“موت الظل” قصة قصيرة

داحس والغبراء

فتحت عيناي فإذ بي راكبًا فرسًا أزرق. وامتد أمام عيني سهلٌ وقفت الخيولُ على طرفه، منتظرة بدأ السباق، وكان يتوسطهم الحصان “داحس” والفرس “الغبراء”..
بدأ السباقُ واشتعلت المنافسة وصفّق الكُل ل”داحس”، الحصان الذي لا يُهزم أبدًا.. لكن المفاجأة حدثت وفازت “الغبراء” بالسباق.. حينها وقف حُذيفة الذبياني وابتسم في خُبثٍ قائلًا:
“لنا الحقُ في حراسة قوافل الملك النعمان الآن”
حينها، كان فارسٌ يُهرول من بعيد يسبقُ صوته بريق عين حُذيفة:
“خيانة، خيانة، عرقلوا طريق “داحس” كي يُهزم”
حينها علت أصوات خروج السيوف من غمادها، وقامت مناوشاتٌ بين عبسٍ وذبيان، قُتل على إثرها “مالك بن زهير العبسي”.

ايصال خبر موت “مالك بن زهير العبسي” للملك “النعمان”

ركبتُ فرسي قاصدًا مدينةُ “الحيرة” لكي أخبر الملك “النُعمان” بما حدث. فقابلني بالطريق فارسٌ ضخم، يسوق أمامه نوق النعمان الحُمر. قُلت من أنت يا هذا، ومن أين جئت بكل هذي النوق”
فقال بفخرٍ حاول فيه تقليد الملك:
“أنا عنترة بن عمرو العبسي، وهذي نوق النعمان الحمر. أعطانيها يوم نعيمه”
قُلت وقد قفزت من فوق فرسي:
“عبسي! لقد قُتل مالك بن زهير العبسي يا عنترة، غدرت به ذبيان”
فغضب عنترة حتى صار فوران الدم يبين بين سواد وجهه، وترك الإبل مع غلامٍ له وهرول بفرسه ليرى ما الخطب..
أكملتُ الطريق حتى فرغ الماء بجعبتي، فبحثتُ عن بئرٍ فدلّني الأعراب لمكانٍ بين جبلي طئ. وصلتُ هناك فإذ برجلٍ مهيب يرتدي الحرير، يقف عند البئر يسقي فرسه. فتقدمتُ ببطءٍ إذ شعرتُ فيه الغدر، حتى إذ اقتربتُ منه، سمعته يقول بثقةٍ ولم يلتفت:

لقاء شخص من بني شيبان

“من أنت يا هذا؟”
قُلتُ:
“لا يهمّ، لستُ من أهل عصركم. لكن خبرّني بك”
ضحك وقال:
“البشر لا يتغيرون، وكل زمانٍ يستعيضُ عن أشخاصه آخرون كأنهم هم هم.. أنا نابغةُ بني شيبان”
قُلتُ وقد ضربت كفًّا بكف:
“من شيبان! وتركت قومك في حربها وهربت!”
ضحك مجددًا بسخريةٍ وقال:
“السياسيون لا يشاركون في الحرب. أن أدفع عن قومي بطش الحيرة بالسياسة ومصاحبة الملك، خيرٌ من المشاركةِ معهم.. أن أضمن لهم تحالف بني أسدٍ بشعري، خيرٌ من أن أرمي أعدائهم. أفهمت شيئًا؟”
أغمضت عيني لأفكّر بكلامه ولمّا فتحتها كان قد اختفى، حاولت أن أتبع آثار فرسه، فظهر رجلٌ فوق الجبل عن يميني وقال:
“عٌد لمكة، ولا يغرنّك الملوك، فإنكّ إمّا حليفٌ أو يقتلوك!”
قُلتُ:
“من أنت يا هذا؟”
قال وقد بدا الدم يسيل من قلبه، وآثار طعنات برقبته كأنّها تتسع:
“أنا أجأ، المصلوب فدى المحبوب”
قُلت في بلاهةٍ:
“ومن المحبوبُ يا هذا؟”
فاختفى وحلّ الليلُ فجأة، وسطع نورٌ من فوق الجبل الأيسر، لا يُشبه نور القمر، كان أرّق. ولا يُشبه الزُهرة، كان أكبر.
دققت بنظري أكثر فإذ بامرأة‍ٍ عيناها كأنها غاصتا بوجهها الدائري، ولونها كأنّ الزيتون غيّره عسلٌ فصار لونًا يخصّها وحدها. وشعرها انسدل خلف أذنيها حتى الترقوة.. نظرت نحوي وقالت بصوتٍ تَردد برقةٍ في كل الوديان حولي:
“أنا هي، أنا سلمى”
أغمضتُ عيني مخافةَ الفتنة، وغيّرت وجهةَ فرسي نحو الجنوب مجددا، فكان الظلام يغطي كل جوانبي إلّا الطريق أمامي المنبعث نوره منها.

