الطريق من سراييفو ج(1)

بين الشرق والغرب

ها هو جالس في الظلام ممسكاً بيده اليمنى قلمه، يحاول بكل ما استطاع من قوة أن يحمي ضوء شمعته الأخيرة بيده الأُخرى من الرياح التي هبت هذه المرة شرقية ملحدة.. غربية ‘أرثو-كاثوليكية’ قارسة.. تهجم عليه من زجاج نافذته المكسور، تحاول باستماتة أن تنتزع ورقته من تحت قلمه، وأن تُخمد نور شمعته، وكأنها تعلم جيداً أنها الأخيرة، يضع قلمه في محبرته المملوءة بالأزرق عفواً بالأحمر.. فقد اشتد الحصار ونفد الحبر ولم يبقَ إلا الدم.. والدم يَكتب أصدق من الحبر.. عينه اليمنى تُمعن بثقة إلى هؤلاء الثُلة الضعيفة في سقيع الظلام البارد وظلمة البرد القارس وهي تحفر نفق الحياة تحت الأرض.. لأن ظاهرها لم يعد يصلح للحياة بل إن شئت قل لم يبقى عليه أثر حياة.. يدعو لهم بلسانه وقلبه بالتوفيق والسداد وهو يرى قوات حفظ السلام الدولية التي جاءت لحفظ الأمن وهي تدك أعلى النفق بالطائرات تحاول أن تدفن آخر أمل لهم في الحياة! هذا إن بقيَ هناك أحد له رغبة في هذه الحياة.

أما اليسرى فلم تغفل عن الحراسة مع المرابطين والمقاتلة مع المجاهدين بين قمم الجبال وسِفُوحها، يُرعِي سمع أُذنه اليسرى لأنين اليتامى وعويل الثكالى، أما اليمنى فهي تحاول تقصي أخبار ذلك العالم الآخر الذي يعلم علم اليقين أنه موجود لأن عقله قد جزم بوجوده لحتمية نصب الميزان للثواب والعقاب، فالشرق همجي.. والغرب خائنٌ متواطئ.. والوسط ضعيفٌ متخاذل.. أتراها بعد كل ذلك تمضي عبثاً؟ كلا والله وإلا فالجنون أولى من العقل، والغروب أولى من الشروق، بل حين إذٍ يكون الموت أولى من الحياة، ومع كل ذلك مازال يكتب.. ويكتب.. تُراه ماذا يكتب؟ أيكتب عن الغل والحقد .. أم عن الكراهية والانتقام؟ أم عن انتهاك الشرف والعِرض؟ أم عن الثأر للدم؟ لا أراك ستصدق وتتساءل من هذا ومن أي عالم أتى عندما تسمع أنه يكتب بقلبه الكبير وابتسامته الهادئة وملامحه العجيبة الثابتة عن السلام والأمان، عن الحب والسعادة.. عن العفو والتسامح.. يكتب لهذا العالم المُلطخ بدماء الأبرياء سُبل نجاته وطريق حياته، يشفق عليه و يريد أن يخرجه من ظلمات الظلم إلى نور العدل، يكتب من أجل الحرية لمن يحاصروه، يكتب ليرتقي بالعالم البشري من مرتبة السباع والبهائم إلى مرتبة الإنسان حيث الروح والبدن.. الضمير والعقل.. الثقافة والحضارة..

إنه علي عزت بيجوفيتش ياسادة رئيس البوسنة والهرسك في أحلك أيام تاريخها وأقساها يكتب كتابه العجيب والمذهل والمزلزل “الإسلام بين الشرق والغرب” .. الكتاب الذي هز أركان العالم الحديث وصدعها.. الفكرية منها والمادية.. الثقافية والحضارية.. الذي أعجز قادته ومفكريه.. فلاسفته وعلمائه.. قساوسته ورهبانه.. كما أعجزهم بصموده وثباته.

