الأنشودة والبيضة المحمرة..!

*تساؤل على الهامش..

إن تعريفي لـ”إنسان” أو لـ”حيوان” يمكنه أن يكون سهلاً، لأنه في المجمل من لحم ودم يمكن للحواس الخمسة التعرف عليهما، ويمكن للعقل دراسته من خلال انعكاس تصرفاته، وحتى وإن كان “جماد”، يمكن أن أتسفسط، وأدعي أنه مجموعة من الذرات المستقلة، أو أنه طاقة شديدة التكثف.

لكن كيف لي أن أعرف عن المدنية..؟ فالمدنية ليست ملموسة ولكنها في ذات الوقت حولنا في كل مكان؛ بل هي ما نحياه، ونحيا داخله.

هل هي أو كما أشار “ابن منظور” أنها الانتقال من حياة البداوة لحياة التحضر أي سكن المدن، أم كما أشار إليها “ابن خلدون” في مقدمته أنها العمران، ثم التفنن في الترف..؟ أم هي داخل مقولة الشاعر الأثيني “فوسيليدس” التي يتردد صداها عبر القرون والأجيال، حين وجه نقد للإمبراطورية الآشورية، قائلاً: “إن دويلة صغيرة تمارس حياتها بشكل اعتيادي من موقع رفيع المستوى أعظم من “نينوى” -عاصمة الآشوريين- الخرقاء.” ..؟ أو هي التي وضعها “كلايڤ بِلْ”، أحد الفنانين الإنجليز، في مؤلف صغير، قد لا يتعدى المائتي صفحة عنونهّ ب”المدنيّة، Civilization”، بعد أن عرّف عن “الفن” -أحد مُحفّزات المدنيّة- في ستين ألف كلمة..؟

وإذا كان السائد أنها الأخيرة، تلك المنتمية إلى “كلايڤ بِلْ”، فهل ما دفع “بِلْ”، وغيره من المفكرين أيضاً، إلى اقتفاء أثر نماذج كماله الثلاثة، رغم علمه بوجود مدنيات أقدم وأعرق في الشرق، هو وقوع الثلاثة المختارين داخل نطاقه الثقافي والحضاري المباشر ، أم أنه، وكما أشار الفيلسوف وعالم الاقتصاد “إمارتيا سن”: فإن القيود عادة ما تكون صارمة في تحديد مدة قدرتنا على إقناع الآخرين بأن ينظروا إلينا نظرة مختلفة عن ما يصرون على أنه صورتنا..؟ فاكتفي في نماذجه؛ بأثينا “العصر الأيوني” ـ على وجه الدقة ـ كما قال في القرن السادس قبل مولد السيد المسيح، وإيطاليا القرنين الخامس والسادس عشر، وفرنسا من نهاية تمرد إلفروند 1653 م حتى عصر الكاتب واندلاع الثورة ١٧٨٩م. وإن كان اختياره لتلك المدنيات يمكن أن نَرُدّه إلى أنهم داخل نطاقه الثقافي، حيث يمكن اعتبار العبارة التي وصف بها “فرانسيس فوكوياما” التاريخ بأنه: عملية مفردة متلاحمة وتطورية، وليس سلسلة من الأحداث؛ أقول أنه وصفاً عبقرياً لتطور عدة حضارات بالغة الضخامة، كما أشار “صمويل هنتنجتون”.

وصولاً إلي النتيجة التي أشار إليها، والتي مؤداها أن: “الإحساس بالقيم” و”تحكيم العقل” هما الصفتان الأساسيتان للمدنية الرفيعة؛ فالأول، وكما يفهمه الرجل، لا يكون إلا عند أولئك الذين يستطيعون أن يضحوا بالخير الواضح العاجل في سبيل الخير الخفي الآجل، والثاني، حين تكون السيادة ـ بين كل أفراد المجتمع ـ للعقل، فإذا شاع الرأي بين كل أمر يتطلب تفسير وتبرير من العقل، ولا بد من نهاية تسمح بهذا التفسير، وإلى جانب هاتين الصفتين يضيف  “بِلْ” صفة مُحفزة “تقدير الفن”.

*معّطيات أولية..

