الطريق من سراييفو ج(2)

بين الثقافة والحضارة

يبدأ “بيجوفيتش” مقدمة كتابة بتلك المُسَلَّمَة التي ينكرها أغلب أهل الأرض وهي أن العالم الحديث يتميز بصدام أيديولوجي، نحن جميعاً متورطون فيه شئنا أم أبينا سواء كمساهمين أو ضحايا، مع بيان فشل النظريات الحاكمة للنظام العالمي سواء في الشرق أو الغرب ويتساءل عن موقف الإسلام من هذا التصادم الهائل وما دوره في تشكيل هذا العالم الحاضر؟

ويقرر بأن هناك ثلاث نظريات أساسية عن العالم أو الوجود وهي:

1- الدينية أو الثقافة – ويقصد بها جميع الأديان أو الثقافات الموجودة الآن عدا الإسلام- والتي تصنف الإنسان بأنه كائن روحي فتهتم بجانب الروح والضمير والرقابة الذاتية مع إهمال الجانب المادي والزهد فيه بل وإنكاره بالكلية في بعض هذه الثقافات، والتي تقول للإنسان بأن عليك “وأْد رغباتك وقتل شهواتك” لتسمو روحك وترضي إلهك حتى ذهب بعضهم إلى الزهد في النظافة وترك الزواج بزعم التقرب.

2- المادية أو الحضارة والتي تصنف الإنسان على أنه كائن بيولوجي كسائر الحيوانات ولكنه برتبة أعلى فتهتم بالجانب المادي وإنكار الجانب الروحي والأخلاقي بالكلية والتي تقول للإنسان “أطلق رغبات وأخلق شهوات جديدة دائماً وأبداً” حتى اعترفوا بحرية الإنسان في فعل أشياء تعاف منها الحيوانات.

3- الإسلام والذي يتعامل مع الإنسان على أنه إنسان تتزامن فيه الروح والمادة فيهتم بسد احتياج الجانبين والرُقي بهما، ويقول للإنسان بأن عليك “ضبط وتقليل رغباتك وشهواتك” سواء كانت جسدية مادية أو روحية معنوية.

ومن تلك النقطة ينطلق “علي عزت” ليبين للعالم كله أن ثنائية الإسلام في التعامل مع الإنسان هي الصورة الأكمل والأنجح وأنها لابد وأن تكون آتية من الإله الذي خلق هذا الإنسان ويعلم تركيبته المزدوجة – “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك-14)- ، مع بيان فشل كل من النظرة الدينية القاصرة والمادية الغاشمة.

الصراع الفكري بين العالم المادي والعالم الروحي

“إن الحياة الإنسانية تكتمل فقط عندما تشمل على كل من الرغبات الحسية والأشواق الروحية للكائن البشري، وترجع كل الإخفاقات الإنسانية لإنكار الدين الاحتياجات البيولوجية للإنسان أو لإنكار المذهب المادي لتطلعات الإنسان الروحية.”

إن هذين الخطين من التفكير -الدين المجرد والمادة- بالرغم من تصادمهما المستمر عبر تاريخ الإنسانية والذي يتمثل في أن المادية التاريخية ضد الفردية المسيحية، والأخلاق ضد التطور، والمثل العليا ضد المصلحة، والحرية ضد التماثل، لا يتكشفان عن أي تقدم جوهري إلى الآن بالرغم مما وصلت إليه البشرية من تقدم مادي، ثم إن الإنسان بخبرته العملية وفطرته الداخلية اكتشف ازدواجية الحياة وثنائيتها المتلازمة الروح والجسد فمهما كان ينتمي فكرياً إلى أحد الخطين فإنه يعيش بواقعية، وبتلك الازدواجية حتى وإن كان لا يعترف نظرياً بأحد طرفيها ويظل الصراع يؤرقه داخلياً، وعلى كل حال فلكل إنسان الحق في أن يحي حياته وإن كان غير متسق مع فكره الخاص، ولذلك اضطرت الماركسية التي رفضت الأسرة والدولة والأخلاق والعدل والحرية إلى قبول جزء منهما عملياً مع رفضها نظرياً، كما اضطرت الكنيسة التي رفضت انشغال الإنسان بدنياه وتعميرها مادياً إلى الحديث عن العمل والثروة والقوة والقوانين والعدالة مع بقائهم منبوذين نظرياً.

بهذا التناقض يصدم المؤلف العالم بانفصامه وفشله في تصوره النظري عن الحياة وأيضاً حياته العملية ويخبره بأن قد أصبح من المستحيل عملياً أن يحيا الإنسان حياة واحدة سواء روحية أو مادية منذ اللحظة التي توقف فيها أن يكون نباتاً أو حيواناً، منذ لحظة أن “قالوا بلى شهدنا” عندما جمعهم خالقهم وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم الذي خلقهم.

الإسلام ما بين العالم المادي والعالم الروحي

ثم يبين بيجوفيتش تلك الثنائية في تحليله الرائع للصلاة في الإسلام قائلاً:

إن الصلاة في الحقيقة خلاصة الإسلام ككل، إنها شفرته وصيغته الكودية، ومرجع ذلك إن الصلاة تجمع بين مبدأين في إطار واحد يُعتبران حسب النظرة المسيحية والمادية متناقضين لا يلتقيان، أعني بذلك الوضوء والصلاة -الوضوء الذي يعبر عن الجانب المادي والجسدي والصلاة التي تعبر عن الجانب الروحي- هذان المبدآن يذهبان عميقاً في بنية الإسلام، إن العقلانية التي ترفض الرؤيا الجُوَّانية -الروحية-، والرؤيا الجُوَّانية التي تستبعد المدخل العقلاني ينتهكان “مبدأ التوازن في الصلاة”.

إن أي تطرف أحادي الجانب يعتبر هبوطاً إلى مستوى الوعي المسيحي أو المادي، انتهاكاً لمحور الإسلام المركزي، وإذا كان الإسلام يمثل إمكانات الإنسان الفطرية، فلابد وأن يكون له ظهوراً ما سواء على شكل ناقص أو في شذرات هنا وهناك حيثما وُجد متدينون يؤمنون ويعملون، أي حيث لاينسى المتدينون دورهم في هذا العالم.

ثم يتجه بخطابه للمسلمين خاصة وللعالم عامة قائلاً: إن عملية الإستقلال السياسي والعقائدي للدول المسلمة سوف تستمر ولن يكون الانفكاك سياسياً فحسب، وإنما ستتبعه مطالب حاسمة للتخلص من النماذج والتأثيرات الأجنبية سواء كانت شرقية أو غربية، كان على الإسلام الذي يحتل موقعاً وسطاً بين الشرق والغرب أن يصبح على وعي برسالته الخاصة، والآن وقد أصبح من البيِّن أكثر أن هذه الأيديولوجيات المتضاربة بأشكالها المتطرفة -لا يمكن فرضها على الجنس البشري  وأنا يجب أن تتجه إلى مُرَّكب جديد وموقف وسطي- نود أن نبرهن على أن الإسلام يتسق مع هذا الإسلوب الطبيعي من التفكير، وأنه التعبير الأكثر تناغماً مع الحياة وكما أن الإسلام في الماضي الوسيط الذي عبرت من خلاله الحضارات القديمة إلى الغرب، فإن عليه اليوم مرة أخرى- ونحن في عصر المعضلات الكبرى والخيارات- أن يتحمل دوره “كأمة وسط” في عالم منقسم، ذلك هو معنى الطريق الثالث، طريق الإسلام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

علي عزت بيجوفيتش

 

فيديو مقال الطريق من سراييفو ج(2)

أضف تعليقك هنا