حوكمة الشركات

إن الوصول إلى العادلة السوقية حيث الشفافية والوضوح وانعدام الغبن هو أمل يسعى إليه المجتمع الدولي، والشعوب على مر العصور، فالأنانية الربحية وترجيح المصالح الذاتية على حساب الجماعة لم تخلص من شوائب الأنا، ونحن نعلم أن الإنسان منذ الخليقة يعاني من مشكلة الندرة وهي عدم إشباع حاجته ورغباته بالنسبة لموارده حتى لو وصل إلى مرحلة الإشباع النقدي، فالعلاقة المتوازية بين رغبات الإنسان المتقلبة بين الإشباع ووصولاً للرفاهية وبين الاغتناء بالموارد لا يصل إلى نقطة التلاقي لوجود أشياء نادرة تحل بفنائها وانقراضها بجديد يخلق ذات الواقع من الإلحاح عليها. فالندرة في العصر الحجري النحاسي تغيرت معاييرها في ظل عصر اللدائن.

ظهور الشركات والعمليات التجارية

ونظراً لأن الإنسان في حاجة لإشباع حاجاته فكانت وسيلة المبادلة بداية ظهور فن التجارة والتسويق ثم تدخل النقد كوسيلة لتسهيل المبادلة فبات النقد ثمناً، وتمخضت عقود البيع من بعد المقايضة، ومع تطورت حاجات الإنسان وخضوعه مجبراً لآليات السوق، ولمجابهة قوة رأس المال انتظم في مجتمعات تجارية أخذت في التطور؛ ليتحول التاجر إلى شركة تجارية كان أول أشكالها شركات الأشخاص، فقبل استقلال القانون التجاري كفرع مستقل عن القوالب المدنية التي عُرفت من الحضارة الرومانية وما قننته الشريعة الإسلامية من معاملات، كانت فكرة الشركة كامنة في طبائع الإنسان الذي يؤول لبني جنسه؛ ليشعر بالطمأنينة في مواجهة ضعفه كفرد منذ أزل الزمن حيث بدأ الإنسان الأول في صورة تعاونه مع أفراد أسرته فظهرت أسس ملكية الأسرة، ثم أحكام الملكية الشائعة كشكل من أشكال الشراكة والمشاركة، وهذا يعني أن الشركة بصورتها الحالية هي نتاج الفكر الإنساني على مر العصور.

لقد اعتبرت الشركة كنظام قانوني منذ العصور الوسطى عندما زاد النشاط التجاري حيث ظهرت الشركة العامة التي يحكمها قانون مستقل عن الشركاء تقوم على فكرة المصلحة المشتركة للشركاء التي كانت اللبنة الأولى لبزوغ فكرة الشخصية المعنوية، كما لجأ الرومان إلى إعطاء أموالهم لمن يقومون بالاتجار بها بعقد يسمى بعقد التوصية، كما تم الاستعانة بهذا العقد أيضاً عندما حرمت الكنيسة الإقراض بفائدة، ويعتبر هذا العقد هو أصل شركة التوصية الحالية.

النظام الاقتصادي الرأسمالي

لقد كانت الموجة الاستعمارية بعد اكتشاف القارات الجديدة درباً ممهداً للرأسمالية والاستحواذ بتكوين تكتلات من رؤوس الأموال بالاغتيال الإقتصادي لثروات الدول المستعمرة، فظهرت شركات يقسم رأس مالها إلى صكوك قابلة للتداول عرفت حديثاً بالأسهم والأوراق المالية وتصدرت شركات الأموال السوق الاقتصادي، لتفرض كيانها الأناني نحو الربح على حساب المجتمع التي تغتاله اقتصادياً.

لقد ساهمت الثورة الصناعية التي نهضت خلال القرن 18 في تنشيط الحياة الاقتصادية بدعم المذهب الفردي والرأسمالية الذي كان له بالغ الأثر على المجتمع الأوروبي بما أظهرت الرأسمالية مثالبها وتوحشها نحو الاحتكار وتركيز رأس المال في قلة، دفعت إلى نمو طبقة البروليتاريا وهي طبقة العمال الذين لا يملكون سوى جهد العمل مقابل الأجر كثمرة التحول من الاقتصاد التنافسي إلى الاقتصاد الاحتكاري، ومن هذه النقطة سنتيقن أن غاية الحوكمة كمصطلح حديث بعد غلبة الرأسمالية على الاشتراكية بعودة صدارتها مرة أخرى بعصرنا الحديث هو منع تركيز رأس المال والاحتكار، وخلق توازن بين أهداف الاشتراكية ومزايا الرأسمالية.

النظام الاقتصادي الاشتراكي

فالحرية الفردية وعدم تدخل الدولة كمبدأين للمذهب الفردي كنظرية من نظريات العقد الاجتماعي بأن الفرد سابق على المجتمع، وأن تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية خروج عن الطبيعة. فكل شخص حر أن يمتلك ويعمل ما يشاء، وأن منع تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية ووقوفها موقف الدولة الحارسة هو ما أوجد مثالب الرأسمالية وظهور البرجوازية والبروليتاريا، التي أطلقت الأفكار الاشتراكية لحماية حقوق البروليتاريا ومنع سيطرة أصحاب رؤوس الأموال، والسعي لتحقيق المساواة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد.

