لمحة تاريخية في علم النسب عند العرب

يعود اهتمام العرب بنسبهم لأزمنة قديمة تصل لأبعد من جاهليتهم، والسبب في ذلك يعود لحياة الترحال التي عاشتها القبائل العربية متنقلة من منطقة لأخرى إما بحثاً عن الكلأ والماء أو نتيجة إزاحتها عن نطاق ترحالها من قبائل أقوى، فتمسكت كل قبيلة بنسبها وحافظت عليه، وكانت رابطة النسب عندهم أبوية (رابطة الدم الأبوي).

فالتنقل والترحال الدائم وعدم وجود دولة تمتلك مؤسسات إدارية تربط بها رعاياها، وحالة الحرب والتناحر والأخذ بالثأر، كل ذلك كرس الاهتمام بالنسب، حتى أبناء الحاضرات في الجزيرة العربية مثل مكة والطائف ويثرب حفظوا أنسابهم واهتموا بها، والعرب لم يدونوا أنسابهم في الجاهلية بل تناقلوها شفاهاً وتواتراً، ولم يظهر التدوين إلا في العصور اللاحقة (الأموي والعباسي).

معنى النسب في اللغة

النسب لغة هو نسب القرابات والنسب هو القرابة وقيل هو في الآباء خاصةً، وقيل النسبة مصدر الانتساب، والنسب يكون للآباء (كالبكري والحميري …) وإلى البلاد (كالمصري والشامي …) وفي الصناعة (كالنجار والحداد …)، وانتسب الرجل واستنسب لمّا يذكر نسبه، والنسّاب هو العالم بالنسب وجمعه نسابون وهو النسابة، وعلم النسب هو العلم الذي يهتم بأنساب القبائل والعشائر والعائلات، ومصطلحه اللاتيني ((جينيالوجيا)).

وقد ظهر في العرب نسابون أفذاذ لم يكتفوا بحفظ نسب قبيلتهم فقط بل تعدوه لحفظ نسب كافة القبائل العربية، فالخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان من كبار النسابين في عصره، وكذلك كان دغفل الشيباني من بكر بن وائل والذي ضُرب به المثل فقيل (أنسب من دغفل).

موقف الإسلام من علم النسب

وجاء اهتمام الإسلام بالنسب كاهتمامه بأخلاق العرب وعاداتهم في الجاهلية، فكما شذب أخلاق وعادات الجاهلية العربية ووجهها الوجهة الصحيحة كذلك فعل بالنسب.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كما يروي ابن عباس كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: كذب النسابون، ونلاحظ أن بعض النسابين في تراثنا العربي قد وصلوا نسبهم بآدم عليه السلام، وكان اعتمادهم في ذلك على ما ورد من أسماء في التوراة، والناظر في تلك السلسلة يرى عدم صحتها، فعدد الآباء ما بين إسماعيل وآدم عليهما السلام لا يمكن حصره بالعدد المذكور في تلك السلسلة.

علم النسب خلال العصر الراشدي

وقد زاد اهتمام العرب بالنسب خلال العصر الراشدي بسبب الحاجة لتنظيم شؤون الدولة وبالأخص إدارة الفتوحات التي نتج عنها استشهاد الكثير من أبناء العرب مما استدعى الحاجة لمعرفة انسابهم القريبة لتوزيع الميراث، أضف لذلك غنائم الحرب وفرض أعطيات (رواتب) للجند، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتدوين أنساب العرب لهذه الغاية، فجمع ثلاثة من كبار النسابين هم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وطلب منهم أن يبدأوا بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب وهكذا.

