الانسان الأول والبدائية المعاصرة

مصطلح الشعوب البدائية:

نقصد بالشعوب البدائية تلك الشعوب التي تعيش حياة بدائية في الوقت الحالي، كقبائل الأمازون وأدغال أفريقيا وبراري أستراليا وجزر المحيط الهادي والأسكيمو، وسُميت بالبدائية لأنها تعيش حياة بسيطة في المسكن والملبس والمأكل، فهم يعيشون في الكهوف أو في بيوت بسيطة من القش أو في العراء، ولباسهم بسيط لا يكاد يستر العورة بل البعض منهم عراة تماماً، ومأكلهم لا يعتمدون فيه إنتاج طعامهم بنفسهم بل يأكلون مما تصطاد أيديهم أو تجمعه.

ولكن ماذا يمكن أن نطلق على الجماعات البشرية الأولى الموغلة في القدم، بالنظر لمصطلحات عصرنا الحالي يمكن أن نسميها شعوب ما قبل التاريخ، أو إنسان العصر الحجري، أو الإنسان الأول، أو الشعوب البدائية، أو الجماعات الأولية، ولكن من أين جاء مصطلح الشعوب البدائية على هذه الشعوب المعاصرة ومن ثم سحبه ليشمل كافة الجماعات البشرية الأولى الموغلة في القدم، الحقيقة أنه جاء كنتيجة منطقية للنظرية الداروينية.

البدائية مصطلح ناتج عن الداروينية:

فمصطلح الشعوب البدائية ظهر للوجود بظهور نظرية داروين منتصف القرن التاسع عشر، فداروين حاول إثبات نظريته بإثبات تطور الأنواع الحية من أشكال بدائية ذات بنية بسيطة إلى أشكال متطورة ذات بنية معقدة، وذلك برسم سلسلة تطورية لكل كائن منذ بدء الخليقة حتى الوقت الراهن، وقد درج العلماء الذين آمنوا بنظريته على خطاه في التمسك بتلك السلاسل وتطويرها وإسقاطها على الكائنات الحية المعاصرة والكائنات القديمة المنقرضة، ولما كانت سلسلة تطور الإنسان وهي الأهم تبدأ بنوع من القرود ثم تطورت للإنسان، كان لا بد من وجود إنسان بدائي تبدأ به تلك السلسلة.

مسارات التطور البيولوجي والحضاري للإنسان:

ومسارات التطور البيولوجي للإنسان الذي حاول داروين واتباعه إثباتها بالرغم من فشل هذه النظرية، قد رافقها مسارات أخرى تتعلق بالتطور الحضاري والفكري والديني.

فالتطور الحضاري أو المادي سار بمسارات وخطى ثابتة من الأبسط إلى الأعقد ومن التعب إلى الراحة، فالإنسان سار وفق مسارات تطورية في حياته المادية من ناحية المسكن والمأكل والملبس والأدوات المادية الأخرى التي استخدمها في المعيشة أو التنقل أو الاتصال أو حتى القتال، فقد انتقل من الكهوف إلى بيوت القش والخيام  فالبيوت الطينية والحجرية وصولاً للأبنية الحديثة، ووسائل الزراعة تطورت من الفأس الحجري إلى الفأس المعدني فالمحراث البدائي وصولاً للجرارت الزراعية الحديثة، والاتصالات من التصويت (المناداة بالصوت) إلى النار فالأبواق والطبول إلى الخيول فالحمام الزاجل وصولاً للهاتف والجوال والانترنت، وكذلك الأسلحة من العصا إلى السيوف فالبنادق فالمدافع فالصواريخ……..

مسارات تطور الأفكار والمعتقدات لدى الإنسان:

ولكن هل ينطبق هذا الأمر على تطور الأفكار والمعتقدات لدى الإنسان بدءاً من الإنسان الأول حتى الإنسان الحالي بمسيرة تطورية تشابه التطور المادي، هل فعلاً تطورت معتقدات الإنسان عبر العصور بحيث كانت بدائية جداً وبسيطة إلى معتقدات أكبر وأعقد، هل الإنسان الأول كانت لديه مفاهيم بسيطة عن الكون والخليقة ناتجة عن مشاهداته في المحيط الذي يعيش فيه وتفسيره البسيط لتلك المشاهدات ثم تطورت تدريجياً تلك الأفكار والمعتقدات، فالبدائي وفقاً لعلماء التطور والارتقاء لم يفهم معنى وجود إله يدبر الكون من حوله، بل اعتقد بوجود قوى مختلفة تسيطر على الطبيعة من حوله بل تسيطر عليه نفسه من خلال المرض والموت.

