آلهة الحرب والسياسة

“الحروب” و”النزعة الإمبريالية”

-أي الإستعمارية- توأمان سياميان ملتصقان من مؤخرتيهما ، وكل منهما يزدهر بازدهار الآخر ، ولا يمكن فصلهما . و”النزعة الإمبريالية” هي السبب الوحيد الأعظم ل”الحرب” . و”الحرب” هي القابلة المولدة لمكتسبات “النزعة الإمبريالية” .! هكذا قال “تشالمرز چونسون” الكاتب الأمريكي وأستاذ العلاقات الدولية .

ففي العام 1946 كتب “جون فوستر دالاس” مبشراً الأمريكيين “بعدوهم الجديد..!” قائلاً أن السوفييت يسعون لفرض السلام السوفييتي Pax Sovietica على العالم ؛ وعلى أميريكا أن توقف هذا . وفي الحقيقة لم يكن وصف أحد ليسعف ؛ حين قرع “نيكيتا خروشوف” الرئيس السوڤيتي غريب الأطوار – كما وصفه احد الساسة الأمريكيين- الطاولة في الأمم المتحدة بحذائه في أوائل الستينيات ؛ وهدد بدفن الديموقراطيات الصناعية ، عسكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً . وأخذه الجميع على محمل الجد.

وقد اختلف الكثيرين داخل دوائر صنع واتخاذ القرار الامريكي ، في أعقاب الحرب العظمي الثانية ، حول ما ينبغي عمله مع العملاقين الألماني والياباني..؟ فهناك من دافع عن الحل الروماني – نثر الملح فوق أراضي قرطاجة- وتدمير إقتصاديهما بشكل دائم . ودافع آخرون عن أن جعل الأمم أكثر ثراءاً والبيع في أسواقها وجعلها ديموقراطية وسيرغمها على التحالف مع الولايات المتحدة .

وفي سياق الخيار الأخير

فقد اقترحت إدارة “هاري ترومان” تفعيل فكرة الإحتواء عن طريق مشروعين رئيسيين هما “مشروع النقطة الرابعة” لدفع نمو دول العالم الثالث ، بالتزامن مع “مشروع مارشال” لإعادة إعمار أوروبا . فلطالما آمن الأمريكيون بأن ” قزم سليم خير من عملاق أعرج ” ـ أو حتى تلك اللحظات على الأقل وقبل انتصارهم على الشيوعية وانتشار نظرية “نهاية التاريخ” وانتهاء الجمهورية .

وعليه ، كانت المعونات المقدمة إلى اليونان وتركيا ، وإنشاء حلف الأطلنطي ، وإعادة تسليح اليابان وألمانيا الغربية ، والحرب الكورية ، كلها جهود ترمي لاحتواء الدب والتنين السائبين في الغابة . وفي سبيل إحتواء إنتشار الإشتراكية والشيوعية ، أيضاً ، تدخلت “واشنطن” في (إيران عام 1953) و(جواتيمالا 1963)، و(الدومينيكان 1963و1965) ، و(البرازيل 1965) ، و(تشيلي 1973) ، و(بنما 1989) ، إضافة إلى “السلفادور” ، و”نيكاراجوا” ، وشبه الجزيرة الكورية و”فيتنام” .

الحرب الباردة ،من الناحية الأمنية

قامت أساساً علي استراتيچية “سباق التسلح” و”الحروب بالوكالة” ، أو بوصف “كريستيان بارينتي” الكاتب والصحفي الأمريكي مسار “العسكرة” . وعلي تكتيكات مثل “الضغط المتعادل” في سباق ، كان آخره وأقواه نحو الفضاء حيث برنامج “حروب النجوم Star Wars ” الذي أطلقه الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” في ثمانينيات القرن الماضي . وبالتالي فإن الإنفاق العسكري هو احد دعامات الأساس في ألحرب .