وحدة النسب بين العرب في الشام والعراق والجزيرة العربية

والفتوحات دفعت بالعرب خارج جزيرتهم فواجهوا عرب الشام والعراق باديهم كقضاعة وكلب وتنوخ وأياد وتغلب وغسان، وحاضرهم كالأنباط والسريان والآراميين وغيرهم، إضافةً للشعوب الأخرى كالفرس والروم والترك، وعرب الجزيرة الفاتحين كثيراً ما غمزوا بنسب القبائل العربية في الشام والعراق، فأنكر بعضهم عروبة الأنباط والسريان، مما حدا بالإمام علي رضي الله عنه للقول ((نحن نبط من كوثى)) مدافعاً بذلك عن عروبة أهل الشام والعراق، ومذكراً العرب وخاصة العدنانيين بأصلهم الذي يعود لإسماعيل بن ابراهيم الخليل ومكرساً وحدة النسب بين العرب في الشام والعراق والجزيرة العربية.

النسب خلال العصر الأموي وبروز العصبية القبلية على أشدها

وخلال العصر الاموي عاد التفاخر القبلي على أشده وأكثر خطورة من الجاهلية نفسها، فتحزب العرب في حزبيين قبليين ضخمين هما القيسية واليمانية أو العدنانية والقحطانية.

تحزب العرب إلى حزبيين قبليين والصراع الذي برز بينهما

وقد برز الصراع جلياً بينهما في معركة مرج راهط التي حدثت بين مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير فوقفت كلب اليمانية مع مروان وقيس العدنانية مع ابن الزبير، وانتهت المعركة بانتصار الامويين وتثبيت دعائم حكمهم وكان لكلب اليمانية الدور الأبرز في إدارة شؤون الحكم وأُبعدت قيس عن ذلك.

واستمر الصراع بين الفريقين طيلة العصر الأموي وانقسمت قريش على نفسها متزعمة الفرق المتناحرة، وقد انتقل هذا الصراع إلى الأندلس على يد أبو خطار الكلبي اليماني والصميل بن حاتم القيسي، ورويداً رويداً أدى الصراع القبلي لسقوط خلافة الأمويين بالرغم من قوة وحنكة الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد، والذي اعتمد على القبائل القيسية لمواجهة الخطر العباسي فخذلوه غير متناسين الاضطهاد الذي لحق بهم على يد اليمانيين المقربين من بني أمية.

مصطلحات في علم النسب ظهرت في العصر الأموي

والملاحظ أن مصطلحات قيسية ويمانية أو عدنانية وقحطانية وصولاً لعرب عاربة ومستعربة لم تظهر قبل العصر الأموي، فنكاد لا نراها في الجاهلية التي حملت العديد من الصراعات القبلية كالصراع بين ربيعة والتبع اليماني وكذلك بين أسد وكنده، بل أن الصراعات الجاهلية كانت أعنف بين قبائل الشمال نفسها كصراع ربيعة في حرب البسوس بين بكر وتغلب، والشعراء الجاهليون والمخضرمون لم تظهر في قصائدهم هذه المصطلحات، بينما نجدها واضحة وجلية لدى الشعراء الأمويين كالقصيدة النونية للكميت بن زيد الأسدي.

حقيقة الجدين (عدنان وقحطان) الموجودين في علم النسب

والحقيقة أن الجدين عدنان وقحطان ربما يكونان من الاسماء التي ابتدعها النسابون المتأخرون على حد قول بعض المؤرخين وعلى رأسهم جواد علي، ولكن اسم عدنان مثبت بدليل حديث ابن عباس السابق ذكره أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف بالنسب عند عدنان ويكذّب ما وراءه، بينما هناك اتهامات وضحة للنسابين اليمانيين في ابتداعهم اسم قحطان ليقابل اسم عدنان، معتمدين في ذلك على تفسير اسم (قطن) الوارد في التوراة على أنه قحطان كما يرى مسلمة اليهود وعلى رأسهم المؤرخ عبيد بن شرية الجرهمي.

ملاحظات حول الاسمين عدنان وقحطان

والملاحظ أن اشتقاق الاسمين عدنان وقحطان لا يعبران عمن حمل اسميهما من العرب، فعدنان مشتق من عدن والتي تعني الجنان والخضرة والماء الغدق وعدن إقليم كبير في اليمن، والعدنانيون هم عرب الشمال المتصفة أرضهم بالقحط وقلة المياه، وبالمقابل اسم قحطان مشتق من القحط والتي تعني الجدب وقلة المياه، والقحطانيون مساكنهم في  اليمن المعروف بوفرة مياهه، وهم لما هاجروا من اليمن توجهوا نحو المناطق التي تتوفر فيها المياه وتكون صالحة للزراعة.

