الضمير العجيب

إعجاز القرآن

وصلت إلى الآية 117، وعندها توقفت وبدأت أراجع السورة، أقصد سورة المؤمنون، وهي قوله تعالى: “وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ” (117)، لعلك تسأل ما الذي أوقفني-وهو لا شك أوقفك أنت ايضاً-، الذي أوقفني هو قوله:” إنه لا يفلح الكافرون” والسؤال عن ” إنه” الهاء ضمير، والضمير عادة يرجع إلى شيءٍ ما أو شخص ما، فالهاء هنا ترجع لمَن؟

علَّمونا أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فهل الهاء ترجع إلى “ربه”، مستحيل! ترجع إلى الحساب” حسابه”، لا يمكن!! ترجع إلى الكافرين، غير ممكن فالكافرون مذكورون في النص بعد الضمير!!، وعدت إلى الآيات قبلها 116، ثم 115، وهكذا حتى وصلت إلى بداية السورة دون أن أعرف عودة الضمير، ما رأيك أن تُجرِّب أنت هذا التمرين قبل إكمال المقال!. وحدث ذلك الأمر نفسه  معي في آية أخرى وهي قوله تعالى: ” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) سورة الحج.

الهاء في قوله ” فإنها”، وفي قراءة ” فإنه” ترجع إلى مَن؟ لعلك تشاركني!

ضمير الشأن

العادة في الضمائر يُذكر ثم يُضمر، لكني لم أعثر على جواب، وبفضل من الله وقعت على كلمة للمفسر القرطبي -رحمه الله- يقول عن الهاء في آية المؤمنون “الهاء ضمير الأمر والشأن”، إذن هناك ضمير يُسمى ضمير الشأن أو ضمير الأمر، وهو أن تذكر الشيء بالضمير لم يجري له ذكر في الكلام، فإن كان مذكرا سمّيَّ ضمير الشأن وإن كان مؤنثاً سمّيَّ ضمير القصة وضمير القصة هو الضمير المؤنث الذي لم يجري له ذكر سابق في الكلام، وهو نمط فريد لا يوجد إلا في الأمور المهمة جداً.

رجعت إلى الآيتين:

  • في سورة المؤمنون لاحظت أنها تتحدث عن المؤمنين وصفاتهم وما يتعلق بهم، والكافرين وسماتهم وما حلَّ بهم وما ينتظرهم من جزاء وعقاب، ومن هنا علمت أن الهاء في قوله ” إ إِنَّهُ ” تعود على كل ما ذكر من خيبة الكافرين الذين عاندوا الرسل والأنبياء ولم يؤمنوا برب الأرض والسماء فالعناد والكِبر والرفض لا يكون سبباً لفلاح الكافرين.
  • أما في سورة الحج قوله ” فَإِنَّهَا بعد مراجعة السورة أيقنت أن ما سبق ذكره في السورة من مجادلة الكفار والرد على بعض شبههم ومواقف يوم القيامة وغيره، أيقنت أن هذا إنما يُدرَك بالبصيرة لا بالبصر، فقد يكون لدى العبد أقوى بصر لكنه يفتقد البصيرة، عندها لن يستفيد مما ذَكر ولن يصل إلى المطلوب والذي موطنه القلوب.[1]

لقد أحسن علماؤنا حينما أسموه “ضمير الشأن”، فهو حقاً ذو شأن، وله قصة.فكم هو جميل أن نجمع مع قراءتنا لكتاب ربنا أن نتدبر فيه، وندرك شيئاً من معانيه ونجتهد في تحقيق مغازيه، فكنوزه مبثوثة ولمن يسعى موجودة، وصدق سبحانه القائل: ” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)”

د. جمال يوسف الهميلي

1440هـ -2018 م

[1] للاستزادة راجع كتاب “دلائل الاعجاز” لعبد القاهر الجرجاني.

فيديو مقال الضمير العجيب

أضف تعليقك هنا