وهذا هو بالضبط ما تضمنته الوثيقة الصادرة برقم ٦٨ لسنة ١٩٥٠ عن مجلس الأمن القومي ، والتي كانت الوثيقة الأساس في إطلاق الحرب . وتوضح الوثيقة كيفية الترويج والتعبئة للحرب الباردة بوصف نتيجتها تضع “بقاء العالم الحر” علي المحك ، وبالتالي يجب علي الأمريكيين التفريق بين ضرورة “التسامح” وضرورة “القمع العادل”.

فتذكر الوثيقة أنه:

“..من المهم على وجه الخصوص أن نعزل نقابات العمال والمشاريع المدنية والمدارس والكنائس ووسائل الإعلام كلها التي تعني بالتأثير في الآراء عن العمل الشرير للكرملين الذي يسعى إلى إفسادها وتحويلها إلى مصادر للإرتباك في إقتصادنا وثقافتنا وسياستنا . وزيادة الضرائب أمر ضروري كذلك مع تخفيض الإنفاق الفيدرالي على أغراض غير الدفاع والمساعدات الأجنبية ؛ وبتأجيل بعض البرامج المعينة المرغوب فيها إذا إقتضت الضرورة .. كما يتوجب على الشعب أن يتخلى عن بعض المنافع التي يتمتع بها عند تناولنا لناصية الزعامة على العالم وعند قيامنا بكبح الركود الاقتصادي المتفاقم أصلاً بواسطة برامج حكومية عملية بمعونة الصناعة المتقدمة من خلال المنظومة العسكرية..”

بعد انتهاء الحرب الباردة

كان غزو العراق للكويت 1990 ورد الفعل الدولي تجاهه ، خشبة المسرح لاستعراض آلة الإمبراطورية الحربية ؛ حيث تمكنت من نقل آلاف الوحدات الطائرة ، ومليون جندي تقريباً ، ووحدات كثيفة التسليح إلى صحراء السعودية ، ونثرت سفنها وحاملاتها في البحرين الأحمر والمتوسط والخليج خلال شهور .

وفي خصوص تجربة القوة ثم إستعراضها نجد أن الشيء ذاته كانت اليابان شاهداً عليه ؛ “كبش فداء” تقدمه النخبة الأمريكية لآلهة الحرب ، واستعراض قوة أمام المنتصرون الثلاثة الآخرون قبل اقتسام الغنائم ؛ فبعد استسلام الرايخ الثالث وهدوء أوروبا ، وتجربة القنبلة “ترينتي” في صحراء نيو مكسيكو ، ثم قنبلتي مدينتي “هيروشيما” و”نجازاكي” اللتان أحالاها إلى أكوام من الأنقاض ، ومحتا ١٥٠ الف بشري ـ تقريباً ـ في دقائق معدودة من الوجود .

وقد خلقت تلك القدرة الحربية المتطورة جداً والمجمع الصناعي العسكري التقليدي (جنرال إليكتريك ، لوكهيد مارتن ، وريثيون ) وصناعته الحربية الضخمة ، مصالح قوية في كل مكان ؛ مصالح تعتمد على الحرب ، وبالتالي تشجعها .

ظهور ما يسمى “بالشركات الهجينة”

أضف إلى ذلك قد انضم سرب كبير من شركات الأمن الصغيرة التي تقوم بخدمات هجينة – تشبه الي حد كبير شركة “الخلية” في سلسلة أفلام Resident Evil الشهيرة ؛ ومن تلك الشركات : شركة “بلاك ووتر” و”دين كورب” و”جلوبال” ، وشركات السجون الخاصة مثل “شركة الإصلاحات الأمريكية” ، وشركة “الإدارة والتدريب” وشركة “چيو” مشاركة أيضاً في هذا المجال .

