اليد

الليل والغريب

“أيها الآذى المرير ، يا حال البؤس ”
– تشوسر .
كان الوقتُ يمضي نحو الليل ، هذا الليل الهادئ والطائش في آن واحد ، المجنون الذي جاء ليُعذب الذين مازالوا على قيد الحياة . كُنا في الشتاء ، وكان شتاءً مجنونًا لا أعتقد أن شِتاء مثل هذا قد مرّ علينا ، كانت السماء مجنونة ، تعزفُ أنشودةِ القلقِ والإضطرابِ ، كانت السماء راعدة ، بارقة ولكنها لَم تُمطر آنذاك ، ربما هذا ماجعلها مجنونة .

بدا الليل أن يسدل ستاره ورويدًا رويدًا راح يغرق في أعماقه ، كانت الساعة تقريبًا الحادية عَشر ونصف وكُنا على تأهب لإستقبال غدًا جديد ، مرًا قاسيًا . ساعتئذ كان الفتى الغَريب يهيمُ في الشارع كعادته بثيابه الرثة ، وقدماه المحشورتان في حِذاء مُتهالك نعله تمامًا حتى بدت أصابع قدماه بارزة وغارقة في الطين والجرب معًا . كان لهُ ملامح غريبة ، أُذنان كبيرتان وأنف أفطس وعينان واسعتان ووجنتان يعتليهما جرب دائمًا وحاجبان مرفوعان إلى أعلى مِن ممارسته للإندهاش على الدوام . أيضًا ذو شعر جعدًا قصيرًا . أمّا الشيء الأكثر غرابة ومُلفت للإنتباه أن يداه مبتورتان ولا أحد يعرف سببًا لذلك .
كان الفتى إياه يسيرُ على الرصيف ، يجرجر قدماه –التي يصعبُ عليه أن يثنيهمَ – بصعوبة .

الفتى والخبز

على الرصيف الذي يمضي الفتى إياه عليه ، هُناكَ مخبز . شمَ الفتى رائحة الخبز وأحس بصوتٍ ينبثق مِن بطنه ، شعرَ توًا عِندئذ أنه جائعًا وكمثل أي أحد خُلقَ كان مِن الضروري أن يأكل ، آخذَ يُفكر ويُفكر في أنه كيف لهُ أن يفعل كما يفعل الناس . بعينان محمرتان ، غارقتان في بركة مياه صغيرة يسبحُ فيها البؤس ، كان يرى الناس مِن حوله يمدون يديهم كي يأخذون الخُبز ويدسون أيديهم في جيوب بناطيلهم فتخرج آهلة بنقود ذات بريق لامع ، كان يريد أن يفعل هكذا أن يمد يديه كي يأخذ الخُبز لكنه كذلك ليس لهُ يد . آخذ يسلُك طريقه دون أن يضع للموضوع هذا أي إهتمام . لقد عاشَ الفتى إياه سنوات عدة دون أن يمد يديه لأنه لايملكها أصلًا كي يفعلها فيأخذ ما يريد ، لقد قضى الفتى الغريب سنوات في التطلع على الفتارين والأكشاك ولا يأخذ شيءٍ ، كان فقط يتطلع ويشعر بحسرة لا مثيل لها وعجزًا لا نهايةَ لهُ .

كان الفتى يمضي بخطوات بطيئة جِدًّا ، حيث بدا أنه لا يتحرك ، كان يفكر في أنه مِن الممكن أن يأخذ الخُبز بفمه ، لطالما ليس لهُ يد لا مانع إذن مِن أن يأخذ الخُبز عَن طريق مد فمه نحو الرغيف ثم يضغط عليه بأسنانه ويأكله ، رغم أن هذا الشيء المسمى قانون يُجرم هذا ، أنها طريقة غير مألوفة وغير مستحبة أمام العامة ولا الفضيلة تقول ذلك ، لكن أي فضيلة إذن نتحدثُ عنها ، الفضيلة تنتهي بموت المرء – نتفق – وطالما لم يمت المرء إذن لم تمت الفضيلة ، هكذا نتفق جميعًا لكن دعني أشير لك إلى أمرًا آخر أنتَ في زمن الجوع لا تفكر في أي شيء أنتَ تفكر دائمًا في أن تشبع كي تظل حيًّا كي لا تموت كي تبقى الفضيلة كما كُنا قد إتفقنا لكن ماذا إذا كان موتك هو رهن بقاء الفضيلة ، هذه مسألة آخرى لا يمكن النظر فيها في زمن الجوع ، إذن أنتَ في زمن الجوع لا حديث عَن الفضيلة أنتَ دائمًا تفكر في شيء تأكله هذا يأتي أولًا وكُل ماعدا ذلك يأتي ثانيًا أنت لن تتخلص مِن أولًا حتى تفكر في ثانيًا .