بمعنى آخر هل أفكار وعقائد الإنسان البدائي قد سارت بنفس المسار التطوري لحياته الحضارية والمادية عبر تاريخه الطويل، أي هل يمكننا سحب أفكار ومعتقدات الشعوب البدائية المعاصرة لملايين السنين وتطبيقها على الإنسان الأول في الأفكار والمعتقدات أم أن بدائية الإنسان الأول تختلف تماماً عن بدائية هذه الشعوب.

والعلماء المتأثرون بالداروينية استندوا في إثبات نظريتهم حول تطور أفكار ومعتقدات الإنسان بنفس مسار تطوره المادي والحضاري على أمرين: أولهما المقاربة مع المسار التطوري للماديات على غرار المسار التطوري البيولوجي الدارويني وثانيهما معتقدات الشعوب البدائية المعاصرة.

أولاً – المقاربة مع المسار التطوري للماديات خاطئ:

من المؤكد أن البشرية عاشت حياة بدائية تطورت تدريجياً حتى الوقت الحالي، ولا بد أن بقايا تلك المرحلة تمثلها تلك الشعوب البدائية المعاصرة ، وفي الوقت الحالي نجد أنفسنا أمام مجتمعين متمايزين لناحية أسلوب المعيشة، هما:

المجتمع المدني الذي يشكل 99.99% من مجموع سكان البشرية، وهناك مجتمع صغير يعيش حياة بدائية لا يتجاوز نسبة 0.01% من مجموع البشرية، وهذا المجتمع البدائي يمثله أيضاً تشكيلان اجتماعيان مختلفان هما البدو في الصحارى العربية وأواسط آسيا، والشعوب البدائية المعاصرة المتمثلة بقبائل الأمازون وقبائل استراليا وجنوب شرق آسيا والأسكيمو.

وهناك اختلاف كبير بين القبائل البدوية العربية من جهة، وقبائل أدغال إفريقيا والأمازون وجزر المحيط الهادي وصحارى استراليا من جهة أخرى، فالقبائل البدوية العربية تدين بدين توحيدي هو الإسلام وتعيش حياة معاصرة بالرغم من بساطتها، فهم يمتلكون السيارات ووسائل الاتصالات وهم قادرون على التواصل مع المجتمعات المتمدنة لغوياً وثقافياً، بعكس الشعوب البدائية التي تعيش حياة معزولة في الجزر والأدغال والتي عجزت الدول التي تضمها من إدخالها في الأجواء المعاصرة.

أفكار الشعوب البدائية والأفكار المعاصرة

ولكن هل تلك الشعوب البدائية كالأسكيمو مثلاً أو القبائل البدوية في الصحارى العربية أو صحراء منغوليا يمتلكون أفكاراً تعتبر بدائية بالنسبة للإنسان المعاصر أم تتفوق عليه في ذلك، فهذه الشعوب تعيش حياة بدائية من ناحية المأكل والملبس والمسكن ولكن في الوقت نفسه لديها ثقافة اجتماعية عالية تفوق الإنسان المعاصر، فروح التعاون والتضامن بين أفراد تلك القبائل تفوق كل مؤسسات وجمعيات التعاون لدى الإنسان المعاصر، ونظام الحكم السائد فيها لا يمكن أن يتحول بأي حال من الأحوال إلى ديكتاتوريات كما في المجتمعات المعاصرة، حتى القضاء عندهم يتفوق على القضاء المعاصر بتطبيقه لمبادئ العدالة والسرعة في فصل الخصومات بالرغم من شفهيته وعدم تدوينه.

فبدائية هذه الشعوب لا يمكن وضعها في قاع سلم التطور الاجتماعي أو الفكري أو الديني، فالثقافة التي تحملها بعض الشعوب البدائية المعاصرة تعتبر ثقافة راقية قد تصل لأعلى درجات الرقي الثقافي لو تم إنصافها وعدم النظر لها على أنها مرحلة بائدة قد مرت بها البشرية، بل إن الإنسان الأول الذي يعد سلفنا قد حمل من الثقافة والرقي في أفكاره ومعتقداته ما يجعله يتفوق على خلفه الحالي الإنسان المعاصر الذي شغلته التطورات الحضارية (المادية) عن الكثير من الأمور المتعلقة بصحة اعتقاداته وتطوير ثقافته الروحية والخلقية.

