إلا أنه ورغم كل محاولات الفرز العنيفة لما سبق ذلك التاريخ على تلك الرقعة المتباينة في قلب العالم، ترى أن التنافر الشديد في ثقافات تلك الكتلة الديموغرافية التي تحيا الآن في تلك المنطقة يتشابك في خطوطه العريضة؛

اشتراك شعوب منطقة الشرق الأدنى القديم في ثقافات قد يصعب التوصل لتحديد منبعها

فعلى العموم تشترك تلك الشعوب في ثقافات قد يصعب التوصل لتحديد منبعها، مثل مبدأ ” النفس بالنفس” أو القصاص المتعادل الشهير، والذي نصت عليه (الفيدا The Vedas*)، و(الذراما- شاسترا Dhrama-Shastras*) وهي الكتاب المقدس للهند، وفي محاكمات إيران والعراق القديمين، وبين العرب ماقبل الدعوة المحمدية؛ والذي قد لا يزال مستمر حتى الآن بشكل أو بآخر؛

كذلك التقويم القمري التي يحدد بها المسلمين أمور خاصة بعقيدتهم، ومنشأه مدن سومر جنوب بلاد الرافدين؛ والتقويم الشمسي في مصر الذي لا زال المزارعون المصريون يستخدمونه حتى الآن؛ وفي الثقافة والتقاليد الأسرية، والعصبية القبلية؛ وفي البصمة الفارسية التي تحويها الفنون الإسلامية والتي لا تخطأها أي حاسة من الحواس؛ وغير ذلك.

حتى لتجد التشابه كبير جداً بين تقسيم أسفار أو كتب الفيدا الهندية وأسفار الكتاب المقدس ” توراة، وإنجيل” من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضاً تتشابه الشروح والتفاسير الخاصة بالفيدا وتوابعها، والشروح الفقهية الخاصة بالمسلمين.

اختمار العنف

إن روح الشرق تكمن في ربط الجزئيات بالكليات، وهو ما يجعلها غير موائمة مع الثقافة الغربية المرتكزة على الفرد أو الجوهر كما وصفه أرسطو والذي أقر باستحالة أن يصبح الجوهر كلً لأنه جوهر مستقل بذاته.

وبالتالي فإن مسألة التصنيفات العلمية الصارمة -أو كما وصفها المسيري بالتحييد – قد تكون كارثية في بعض الأوقات؛ فالسياق الذي لا يمكن الخروج عليه قد يصبح فيما بعد قاعدة تأويلية قاصرة الرؤية تقود للانعزال والنفور من أي دخيل أو غريب، مما قد يستتبعه اللجوء للعنف لدرء ما قد يعتقد فيه أنه خطر.

العنف الذي تعرض له جاليليو

وهو ذات العنف الذي تعرض له جاليليو “أحد المقربين للكنيسة الكاثوليكية ” إلا أنه في النصف الثاني من القرن السابع عشر وقع ضحية لمحاكمات اصطياد السحرة ، فقط لأنه نشر كتابه مناقشاً ومؤكداً لاكتشافات كوبرنيقوس المخالفة لتفسيرات الكنيسة حول دوران الشمس حول الأرض، وكتب الكتاب بلغة غير اللغة اللاتينية المفروضة من قبل الكنيسة في الدين والسياسة والأدب والعلم استبداداً بالمعرفة لذلك حكم عليه بالحرق حياً.

العنف الذي تعرض له أحد الباحثين التوارتيين والمؤرخين في إحدى الجامعات الأمريكية

وما تعرض له أحد الباحثين التوراتيين والمؤرخين في إحدى الجامعات الأمريكية، في حادثة قريبة، أشار إليها “كيث وايتلام” في مؤلفه “إسكات التاريخ الفلسطيني” وقد تم طرد الباحث بعد تصريحه بأنه لا وجود لإسرائيل القديمة وان الامر كله اختلاق، وهو ما يخالف رواية الكتاب المقدس مما إضطر للجامعة من طرده لأن جزء من تمويل الأبحاث تتولاه المؤسسات الدينية؛ وتجد ذلك الأسلوب التربوي داخل التيارات السياسية العقائدية كالشيوعية والصهيونية والجماعات الإسلامية.

وختاماً

وبمنتهى التجريد فإن التكريس لتفرد العقيدة الإبراهيمية في التاريخ الإنساني قد يؤدي في حالات معينة من ضيق الأفق وضحالة الثقافة والفكر إلى نتائج كارثية؛ حيث أن نفور الفرد من تراثه وثقافته الأصيلة تجعله فاقد الأرضية وبالتالي يبدأ في التأرجح بين نقيضين إختزلتهما توجهات معينة في قالبي الدين والطائفة.

فيديو مقال جدلية التراث الشرقي

 

 

 

أضف تعليقك هنا