لكيما أبتعد عن الإغراق في التعريف؛ سأضع ثلاث نقاط أساس:

  • الأولى: وانطلاقاً من حقيقة أن حوض البحر المتوسط حوضٌ تطوّقه الجبال مما يجعله طارد للسكان إلى البحر ـ إذا استثنينا جنوب فرنسا وشرق أسبانيا، والشمال الإفريقي ـ وأنه ومع مرور الوقت، تم اسيتطان بعض الجيوب الساحلية الصغيرة الممزقة والمنعزلة في هيئة دويلات/ مدن.
  • الثانية: أن الصفتان اليونانيتان، اللتان كانتا تميزا الحياة والفكر والفن الإغريقي، اللتان تترجمان لـ “التعقل الحلو” و”الجد الملائم”، وكل صبي في اليونان كان يجب أن يتعلم ذلك فيما يبدأ في تعلم المواد “الكلاسيكية”.
  • الثالثة: أن “النهضة Renaissance” و “الإستنارة Enlightenment” وغيرها من المصطلحات الشائعة في الأدبيات الغربية؛ لم تكن فترة من الزمان، بل أسلوباً من أساليب الحرية والفكر، يسير متبعاً طرق التجارة والحرب والأفكار..

وتأسيساً على النقاط السالفة سأضيف ثلاثة ملحوظات للتنويه:

  • الأولى: أن “المدنيّة” في الشرق لا تعتمد كثيراً على تلك العناصر المنفصلة السالفة، فالإحساس بالقيم وإعمال العقل وتقدير الفن أتى، منذ كان الشرق، في سياق العمران والتشييد.
  • والثانية: المرتبطة بالأولى أن الاختلاف بين الشرق والغرب ليس مجرد ألفاظ: “الحضارة” و “Civilization”، التي تترجم حرفياً لل”المدنيّة”. بل إن الاختلاف هو في طبيعة المصطلح ذاته في كل ثقافة، وإن كنت لا أحبذ التطرف في هذا الاتجاه فهناك الكثير من الأشياء المشتركة نتاج ألفيات من الحرب والتجارة وانتقال الأفكار والمعارف.
  • الثالثة: أنه وإن كان أثر “النهضة” كان إثارة الشك، إلا أن الشرقيين لم يعيشوا في أكثر العصور استنارة ولم يعرفوا المدنية إلا بعد عن يقين تام بجوهر الكون، وأقول “يقين” وليس “علم”.

*على سبيل صياغة للفكرة 

حين تعلم أن ما أنشأ عظمة مدن “أيونيا” و”أثينا” القديمة كان التجارة، وحب الإغريق للجدل والقتال؛ وأن “هوميروس” يؤكد أن براعة الرجل تكمن في قدرته على الجدال كما تكمن براعته في البلاء في ميدان القتال؛ بل وتتأكد من ذلك بمعرفة أن أحد الاقاصيص الإغريقية أن فناناً اتهم في تعذيب، واعترف بجريمته، وبعد أن كشف عن التمثال صدر قرار بالعفو عنه، رغم أن التعذيب كان جريمة بشعة في المجتمع اليوناني، إلا أن المبرر كان أنه لولا عذاب النموذج الحي لما اكتمل العمل الفني، أو بالمعنى الذي أشار إلى “بِلْ” إدراك لقيمة أبعد -حتى وإن كانت أقيّم من حياة الشاب المسكين.

وأنه أثناء حرب “البيلوبونيز” بين أثينا واسبرطة، 404 قبل ميلاد السيد المسيح، عُرضت مسرحية “لسسترا” الساخرة في أثينا، وكانت تعبير عن انتقاد الكثيرين للنموذج الديموقراطي الأثيني، وأساليبه “المكارثية” -المضطهدة لمعارضيها، فلم يكن النقاش آنذاك عن الحرب أو أخبار القوات على الجبهة، بل كان قول الناس المأثور بُعيّد عرضها: هل لسسترا أفضل كوميديا في العالم؟

ثم بعد الانتقال بضعة قرون غرباً، وحيث إيطاليا القرن الرابع والخامس عشر، نجد أن ما أطلق “للنهضة” الإيطالية كان التجارة المزدهرة، والصراع  المسلح، على السلطة والنفوذ، بين الأسر الأرستقراطية في تلك المدن الإيطالية المستقلة بعضهم البعض تارة، وبينهم وبين مملكة أصحاب اللحى الطويلة “اللومبارديين Longobordi” في الشمال تارة، وضد نفوذ الكرسي الرسولي في غرب شبه الجزيرة الإيطالية وجنوبها، وممالك الألمان والفرنسيين، والأسبان تارة أخرى.