فالأوس والخزرج سكنوا يثرب لوفرة مياهها، والغساسنة وصلوا لجنوب الشام طلباً للماء والزراعة، ويقال أن غسان اسم ماء سكنوا إليه وليس اسم جدهم، فهل العرب أطلقت الاسمين (عدنان وقحطان) لتعبر عن المعنى العكسي لكل منهما كما جرت العادة في ذلك، فالأعمى يسمى عندهم أبو بصير والحبشي الأسود أبو البيضاء وهكذا…

ولربما يكون عدنان وقحطان أخوين تناسلا وظهر من نسلهما العرب، وقد يكونان من الجدود المتأخرين لدى العرب وطغى اسميهما على الجدود الأعلى منهما، وهذا يحدث كثيراً في القبائل العربية، كأن تتسمى القبيلة باسم جد قريب يطغى على اسم الجد الأبعد، كطغيان اسم قيس على القبائل المضرية في العصر الأموي، واسم عنزة على أغلب قبائل ربيعة في العصر الحديث.

طبيعة عرب الشمال وعرب الجنوب

والواقع أن عرب الجنوب (اليمانيين أو القحطانيين) في عمومهم أهل حاضرة وزراعة وأنشأوا العديد من الممالك وانضووا تحت حكم ملوكهم.

بينما عرب الشمال في عمومهم أهل بادية وحرب وشدة، وقد عرفوا بنزعتهم للحرية وعدم خضوعهم للحكام، وهذا ما رأيناه لما انتفضت ربيعة ضد التبع اليماني وقتلوه على يد كليب، وكذلك ثورة أسد ضد كنده وقتلهم للملك حجر آكل المرار والد امرؤ القيس، وحتى كليب وهو من عرب الشمال لما حاول تأسيس دولة تحكم قلب الجزيرة العربية لم ينصاع قومه بكر وتغلب لحكمه، بل نازعوه حتى قُتل على يد ابن عمه جساس وانتقضت دولته الفتية، ونشبت على إثرها حرب البسوس.

وهذه النزعة لدى العدنانيين استمرت في العصور اللاحقة، فأغلب الثورات في العصرين الأموي والعباسي كانت على يد القبائل العدنانية مضر وربيعة.

العصر العباسي وتراجع حدة العصبية القبلية والتفاخر القبلي بين العرب

وخلال العصر العباسي خفت حدة العصبية والتفاخر القبلي بين العرب نتيجة إقصاء العرب عن الحكم والاعتماد على الفرس والترك والديلم، فتسلط الفرس أولاً فالترك ثانياً على مقاليد الحكم، وقد تطور دورهم في ذلك حتى  تمكنوا من إقالة الخليفة بل قتله إن لزم الأمر، ونتج عن ذلك ظهور الشعوبية التي ناصبت العداء لكل ما هو عربي وبتشجيع من الحكام غير العرب، مما دفع بالعرب لنسيان التفاخر القبلي فيما بينهم والتوجه نحو خطر الشعوبية.

وقد أدى استقرار القبائل العربية في المدن وانقراض الجيل الأول القريب عهداً بالبداوة ثم الجيل الثاني فالثالث إلى اضمحلال القبيلة والتعصب القبلي، أضف لذلك تزاوج أبناء القبائل العربية مع أبناء الشعوب الأخرى وخاصةً خارج المنطقة العربية كخراسان والسند وبخارى وغيرها، وكثرة اتخاذ الجواري والاماء والاعتراف بنسب ابناءهن، مما أدى لاختلاط الدماء العربية بغيرها من الدماء الأخرى.