وتلك الشركات الهجينة ، وبمنتهى المنطقية ؛ قد حصلت علي عقود مربحة للغاية في في كل دولة يحل عليها ملائكة العم سام ” . وأقربها مسافة وزمناً ؛ عراق “مابعد صدام” ؛ وشاركت في تأهيل الجيش والحرس الوطني -المشكل من مليشيات كانت قد شاركت في الحرب الأهلية- وكذا تأهيل وإعادة هيكلة الجهاز القضائي ومايدور في فلكه من شرطة مدنية ومجمعات للسجون .

وفي المجمل

فإن هذا المجمع “الأرضي” الجديد -علي حد تعبير “بارينتي”- يقدم طيفاً من الخدمات داخل البلاد وخارجها : مراقبة ، ومعلومات ، وأمن حدود ، واعتقال ، وبناء تجهيزات وقواعد ، واستشارات ضد الإرهاب ، وخدمات لوجيستية – عسكرية وبوليسية ، وتحليل بيانات ، وتخطيط وتدريب ، وبالطبع الأمن الشخصي .

ويمكن مشاهدتها في كل مكان تعرض فيه الولايات المتحدة قوتها : في “أفغانستان” حيث تدير قوافل الإمدادات وتقدم الطعام وتزود بالمترجمين ؛ وفي “كولومبيا” ترش حقول الكوكا وتدرب الجيش ، وفي “الفلبين” تدرب الشرطة ؛ وفي “المكسيك” حيث تحرس رجال الأعمال ؛ وعلى طول الحدود (المكسيكية ـ الأمريكية)حيث تتعامل مع المهاجرين المحتجزين

وختاماً

لقد اعترف “ثيودور روزفلت” – بصفته رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية – أثناء النزاع الإسباني-الأمريكي في أوائل القرن الماضي علي أرخبيل الفلبين أنه “توسعي” وليس “إمبريالي” فيقول : ” لا يوجد أي إمبريالي في البلاد … توسع ..؟… نعم … لقد كان التوسع قانون نمونا الوطني ..!”.

والآن ؛ وفي حياة الأمريكيين العامة ، يندر أن تجد شخصاً بارزاً واحداً يتلمس قصوراً في الفكرة القائلة بأن “الولايات المتحدة الامريكية” هي القوة العظمي الوحيدة الباقية في العالم حتى نهاية الزمان..”.

وهو لا يختلف كثيراً عما تؤكده رؤية “تشالمرز چونسون” حيال أن تحول الولايات المتحدة الأمريكية من جمهورية إلي إمبراطورية توسعية أصبح أمراً واقعاً وحقيقة ملموسة .

وأن تلك الإمبراطورية الجديدة – إمبراطورية القواعد العسكرية “المكيفة” المتناثرة في كل أركان الكوكب – إنما تؤكد الهيمنة الأمريكية ؛ وتتجلي في قواعدها “النزعة العسكرية” التي كانت للإمبراطوريات القديمة ؛ والتي تلازم دوماً النزعة “الإمبريالية”.

لكن وبخلاف الإمبراطوريات القديمة ، وحتي روما ذاتها ؛ فإن ما ميّز الإمبراطورية الأمريكية ، كان إحدي الخاصيات الفريدة ؛ فلا حاجة للقواعد العسكرية المتناثرة حول العالم -في عصرنا الحالي وحتي اللحظة علي الأقل – لأن تخوض حروباً بشكل مباشر . ولكنها تظل رغم ذلك تعبيراً خالصاً عن النزعة العسكرية والإمبراطورية .

المصادر

*تشالمرز چونسون .. أحزان الإمبراطورية .
*مجموعة كتاب .. الإمبراطورية الامريكية ؛ صفحات من الماضي والحاضر ..
*كريستيان بارينتي .. مدار الفوضي ..
*لستر ثارو .. الصراع علي القمة ..
*نعوم تشومسكي .. ماذا يريد العم سام ..؟!

فيديو مقال آلهة الحرب والسياسة

أضف تعليقك هنا