علي عزت بيجوفيتش

دفاع “بيجوفيتش” عن الإسلام في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”

ها هو يَخُط آخر كلمات كتابه قائلاً “فلكي نُدْرِكَ حقيقة وجودنا في هذا العالم يَعْني أن نَسْتَسْلِمَ لله.. وأن نَتَنَفَّسَ السلام.. وألا يحملنا الوهم على تبديد جهودنا في الإحاطة بكلِّ شيء والتغلُّبِ عليه، علينا أن نَتَقَبَّلَ المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا.. فالزمان والمكان قَدَرُ الله وإرادته، والتسليمُ لله هو الطريقُ الوحيد للخروجِ من ظروف الحياة المأساوية التي لا حلَّ لها ولا معنى.. إنه طريق للخروج بدون تَمَرُّدٍ ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار، إنه شعور بطولي (ولا أقول: شعور بطل) بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه وتَقَبَّلَ قَدَرَه.

إنَّ الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها.. وإنما من شيء يشمل هذا كله ويَسْمُو عليه.. من لَحْظةٍ فارقةٍ تنقدحُ فيها شرارةُ وعْي باطني.. مِن قوة النفس في مواجهة مِحَنِ الزمان\.. من التهيُّؤ لاحتمال كلِّ ما يأتي به الوجود .. من حقيقة التسليم لله.. إنه استسلام لله.. والاسم إسلام !”

وما إن وضع قلمه وطوى صحيفته حتى لمعت عيناه اليمنى بذلك الشعاع الذي انبثق من النفق ليبدد جزءاً من الظلام، ويفك ثلمة من الحصار إيذاناً ببعض حياة قد تكون قادمة من الناحية الأخرى من النفق، أو.. أو لربما العكس.. بل لكم أن تتخيلوا أنه العكس يا حضرات.. نعم انفتح النفق على الجانب الآخر لتخرج الحياة؛ وأيضاً النور من تلك البقعة مظلمة الضوء المضاءة بنور البصيرة واليقين إلى الناحية الأخرى ذات الأضواء الصاخبة المظلمة بظلام الجهل والبطش والظلم، لمعت عيناه وابتسم ابتسامته بنفس ملامحه المتسامحة، ليس من أجل ذلك الطفل ذو الخمسة سنوات الذي لا يعلم رائحة أمه ولا صوت أبيه ولا شكل أخيه لأنه محبوس في الجانب الآخر منذ كان عمره سنتين عسى إن يعود ليبحث عنهم.. ولكن مهلاً فهو لا يعرفهم.. لا تقلق فعلى كل حال لن يجدهم فهم تحت التراب!

وأخته التي ولدت بعد أن فرق الحصار بينهم، ربما أخذها أحدهم عندما كان يمشي فسمع بكاءها وهي رضيعة وسط أشلائهم، ولا من أجل ابنة الثلاثة عشر عاماً ذات الضفيرتين التي تحتضن في ذهول دميتها الوحيدة الباقية لها بعد أن فقدت كل العالم أمام عينيها، حتى غشاء براءتها التي مازالت في عمرها هذا لم تعرف عنه شيئاً..

نعم ابتسم بيجوفيتش، ولكن لأنه سيأخذ أوراقه ويقدمها للعالم كوردة حمراء اكتسبت حُمرتها من حُمرة الدم الطاهر، ابتسم لأنه سيعبر النفق ويبث النور في عقول ظالميه، لعله يكون سبباً في عودة الروح الطيبة إلى جسدهم الخبيث، حملوه وهو ممسك بأوراقه عبر النفق لأن أرضية النفق الذي بالكاد يتعدى المتر الواحد بقليل مليئة بمياه الصرف وهو لا يريد أن يُؤذي العالم العفن التي فاحت رائحته النتنة بأي رائحة غير طيبة قد تأتي نتيجة تعلق بعض فضلات البشر المحاصرين الذين ربما لا يأكلون منذ سنين في حذائه.. إنه الإسلام الذي كتب عنه بيجوفيتش يا سادتي.

              نفق الحياة سراييفو

حياة “علي عزت بيجوفيتش”

علي عزت بيجوفيتش من سراييفو، يوغسلافيا، جاء من الصقالبة الجنوبيين الذين اعتنقوا الإسلام منذ أكثر من خمسمائة عام، مفكر إسلامي من طراز فريد، عالم وفيلسوف، أديب وفنان، سياسي ومناضل، نشأ في قلب نظام شيوعي مستبد ولكنه لم يستسلم له؛ بل ظل معتزاً بإسلامه مناضلاً صلباً لا ينحني، وقف على قمة فروع المعرفة والثقافة فكشفت عن أستاذيته، ولكنها أستاذية المسلم التي تمثل كل ما أنجزته حضارة الغرب وربطها ربط وثيق بالهدي السماوي.