ماتميز به العصر العباسي

وقد تميز عصر الخلفاء العباسيين بكثرة الثورات العربية ضدهم بسبب سياستهم في إقصاء العرب عن الحياة السياسية، وقد مثلت تلك الثورات قبائل عربية عريقة كثورة الوليد بن طريف الشيباني والتي جوبهت بأبناء ربيعة نفسها، حيث قضى عليه ابن عمه يزيد بن مزيد الشيباني، وثورة نصر بن شبث العقيلي الذي أطلق عبارته المشهورة ((إنما هواي في بني العباس وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم)).

الخلفاء العباسيين والنسب العربي

والخلفاء العباسيون المتأخرون لم يهتموا بنسبهم العربي بقدر اهتمامهم بارتباطاتهم مع المجموعات السياسية المتمكنة في الدولة كالبويهيين الفرس والسلاجقة الأتراك وذلك للاستمرار في الحكم، وقد أدى ذلك لانكفاء العرب عن مناصرة العباسيين مما أدى لسقوط دولتهم على يد المغول الذين شكلوا أول غزو خارجي للدولة الإسلامية منذ نشوءها بالفتوحات الراشدية والأموية.

النسب العربي بعد العصر العباسي

وقد وجه الغزو المغولي ضربة قاصمة للنسب العربي في العراق خصوصاً والمنطقة العربية عموماً، فالمغول دمروا بغداد اجتماعياً وثقافياً، مما أدى لضياع الكثير من كتب الأنساب، وأمام هذا الخطر الداهم وجد العرب أنفسهم أكثر فأكثر خارج نطاق التاريخ السياسي للمنطقة.

فالمماليك لم يولوا اهتماماً كبيراً بالأنساب لأنهم كانوا في غالبيتهم لا يعرفون أصولهم، فانتسبوا لأنفسهم وتكتلوا ضد العرب.

والأمر لم يختلف كثيرا في العهد العثماني، إلا أن العهد العثماني حمل في طياته تشكيلات قبلية عربية جديدة أو مسميات قبلية جديدة تختلف عن القديمة وإن كانت منبثقة عنها.

فالصراعات والحروب والغزو الخارجي دفع بالكثير من القبائل العربية لإعادة تشكيل نفسها، فتجمعت بعض القبائل التي تنتمي لجدٍ واحد في قبيلة واحدة، أو تجمعت عدة قبائل عربية مختلفة الانتماءات في حلف قبلي جديد فحملت اسمه وصارت تعرف به، ومن القبائل التي ظهرت على الساحة العربية في القرون الأخيرة قبيلة عنزة العدنانية والتي انضوى تحت مسماها أغلب قبائل ربيعة وخاصة بكر بن وائل، وقبيلة شمر القحطانية التي احتوت الكثير من قبائل طي.

المصادر:

  •  ابن منظور –  لسان العرب – دار صادر بيروت.
  • ابن عبد ربه – العقد الفريد – تحقيق الدكتور عبد المجيد الترحيني – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى – 1983.
  • ابن سعد – كتاب الطبقات الكبير– تحقيق د علي محمد عمر – الناشر مكتبة الخانجي – القاهرة – الطبعة الأولى – 2001
  • أحمد داوود – تاريخ سوريا القديم – دار الصفدي – الطبعة الثالثة – 2003.
  • ابن الاثير – الكامل في التاريخ– تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي – الطبعة الأولى – دار الكتب العلمية – بيروت – 1987
  • ابن كثير – البداية والنهاية – تحقيق مجموعة من العلماء – الطبعة الثانية – دار ابن كثير – دمشق – 2010.
  • جواد علي – المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – الطبعة الثانية – منشورات جامعة بغداد – 1993.
  • شوقي ضيف – تاريخ الأدب العربي – العصر العباسي الأول – الطبعة الثامنة – دار المعارف – مصر.
  • الذهبي – سير أعلام النبلاء – تحقيق شعيب الارناؤوط وكامل الخراط – الطبعة الأولى – مؤسسة الرسالة – بيروت.

فيديو مقال لمحة تاريخية في علم النسب عند العرب

أضف تعليقك هنا