الوصول الى مكة

وصلتُ مسافة ثلاث ليالٍ من مكة وقد نُصب سوق عكاظ وتداعى الباعةَ يتلوهم أبناء القبائل كلٌ في جماعة، من كلِ مكانٍ بجزيرة العرب. فنُصبت الخيامُ تحوي من أطايب العالم ما يسيل له لُعاب ملوك الحيرة،. فهنا زعفران اليمن، ولؤلؤ عمان، وزيوت الشام وحنّاء عسقلان. وهذا كاهنٌ يلوذ بأم الألام وإبنها فيُبشّر.

وهذي قُبةٌ حمراء من أدم بوسط السوق يقف بوسطها عنترة، وقد نحر كل إبل النعمان التي تركها مع غلامه، لمّا تركته “عبلة” لرجلٍ آخر. حتى صرخت الرمال فيه:
“لا نتحمل أساك ولا هجرها، خيانةُ النساء تكفيك مرارتها، ما ذنبنا لنوصم بك”
نظر عنترةُ بكل الناس أمامه مُحاولًا جمع قوته إلّا أن الأسى من صوته بدا قائلًا:
“ولقد ذكرتك والرياح نواهلٌ منّي.. وبيض الهند تقطر من دمي”

حينها بكيتُ ووجدتُ يدًا تربت على كتفي. نظرتُ فإذ بها، هي هي التي ظهرت فوق الجبل الأيسر.
تركت القُبّة مهرولًا حتى هربتُ منها إذ وصلتُ لمكانٍ لم يصلني فيه ضوءها، حينها جاءني النابغة فقُلت له ساخرًا:
“الحربُ ما زالت مستمرة، ولم تفد سياستك بشيء”.

مرافقة سلمى في الطريق

فغضب منّي ولم يتفوه، حينها كانت “سلمى” قد عرفت مكاني، فأخذت بيدي وأغمضتُ عيني، ومشيت اتبعها، حتى توقفت ورفعت يدها، فرأيتُ عنترةَ فاقدًا للوعي وسط دمائه وبظهره سهمٌ وقفت الشمس بين فوقيه.. أخذت بيدي مرّة أخرى حتى وقفنا على التلّة بشرق عكاظ، وصارت الشمس تغربُ أمامنا حتى كأن السوق غارقٌ في الدم، حينها خرج النابغةُ من القبةِ فوقع ميّتًا.

صرختُ فيها فوضعت يدها على عيني ثم أزالتها فوجدتُ قومًا من عبسٍ وآخرين من ذبيان وقد عٌقد الصُلحُ بينهما. حينها تركتني وصعدت ناحيةِ الشمس غاربة، فمددت يدي نحوها فسمعتُ صوتًا من جانبي يؤذّن لصلاةِ المغرب وأفقت من حُلمي.

فيديو مقال “موت الظل” قصة قصيرة

أضف تعليقك هنا