فلن تندهش من أن الإيطاليين؛ وبسبب أنهم اعتادوا معاملة العرب واليونان واليهود والهنود والصينيين والاختلاط بهم، فقدوا حدّة عقائدهم التحكمية، ونقلوا التهاون في العقائد إلى الطبقات المتعلمة في إيطاليا، ثم كان حكم عائلة “مديتشي” استحواذاً للإنسانيين ـأي الذين انشغلوا بالعلوم الإنسانيةـ على عقل إيطاليا واستئثار به، فحولوه من الدين إلى الفلسفة، ومن السماء إلى الأرض، وكشفوا فيه، للجيل المندهش المنذهل، عن ثراء الفكر والفن “الوثني”، بل يمكنك أن نستنتج أنه مذهب “التحررية” أو “الليبرالية” Liberalism”، الذي تبلور في عصر الإستنارة في فرنسا القرن في القرن الثامن والتاسع عشر، والقائم علي “المبدأين التوءم: الحرية والمساواة”، ليس إلا أحد توابع “عصر النهضة” الإيطالي المتأثرة بديموقراطية أثينا القديمة ومجالسها الشعبية.

أما الآن، وبعد أن حققت الليبراليةـ الديموقراطية الفوز، بعد الحرب الباردة، وفرضت نفسها على أنها الشكل الطبيعي للتنظيم السياسي، والمظهر السياسي للحداثة؛ يعتبر اقتصاد السوق شكلها الاقتصادي، والعلمنة تعبيرها الثقافي، كما تنبأ “آلان تورين”، عالم الاقتصاد والفيلسوف الفرنسي، إبان انهيار جدار برلين ١٩٩١م. فقد أصبح التساؤل الأكثر إلحاحاً هو: كيف سيكون الطور القادم للديموقراطية-الليبرالية، فهل سيكون أكثر تحرراً أم سيتحول تلقائياً -لعدم وجود بديل أو مكافئ على الساحة- إلى نظام شمولي.

ولكي لا أترك التساؤل الأخير عارياً وسط صقيع الاستنتاجات، وفي محاولة يائسة، سأشير إلى تعرض “رودولف روكر”، المفكر والكاتب الألماني، لتلك المسألة حين عبّر عن مفهومه  لـ “الأناركية” كأحد المصطلحات الجديدة المطروحة للنقاش كنسخة معدلة عن الليبرالية ـ الديموقراطية، قائلاً أنها:

ليست نظاماً اجتماعياً ثابتاً ومنغلقاً على نفسه، بل هي اتجاه معين في “التطور التاريخي للإنسانية”. التي -وعلى النقيض من جميع أشكال الوصاية الفكرية المرتبطة بالمؤسسات الدينية والحكومية- تسعى جاهدةً للكشف عن جميع القوى “الفردية”، والاجتماعية في الحياة وتحريرها، وذلك برغم أن “الحرية ليست مثالاً مطلقاً، بل مجرد مفهوم نسبي يميل باستمرار إلى التمدد والتأثير في دوائر أوسع وبطرق متنوعة”.

*والخلاصة..

أنك إذا استوعبت التفاصيل الدقيقة داخل المعطيات السالفة، والارتباطات الأولية بينها، وأدركت حلقة الوصل داخل بين كلمات العبارة القائلة أن: “النهضة لم تكن فترة من الزمان، بل أسلوباً من أساليب الحرية والفكر، يسير متبعاً طرق التجارة والحرب والأفكار”، ستتجلى أمامك ماهيّة المنطق الراسخ والمهيمن على الوجدان الغربي، والذي مفاده أنه ومهما كان حجم “الفوضى” المثارة في سبيل التحررية الفردية، فإنها عادةً ما تكون “خـــلاّقة”، وليست مدمرة.

ولذلك كان ما استقرت عليه عقيدة “كلايڤ بِلْ “، كأحد الحاملين لثقافة ما من الثقافات الغربية، هو أن رجل الإسكيمو لا يمكن أن يدرك أفضلية قيمة ل”الأنشودة” المؤجلة على قيمة “البيضة المحمرة” الفورية، وهي عقيدة تستحق الإشادة -على أي حال- لمقاربتها للمنطق.

*******

المصادر:

  • ابن خلدون.. المقدمة..
  • ابن منظور.. لسان العرب..
  • برتراند راسل.. تاريخ الفلسفة الغربية..
  • توماس إليوت.. ملاحظات نحو تعريف الثقافة ..
  • دانيال جيران.. الأناركية ..
  • ريتشارد نيسبت .. جغرافية الفكر ..
  • صمويل هنتجتون .. صدام الحضارات ..
  • فرانسيس فوكوياما .. نهاية التاريخ ..
  • كلايڤ بل .. المدنيّة ..
  • ويل ديورانت .. قصة الحضارة ..

فيديو مقال الأنشودة والبيضة المحمرة..!

أضف تعليقك هنا