إن أساس الاشتراكية مثلها مثل كل الأشكال الاجتماعية الأخرى يكمن في الاقتصاد. وتبعاً لذلك، هاجمت الطبقة العاملة باستخدام سلطتها السياسية، وانتزعت السلطة الاقتصادية وركزت كل وسائل الإنتاج الرئيسية في المجتمع بالتأميم كما حدث في الثورة الروسية، وغيرها من الدول التي عانت من إيديولوجية الرأسمالية المتوحشة. فالاشتراكية قامت في جوهرها على حرمان الفرد من ملكية رأس المال المسيطر على الإنتاج، وهو ما يعرف بالاستحواذ، فالعدالة في التوزيع، والعدل النمطي، والمساواة بين أفراد المجتمع في ملكية رأس المال المركز في وسائل الإنتاج هو أهداف الاشتراكية، ولذلك تصدر الاقتصاد الاشتراكي في الشركات التعاونية وبات المجتمع الاقتصادي يقوم على شركات القطاع العام، والتي لم تفلح من غلبة النزعة الفردية على مصلحة المجتمع، فتشوهت إدارة هذه الشركات ما انفكت تتكبل بخسائرها وديونها لتظهر الخصخصة كوسيلة لإصلاح عواوير الاشتراكية.

وبالنظر إلى مجمل عواوير الاشتراكية نجد أنه في جمود السوق كمحرك أساسي للإنتاج، حيث فقدان المنافسة من السوق الاشتراكي هو ما أفقد الاقتصاد نمائه، وبعد خضم من المعالجات الاقتصادية للقطاع العام بالخصخصة بين الإدارة والملكية على أمل دفع المنافسة في السوق مرة أخرى، لم يفلح ذلك في إحياء الاشتراكية المقنعة؛ لتزول ويحل محلها مرة أخرى الرأسمالية بطابعها الفردي بملكية الفرد لكل أو جزء من عناصر الإنتاج.

دواعي ظهور نظام الحوكمة 

ومع تطور الفن الإنتاجي بتجمع رؤوس الأموال في شركات المساهمة أصبح من الضروري حماية الأقلية من حملة الأسهم، وأصحاب المصالح من خلال معايير الشفافية والرقابة فظهرت الحوكمة لحماية الأقلية من حملة الأسهم من إدارة الشركة ونفوذ كبار المساهمين من خلال نظام يضبط عمل جميع الأطراف المعنية في الشركة من مساهمين، وإدارة تنفيذية، ومجلس إدارة. وتدخلت الدولة بتشريعات أسواق المال لضبط التحكم في تداول الأسهم، وإلزام شركات المساهمة بمعايير الشفافية والمصداقية التي تندرج تحت مفهوم الحوكمة.

معنى “الحوكمة”

وحتى اليوم لم يتم وضع تعريف موحد لمصطلح الحوكمة، فتعرف مؤسسة التمويل الدولية IFC  الحوكمة بأنها: “النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات والتحكم في أعمالها”. كما تعرفها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية  OECD بأنها :”مجموعة من العلاقات التي تربط بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من أصحاب المصالح”. كما يوجد تعريف آخر للحوكمة يدور حول الطريقة التي تدار بها الشركة وآلية التعامل مع جميع أصحاب المصالح فيها، بدءاً من عملاء الشركة، والمساهمين، والموظفين (بما فيهم الإدارة التنفيذية، وأعضاء مجلس الإدارة) وانتهاءً بآلية تعامل الشركة مع المجتمع ككل. وبشكل عام، فإن الحوكمة تعني وجود نظم تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية في الشركة (أعضاء مجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية، والمساهمين، وغير ذلك) بهدف تحقيق الشفافية، والعدالة، ومكافحة الفساد، ومنح حق مساءلة إدارة الشركة لحماية المساهمين، والتأكد من أن الشركة تعمل على تحقيق أهدافها واستراتيجياتها الطويلة الأمد. ومن هذه نقطة بدأ مفهوم الحوكمة يظهر ويخضع للدراسات البحثية وتقويم نتائجها التطبيقية، تحت مجال المد والجذر وننتظر من المستقبل أشكال جديدة من الشركات وخاصة أن التجارة الإلكترونية والشركات الرقمية كشركات دولية تحتاج إلى تتعاون دولي لضبط الحوكمة الرقمية. ومن ثم نطلق فعاليات البحث العلمي في أطر الحوكمة المتنوعة بعدما أفل ميثاق الأمم المتحدة للمسئولية الإجتماعية للشركات  لسنة 1999 عن تحقيق أهدافه من نابع ضمير الأخلاقي للشركات.

فيديو حوكمة الشركات

أضف تعليقك هنا