راح إياه يرجع للوراء ومِن ثم راح يقف هُناك عِندَ المخبز الذي كان مكتظًا بالناس أصحاب اليد . وقف الصغير هُناكَ متسمرًا ، متطلعًا يشمُ رائحة لهيب الخبز. كان الصغير يفكر في شيء واحد فقط ساعتئذ – دائمًا يأتي أولًا – وهو أنه مِن الضروري أن يأكل لقد كان جائعًا أكثر مما ينبغي أن يكون عليه إمرؤٍ جائعًا.
راح يتقدم بخطوات تُعد على أصابع اليد وعندئذ كان قد وصلَ إلى طاولة خشبية آخذت شكل صنية وضِعَ عليها الخبز ، تمايل بجسده النحيل وراح يمد فمه ، ثم فتحهُ على مصرعهُ وقبل أن يمسك بالرغيف بين أسنانه الضعيفة ، أحس بيد قد أمسكت به مِن سَترة ياقته المُهترئة ومِن ثمَّ سحبته لأعلى ، كان رجلًا ذو جسدًا ضخمًا وشاربًا أسود كثيف ، مرتديًا حُلة سوداء ، ما علينا بهذا كله. قال الرجل إياه للفتى الغريب

حديث الفتى مع الرجل الضخم

– هذه جريمة ، ألا تعرف ؟
أجاب الصغير وهو يحاول أن يفلت مِن بين يديه
– الجريمة الحقيقية يا باشا هي أن يديَّ مبتورتان .
فلتَ الصغير وحث خطاه مسرعًا إلى اللامكان ، هو دائمًا يسير دون غاية ، هو دائمًا يسعى إلى اللامكــــان .
عِندَ شجرة كبيرة راح يقفُ عندها ، وكانت عيناه تتطلع إلى الرصيف الآخر ، حيث دُكان البقالة قابعًا أمام عيناه الواسعتان ، وكان على الناحية اليسرى للرصيف الذي يقف عِنده الفتى إياه ، قطًا أبيض منمش ببقع سوداء ذا جرب ، يقف أمام بركة مياه تقطعً الطريق أمامه ، يرفعُ رأسه ليحوم النظر فيكتشف حجرًا وضِعَ في البركة فآخذَ يقفز قفزةٍ هائلة ومِن بعدها راح يركض نحو دُكان صغير لبائع الفرخ .

على الناحية الآخرى كان الفتى إياه قد عبرَ الشارع ووقفَ أمام سياج حديدي وأستندَ برأسهُ وراح يتطلعُ على الباب بعيناه الواسعتان وجبينه المنكمش وحاجبيه المرفوعان وكأنهم مربوطان بخيط سميك يرفعهما إلى أعلى . كانت عِبارة كُتبت بخط عريض على الباب ” ادفع باليد ” . أوجزَ الفتى في نفسه يأسًا وحسرة وراح يفكر في كيف لهُ أن يدفع الباب دون أن يدفعهُ باليّد . حثَ خطاه نحو الباب وآخذَ يشكو جوعًا ، لكن ذاكَ الباب الزُجاجي كان يقف متربصًا لصوته فبدا الناس مِثل البعوض لا يسمعون والباب إياه هو المسؤول .

صعوبة فتح الباب لدى الفتى بيدين مبتورتين

أستمر هكذا إلى أنه شعرَ بالزهق والجوع معًا وأشتدت عليه مخمصته فراح ينجرف بسرعة نحو الباب وآخذَ يدفعه بكتفه ، فشلَ فراح يدفعه بطريقةٍ ما وهي أن يعطي ظهره للباب ويدفعهُ بمؤخرته ولكن أيضًا فشلَ عاد للوراء ووقفَ متسمرًا مكانه . كُلٌ دموع الأرض لا تكفي دموع عينان طفل يشعر بالجوع ولا يقدر على أن يمد يديه كي يأخذ شيء يأكلهُ . على الناحية الآخرى كان القط قد حشرَ رأسه بين ترابيزة خشبية عتيقة وبين الأرض وبدا يدفعُ رأسه إلى الداخل حتى أخرجَ كيس أسود وضِعَ فيه أحشاء فرخ .

بعد برهةٍ دلفا أحدان الدُكان فأسرع الفتى وكان الباب في طريقه إلى أن يُضحى مرصودًا فآخذَ يُسرع أكثر حتى وصل وحين بدا أن يدخل ، حُشرت رأسه بين الباب وحائط زُجاجي فبدا يصرخ ” رأسي ، رأسي ” وراح يرجع للوراء وأحس أن رأسهُ ستقتلع مِن جسده ، أسرع شخصًا ما نحوه ودفعَ رأس الفتى إلى الخارج بعد أن فتحَ الباب شِبرًا . وها هو الباب مرصودًا أمام الفتى مرةٍ آخرى ، أوجز إياه في نفسه خيبةٍ ولكنه هتف في نفسه – ” أكيد هناك أحد سيدفعُ لي الباب ” .

تراجع للوراء قليلًا وساعتئذ خرجَ رجُلًا ذو عباءة رمادية فضفاضة وكانت يده اليسري قابضة على شنطة سوداء فيها حاجيات ، وقف الرجُل أمام إياه لبرهةٍ ، ثم تركه وآخذَ يسلك طريقه ، بدا اليأس أن يعتري الفتى وبدا البؤس أن يمزقه وأن يقلع رأسه مِن مكانها ، وقف وارتعشَ ، سأله أحد
– ” ماذا بك ”
– ” أحاول أن أخلق ليّ يد ”
هكذا جاوب الفتى . ضحكَ الشخص إياه وندت منه قهقهة ومضى في طريقه ، وكان الفتى إياه عاجزًا على خلق يد لهُ ، تراجع للوراء حتى وصلَ إلى السياج مرةٍ آخرى وأنفكت أسنانه بهذا السؤال البديهي
– ” لماذا لَم يدفع لي أحد الباب ، هم لهم يدان وأنا يديَّ مبتورتان ، لن يشعروا بتعب ولا أيًا مِن ذلك أو هذا الشعور الذي أشعر به ، لِم لا يفتحون ليَّ الباب ، لِمَ لا يفتحون ليَّ الباب؟! ” .

فيديو مقال اليد

أضف تعليقك هنا