عبقرية الفن

فنون التراث الإنساني

أشار “شارل بودلير”،  الشاعر الفرنسي، أن هناك اعتقاد راسخ لدي الكثيرين بأن الشعر يهدف إلى تعليم شيء ما، وأنه يرمي أحياناً إلى تقوية العواطف. وأحياناً أخرى إلى رفع مستوى الأخلاق، وأحياناً أخرى إلى إثبات شيء مفيد. لكننا إذا نظرنا إلى أعماق نفوسنا نظرة فاحصة، وسألنا أرواحنا، وتذكرنا ذكرياتها، لوجدنا أنه لا يهدف إلا إلى إثبات وجوده! ودعني أتساءل حيال ما طرحه “بودلير”: فهل من الممكن أن يكون فناً مثل فن الشعر، في حد ذاته، هو كل ما سبق؟

وعلي سبيل التوضيح؛ في مراحل التعليم الأساسية والثانوية، علمنا أن تصويرات الشاعر مستوحاة بالكامل من البيئة المحيطة به وتنشئته الاجتماعية. فهل من الصدفة ان تُعرف ألمانيا اليوم بدولة الماكينات؛ في حين نجد، وعلى سبيل المثال، أن يكون وصف الشاعر الألماني “فريدريش شيلر” العبقري لثالوث “اللذة والألم والرغبة “، في القرن الثامن عشر أن: .. ” آلـة ” العالم تتقوى بالجوع والحب..؟! وهو ما يدفعني للتساؤل حيال أمور عديدة تدور حول فنون أخرى في التراث الإنساني.

فهل من المصادفة أن يكون القول المأثور أن المصري ” متدين بطبعه “، والتي لا تحتاج إلى إثبات أكثر من أن بلادهم بها أعظم الهياكل الجنائزية الحجرية عظمة من حيث التشييد وتخليد الذكرى. وتجد أحد الأقوال المأثورة، التي أشار إليها الجغرافي المصري “جمال حمدان”، أن : “.. المصريين كان هدفهم الدين، لا العمارة .. وأن عمارة الحجر المنحوت التي هي فنٌ مصري الأصل إلى درجة كبيرة، وجغرافي الطبيعة إلى حد بعيد..”

وهل من المصادفة أن أعظم ” مرافعات ” التاريخ محاورة ” الدفاع “، والتي كتبها أفلاطون في ” الجمهورية ” على لسان أستاذه سقراط، وروى كيفية تفنيده لادعاءات ثلاثة في عريضة اتهام قدمها ضده شاعر مأساة، وخطيب سوفسطائي، وسياسي مغمور؛ قبل أن يُحكَم عليه بابتلاع عشبة سامة ويموت في صمت.  وفي الوقت ذاته تدرك أن “الجمهورية ” ليست إلا ” رواية “، تقص المحاورات الجدلية بين سقراط ومختلف طوائف وطبقات وعقليات اليونانيين القديمة.

وهل من المصادفة أن تكون خشبة المسرح، التي لطالما عشقها الإغريق في القرن السادس قبل ميلاد السيد المسيح، والتي كانت منصات للمناقشة والجدال واستثارة العقل وانعكاساً لتفاعلات المجتمع الإغريقي؛ وبعد خمسة عشر قرناً من الزمان تكون أيضاً ذات الوسيلة التي رسّخت مفاهيم الإصلاح الديني والبراجماتية “الواقعية” والنفعية وغيرها، مما تحمله سياقات وأمثولات أشعار “هوميروس” وفلسفة الإغريق، في شمال أوروبا في القرن السابع عشر بعد الميلاد وما تلاه. وحتى أحد البدائيين على أحد ضفاف الأنهار قديماً، والذي كان يمضي معظم الفصل من فصول العام في قطع قاربه ونحته وتلوينه على النمط المطلوب للشعائر السنوية في قطع رؤوس الأعداء، يقوم بعدة مناشط ثقافية في وقت واحد تشمل الفن والدين كما تشمل الحرب البرمائية – كما أشار “توماس إليوت”، الشاعر والمسرحي الإنجليزي، في ملاحظاته نحو تعريف الثقافة.

تفاعل المشاعر والسلوك

يدرك الجميع جيداً، وباختلاف تصوراتهم؛ أن معرفة الألم، والوعي بالرغبة والفناء، هي مكونات للخبرة البشرية لا مفر. كما أشارت عالمة الميثولوجية الأمريكية ” كارين آرمسترونج “. وتماماً كما أكد “غوستاف لوبون” الطبيب والفيلسوف الفرنسي أن: تفاعل “اللذة والألم” مع النفس الإنسانية يولد “الرغبة”؛ الرغبة في بلوغ اللذة، والرغبة في تجنب الألم. وبما أن العقل يتطور لكن المشاعر لا تتبدل بتاتاً، فبالتالي تكون الرغبة هي الدافع الرئيس لإرادتنا، وبالتالي أفعالنا. فالرغبة أم كل جهد، ومعلمة الرجال العظماء، وخالقة كل المثل العليا.

وأنه وحتى عالم الأفكار الأفلاطوني الذي قدر امتلاكها الجمال الصافي الذي كان يحلم به؛ واحتواءه النماذج الخالدة للأشياء: فإنه لن يروقنا في الحقيقة إذا لم تكن الرغبة لتبث الحياة فيه. ولهذا فقد كان “آرثر شوبنهور” الفيلسوف الألماني، المتشائم دوماً، مخطئاً عندما أكد أن:- “.. بوسع المرء أن يحصر كل المبادئ التي تحرك الإنسان في ثلاثة هي:- الأنانية والشر والمنفعة ..”