حكم عليه عام 1949م في عهد ‘جوزيف تيتو’ بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة بتهمة علاقته بجمعية “الشبان المسلمين” في البوسنة.

كان “بيجوفيتش” يدرك المخاطر المُحدقة بالأجيال الجديدة من الشباب المسلمين، ويخشى أن يفقدوا هويتهم الإسلامية، وقد حُرِموا من أي تعليم إسلامي حتى في بيوتهم، وأصبحوا محاصرين بين ثلاثة خيارات فكرية إما الإلحاد الرسمي أو الأرثوذكسية الصربية أو الكاثوليكية الكرواتية، فألف مؤلفه “الإعلان الإسلامي” ليوفر لهم أدوات ومفاهيم واضحة بسيطة وعملية لفهم الإسلام بأسلوب عصري يتناسب مع المادية القحة التي نشأوا فيها، ثم عكف على بحث وتأليف كتابه الموسوعة “الإسلام بين الشرق والغرب” في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات وكان الهدف منه كما ذكر “محاولة ترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل الجديد ويفهمها”.

وعندما أوشك على الانتهاء حكم عليه في أوائل الثمانينات بالسجن أربعة عشر عاماً، وذلك لقمع أي فكر إسلامي والقضاء على أصحابة، فلم يتمكن من نشره ولكن استطاع صديق له وهو “حسن قَرشِي” أن يُهَّرب أصول الكتاب إلى كندا في نفس العام وترجم إلى الإنجليزية ونشر بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1984م، فكما إن الكتاب ليس عادياً ولا ظروف تأليفه و ترجمته للإنجليزية ونشره كانت عادية كانت أيضاً ظروف ترجمته للعربية غير عادية، حيث كان عام 1994م عندما كان يمر صاحبه بتجربة مريرة ذاق خلالها محنة الغرب وخذلان الشرق كأنه كان يتنبأ بعنوان كتابه بما سيلاقيه الإسلام بين الشرق والغرب، حين تفككت يوغسلافيا فاستقلت سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا عام 1991م وبرزت صربيا كدولة قومية عنصرية لها أهداف توسعية قائمة على التطهير العرقي وكان على شعب البوسنة والهرسك أن يختار بين الانضمام إلى الصرب أو الكروات الخصمين اللدودين الذين جتمعوا وتآلفوا على الإسلام والمسلمين، وعلى حد قول البعض “كان الاختيار بين الصرب والكروات كالاختيار بين سرطان الدم أو سرطان الدماغ”، ولذلك أنشأ علي عزت وأصحابه حزب العمل الديموقراطي، وخاض الانتخابات فأصبح رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك، واختار الشعب الاستقلال على غرار ما فعلت باقي دول الاتحاد عام 1992م.

كان بيجوفيتش يحلم بعهد جديد من تزاوج الشرق والغرب، ولكن سرعان ما تكشف الحلم الجميل عن كابوس مخيف من أناس مازالوا يعيشون خارج دائرة الزمان وكأنهم شياطين هبطت على الأرض لم تسمع عن الرحمة أو القانون أو الإنسانية أو حتى الحيوانية، إن هذه المحنة الشعواء قد أكملت السقوط لكل ما كان على ظهر الأرض من زيف وأوهام، فكما سقطت الماركسية المادية وكان لسقوطها دوي ودهشة، فكذلك سقطت على أرض البوسنة والهرسك بقية المعبودات الغربية من دعاوى حقوق الإنسان والأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأصبح الرجل الغربي يعيش عرياناً في العراء بعد أن تطايرت في الهواء جميع مقدساته الرأسمالية.

(“فنحن أمام طراز من القادة العظام.. لا يضع سلاحه أمام الجبروت.. ولا ينحني أمام التهديد.. رجل عنيد صعب لا يتراجع ولا يضعف ولا يتردد ولا يهادن ولا يداهن.. رغم أن الموت يحاصره والصواريخ تتساقط عليه والقنابل تتفجر حوله” -د.مصطفى محمود || كتاب: الإسلام في خندق-).

فيديو مقال الطريق من سراييفو ج(1)

أضف تعليقك هنا