النتيجة:

أن سلسلة التطور البيولوجي لدى داروين أثبتت عدم جديتها، أما سلسلة التطور المادي والحضاري فسارت من الأقدم نحو الأحدث وهكذا، ولكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون مسيرة التطور الخلقي والديني قد سارت بنفس المسار، فليس من الضرورة أن تسير المعتقدات الدينية نحو الأرقى والأصح كلما تطورت حياة الإنسان مادياً أو حضارياً، فبناء الأبنية الحديثة وامتلاك السيارات المريحة لا يعني انتقال البشرية نحو فكر أفضل ودين أرقى، بل الحضارة الحالية قد أثبتت العكس تماماً.

ثانياً – معتقدات الشعوب البدائية المعاصرة:

نعود للسؤال الأهم: هل يمكن أن نسحب أفكار ومعتقدات الشعوب البدائية المعاصرة لملايين السنين ونطبقها على الإنسان الأول أم أن بدائية الإنسان الأول تختلف تماماً عن بدائية هذه الشعوب.

أقول: لا يمكن أن نسحب أفكار ومعتقدات الإنسان البدائي المعاصر لملايين السنين ونعتبرها الصورة الحقيقية للبدائية التي عاشها الإنسان الأول، فالمقارنة تستلزم دراسة كلا المعتقدين دراسةً مقارنة، وعلماء الأنثروبولوجيا استطاعوا معرفة الكثير عن معتقدات الإنسان البدائي المعاصر وكونوا لدينا فكرة جيدة عنها بالرغم من وقوعهم في فخ الداروينية أثناء تفسيرهم لتلك المعتقدات، ولكن الإشكالية الكبرى تظهر عند دراسة معتقدات الإنسان الأول والتي لا يمكن أن تتم دون دراسة الآثار التي تركها ذلك الإنسان ومحاولة استخلاص افكاره ومعتقداته من خلالها، ولكن هل بقايا الإنسان الأول يمكن أن تعطينا تصوراً واضحاً عن الثقافة والمعتقدات التي كان عليها ذلك الإنسان.

أقول: إن البقايا الاركيولوجية الصامتة للإنسان الأول لا يمكن أن تعطينا صورة دقيقة وواضحة عن معتقداته وثقافته، فطريقة الدفن التي كانوا يعتمدونها وأشكال معابدهم والشعارات الموجودة في بيوتهم وعلى قبورهم لا يمكن أن توضح ذلك بشكل قطعي، والمكتشفات المستحاثية التي وجدت في كهوف الإنسان الأول والتي تمثل قرون ثيران أو غزلان أو رؤوس دببة لا يمكن تفسيرها كمجسمات للآلهة التي تعبد لها الإنسان الأول، فمن الممكن أن يكون تموضعها في أماكن سكن ذلك الإنسان للعملية التزيينية فقط، فالفلاحين في بلادنا يزينون جدران مضافاتهم بباقات القمح المنتج من أرضهم، فهل نفسر ذلك بتقديسهم وتأليههم للقمح، والبدو أيضاً يزينون خيامهم بجلود الحيوانات التي اصطادوها ويعلقون أسنانها على شكل تمائم، فهل يعني ذلك تأليههم لتلك الحيوانات، إن الأمر لا يعدو كونه ممارسات شركية بالرغم من إيمانهم بوحدانية الله سبحانه وتعالى.

الخلاصة:

إن دراسة معتقدات الإنسان البدائي المعاصر تعتبر مهمة جداً كونها تعطينا مؤشراً احتمالياً لا دقيقاً لمعتقدات الإنسان الأول، فالوصول لثقافة إنسان ما قبل التاريخ يعتمد على ما تركه من مخلفات كالصور والرموز وطريقة دفن الموتى وشكل المدافن وهندسة المعابد، ومع ذلك فإن دراسة ثقافة الإنسان الأول تبقى تخمينينة لا يمكن الأخذ بها بشكل قطعي.

فيديو مقال الانسان الأول والبدائية المعاصرة

أضف تعليقك هنا