وإذا كان أفلاطون ذاته قد قلل من شأن فن مثل “الفن التصويري” داخل مدينته الفاضلة، وإذا كان رأي “بليز باسكال”، الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي العظيم والذي يعبر عنه بقوله: “.. ياللغرور فن التصوير الذي يجتذب الإعجاب وهو يقلد الأشياء التي نشعر بالإعجاب نحو أصولها الطبيعية ! ..”. فالرد يكمن في قول الرسام الفرنسي “چان شاردان” الملقب بمصور الحقيقة: أي منكم قال إننا نصور الألوان؟ إننا نستخدم الألوان ونصور “العواطف”..

وبالنظر من زاوية أخرى تعبر باختصار عن المعرفة بوصفها .. تشكل عنصراً أساساً في الحضارة، والفاعل الكبير في نجاحاتها المادية .. ، نجدها وببساطة تمثل “.. تحصيلاً واعياً تبنيه طرائق عقلية، مثل التجربة والملاحظة ..”. وبالتالي فإن كل ما علمناه وأدركناه اليوم عن ذواتنا وعن الكون لا يمكن أن يكون سوى وحدة واحدة متماسكة من العلوم – لا مقسمة مستقلة بذاتها عن بعضها البعض – نشأت في ظروف تاريخية معينة، نتيجة لتجربة الإنسان الراغبة في تحسين أوضاع معيشته، فتطورت عبر السنين وتشابكت فيما بينها لتعزز إحداها الأخرى، وصارعت من أجل البقاء، حتى وصلتنا إلى ماهي عليه اليوم.

الثقافة والفن

إذا كانت أبسط زاوية للرؤية؛ وهي كون الثقافة في اللغة الإنجليزية Culture مصطلح خاص بالمزارع الخاصة بالكائنات المجهرية وتتعلق في المقام الأول بعلم البيولوجية، ولهذا ترتبط أيضاً بمصطلح Agriculture والتي تعني الزراعة؛ أما في اللغة العربية فـ”الثقافة” تعني تثقيف الرمح أي تسويته. فهل يصح وصف ” التثقيف ” بأنه ليس إلا عملية ترسيبية لشبكة المفاهيم التي تصلح كنقاط ارتكاز رؤية التجمعات البشرية بتفاوت أحجامها واختلاف أنواعها؟

وإذا صح الوصف فما دور “الفن”..؟ وماذا كان يقصد “إليوت” حين قال أن الفن نقطة جذب رئيسة في الثقافة ..؟ وكيف تؤثر وظيفته التي تتمثل، دوماً، في الكشف عن العلاقة بين الإنسان وبيئته. أو كما قال أحد الأدباء الألمان أن العمل الفني ركن من أركان الخليقة ينظر إليه بمزاج الفنان..؟

على العموم، ووفقاً لرأي “چان برتليمي”؛ فإن الكشف عن سر ” الموسيقى ” يعني التوصل إلى سر الفنون الأخرى .. لكن يقال لنا أن من السهل أن نكشف عن سر الموسيقى باعتبارها فناً يهز المشاعر بقوة، ولأنها اللغة المثلى للعواطف، ولأن هدفها ترجمة المشاعر وتحركات القلب وحالات النفس. فالموسيقى أشد الفنون تأثيراً في النفس وأشدها تمرداً على التحليل؛ فهي في جوهرها لا تدين بشيء لعالم الملموسات، ولا لعالم اللغة. ولهذا يجري تشبيهها – كما رأينا – بهذا الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه في الشعر وفن التصوير، باعتبار أن تناسق الألفاظ وتناسق الألوان والخطوط يمتان بالقرابة لتناسق النغمات.

وكما قال مايكل أنجلو الرسام والنحات الإيطالي العظيم أنه من الضروري أن يكون لفن التصوير السليم موسيقى وميلوديا. وذكّرنا الرسام الفرنسي وأحد رواد المدرسة الرومانسية “أوچين ديلاكروا” بـالجزء الموسيقي في اللوحة. وأن الشِعر من جانبه يمس الموسيقى كما يقول “شارل بودلير”. وأن فن البناء يخضع لنفس الجاذبية الموسيقية من خلال التمييز الواضح من جانب “بول فاليري”، الشاعر والكاتب الفرنسي، بين تلك الآثار المبنية التي تتكلم، وتلك التي تغني. وباختصار كما قال “إليوت” أنه لو نظرنا للثقافة نظرة جادة لرأينا أن الشعوب لا تحتاج فقط إلى طعام يكفيها – مع أن هذا يبدو أكثر مما نستطيع أن نوفره – بل تحتاج أيضاً إلى طريقة خاصة مناسبة لطهوه..!

إلى أي مسخ تحولنا؟!

إذا كانت كل قصيدة أو بيت، وكل فصل أو كلمة، وكل لوحة زيتية أو خط مائل على قطعة من الخشب أو القماش، مجرد “رغبة” في التعبير عن فكرة أو شعور؛ أصبحت بعد اكتمالها، انعكاساً لرؤية الإنسان لذاته، ثم رؤيته لما هو عليه بالفعل، أو ما ينبغي أن يكون عليه، حال العالم من حوله. فهل أدركت الآن ياعزيزي إلى أي “مسخ” تحولنا؟

————

المصادر
*آرنست غومبرتش.. قصة الفن.
*برتراند راسل.. تاريخ الفلسفة الغربية.
*توماس إليوت.. ملاحظات نحو تعريف الثقافة.
*حسين مؤنس.. الحضارة.
*چان برتميلي.. بحث في علم الجمال.
*جمال حمدان.. شخصية مصر.
*غوستاف لوبون.. الآراء والمعتقدات.

فيديو مقال عبقرية الفن

أضف تعليقك هنا