الاحتباك القرآني

من مهارات المبدعين

مهارة المقارنة والمقابلة وتعني القدرة على إدراك التشابه والاختلاف بين شيئين، وعلى مقدار دقة التشابه والاختلاف يكون تنمية تلك المهارة.

وخلال أكثر من 14 عاماً في الموهوبين علَّمونا أن المقارنة والمقابلة يجب أن تكون بين شيئين في المحور نفسه، فمثلا عند المقارنة بين سيارتين تحدد محور المقارنة قبل بين التشابه أو الاختلاف فمثلا محور السعر الأولى غالية والثانية رخيصة، وأرشدونا أن من الأخطاء الفادحة في المقارنة والمقابلة ذكر نقطتين غير متحدي المحور فلا ينبغي أن تقول الأولى غالية والثانية كبيرة لاختلاف المحورين السعر والسعة.

وبينما كنت أُقلِّبُ صفحات المصحف الشريف، وأتتبع تلك المهارة ، وجدت العجب العُجاب ، وجدت الكم الكبير من تلك المهارة مبثوثة في ثنايا الكتاب الحكيم، لكن استوقفتني آية من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: ” قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ” (13أعدت قراءتها، الآية تتحدث عن غزوة بدر القتال بين المسلمين وكفار قريش لكن بالوصف القرآني، وبتطبيق مهارة المقارنة والمقابلة لاحظت أن هناك مقارنة على غير المعتاد ، وضعت تلك المقارنة على الجدول التالي ( بناءاً على خبرتي في التدريب على المهارة)

م المحور الأولى الثانية
1. العدد فئة أخرى
2. ___ تقاتل في سبيل الله كافرة

وتسمرت في مكاني، كيف يقارن القرآن الكريم بين المجموعتين بذكر جزء من وجه المقارنة لمجموعة وذكر شيء آخر غير الأول للمجموعة الثانية دون الأولى؟! أليس من الأجدى تحديد وجه المقارنة وذكره لكلا المقارنين أو المتقابلين؟؟!! فكلمة” تقاتل في سبيل الله” تبين سبب القتال بينما” كافرة” تبين ما تحمله من معتقدات، قد يكون بينهما تلازم لكن لكل وجه محور!

وبعد البحث والتحري والفحص والتمحيص علمت ان هناك نوعاً نفسياً من علوم البلاغة، فنٌ غزير الفائدة شديدة الملاحظة دقيق المبنى وفير المعنى وهو فن” الاحتباك”، الذي أفاض فيه علماؤنا وبينوه، وأول من أفرده بكتاب خاص هو الإمام برهان الدين البقاعي (ت 855هـ) في كتابه” الإدراك في فن الاحتباك” لكن الكتاب مفقود مع كل أسف، بل إنه استفاض كثيراً حول هذا الفن في تفسيره ” نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”. فما هو الاحتباك؟

ما هو الاحتباك؟

الاحتباك لغة “الشدة والإحكام وتحسين أثر الصَنعة “، ومن تفاسير قوله تعالى ” والسماء ذات الحُبك” (الذاريات7) حُسنُها واستواؤها، فكل شيء أحكمته وأحسنت صنعه فقد حبكته، أما معناه الاصطلاحي فهناك تعاريف كثيرة موجزها أن يحذف من الكلام في جزئه الأول ما أثبت نظيره في الثاني ويذكر في الثاني ما أثبت نظيره في الأول. فهو بهذا الشكل يحترم العقل البشري ويعطيه مساحة من الملاحظة والفهم ولا يسلبه التفكير والتأمل، وبالمثال يتضح المقال .

لنعد إلى الآية التي ذكرناه في البداية ، ” قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ عند النظر والملاحظة وإعمال العقل سنلاحظ أن القرآن ذكر صفة للفئة الأولى أنها تقاتل في سبيل الله ولم يذكر مَن هي ؟ وفي المقابل ذكر صفة للفئة الثانية أنها كافرة دون أن يذكر لماذا تُقاتل؟ فما يقابل ” في سبيل الله” هو” في سبيل الشيطان أو غيره” وما يقابل “كافرة” هو مؤمنة بلا شك، فيمكن إعادة الصياغة بعد هذا الفهم على الشكل التالي (جعلت المحذوف بخط مختلف وبتضليل):

م المحور الأولى الثانية
1 سبب القتال في سبيل الله في سبيل الشيطان أو غيره
2 العقيدة مؤمنة كافرة

وهكذا ترى كيف أن القرآن الكريم يدفعنا إلى التدبر والفهم لما نقرأه وليست كلمت مجردة دون فهم معناه.

ومن حقك أن تسأل هنا لماذا حذف هذه الكلمة وليست الأخرى؟ أي لماذا حذف في سبيل الشيطان في الجزء الأول وحذف مؤمنة في الجزء الثاني وليس العكس؟

من أسرار ذلك – والله اعلم- أنه ذكر الأولى(المؤمنة) بأعلى صفاتها وهو القتال في سبيل الله(الجهاد) فهو ذروة سنام الإسلام فاكتفي بأعلى الصفات عن الذات، أما الكافرة فيكفي في حقارتها أنها كافرة، كما أن الكفار أصناف كثيرة ويقاتلون لأسباب كثيرة، لكن كلها ليست في سبيل الله فاكتفى بأحقر صفاتها دون الحاجة أن سبب قتالها.

ومن هنا كان النظر في هذا الفن يستدعي الجواب على سؤالين:

  1. ما هو المحذوف؟

  2. ما سر اختيار الموجود دون المحذوف؟

لقد استخدم القرآن الكريم هذا الفن بشكل لا نظير له، فهناك أكثر من 100 آية أُستخدم فيها هذا الفن

م المحور الصادقين الكافرين
1 السؤال عن صدقهم عن كفرهم
2 النتيجة نعمياً مقيما عذاباً اليما

لنأخذ مثالاً آخر: قال تعالى:” لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ۚ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)( سورة الأحزاب)، أظنك معي أن القرآن ذكر سؤال الصادقين وما أعده للكافرين ، فمن الطبيعي أن هناك جزاءً للصادقين وسؤالاً للكافرين ، وعند إعادة الصياغة يكون الشكل التالي:

وسأترك لك الإجابة عن السؤال الثاني وهو: ما سر اختيار ذكر سؤال الصادقين والإعداد للكافرين؟

وسأختم بهذا المثال الذي ساترك لك إجابته بشكل كامل قال تعالى:

“أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) ( آل عمران)

م المحور الفريق الأول الفريق الثاني
1 السبب اتبع رضوان الله
2 النتيجة باء بسخط الله ومأواه جهنم

عليك تعبأة الجدول التالي:

 

ثم الإجابة على السؤال الثاني: ما سر اختيار السبب للفريق الأول والنتيجة للفريق الثاني؟

…………………………………………………………………………………

 

يا تُرى هل هناك كتاباً يحرك العقل ويحترمه، وينمي الذهن ويوظفه، ويعين الفكر ويهذبه ويدعوه إلى النظر فيه وتأمله، أكثر من القرآن الكريم؟  إنه كتاب مباركً في كل صور وأشكال البركة،

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)

فيديو مقال الاحتباك القرآني

أضف تعليقك هنا