البعد جمال

ما هو السبيل الى السعادة؟

يريد الإنسان أن يعيش الحياة ويستمتع بها، لكنه لا يعرف السبيل إلى ذلك، يبحث عن السعادة بشتى الوسائل الممكنة ولا يجدها أينما حل وارتحل، يسعى للحصول على الحب ولا يعرف كيفية الإلمام به وإن وجده لا يقتنع بأنه هو ذاك الشيء الجميل الذي ظن أنه سينقله إلى المدينة الفاضلة، حيث السكينة والشفاء من الأسقام وكأنه آخر باب سيقود المرء إلى الجنة، يطمح إلى الغنى والثراء فتشقى حياته بمجرد أن يغتني ويفيض عليه المال والجاه فيجد نفسه أتعس مما كان عليه وهو في أمس الحاجة من شدة الفقر المدقع.

كل هذه المعضلات التي لا نجد  لها حلا تقودنا إلى طرح مجموعة من التساؤلات:

هل يفكر الإنسان بوعي سليم حول الأشياء؟

هل حقا توجد السعادة في الدنيا أم أنها مقصورة على الآخرة؟

هل السعادة شيئا ماديا ملموسا يمكن القبض عليه من زاوية معينة أم أنها شيء مجرد يخلقه الإنسان؟

لكي نصل إلى جواب عن كل هاته الأسئلة سيكون لزاما علينا أن نشعب الأجوبة لتشمل عدة منظورات، روحية ونفسية وواقعية، وأن نمثل عليها بمختلف الأمثلة لنر ما مدى صحتها،  كما يتوجب علينا أن نروم نحو ما يسمى بجمال الأشياء ومكمنها.

قيمة الأشياء بغيابها

عندما يولد الإنسان من الوهلة الأولى يلهث تشوقا إلى ملذات الحياة التي تكسبه السعادة، وأولها الحصول على الطعام، تلك الرغبة الملحة التي تدفعه إلى بذل قصارى جهده ليُطعم، تعطيه لذة الشوق إلى الطعام وتزداد تلك المتعة كلما تأخر عليه الطعام؛ فيكون استمتاعه بالأكل بعد الحصول عليه أكثر متعة، وأبسط من ذلك أننا عندما نشرب الماء ونحن لسنا عطشى لا نشعر بقيمته، ولكن عندما يشرب الصائم الماء بعد يوم من الظمأ يستطيع أن يستلذ به ويعرف قيمته؛

لذلك لا يعرف قيمته إلا الذي فقده كما هو الشأن في بعض المناطق التي تنعدم بها المياه، وكثير منا يملك أشياء غالية ولا ينتبه إلى المعاني الجميلة التي تقدمها له إلا بعد أن تتملص منه، ساعتها يستعر اللذة والسعادة التي كانت تقدمها له دونما أن يعي بذلك، ومن ذلك الوالدين فلا يعرف مكانة الأم في الحياة إلا يتيمها، ولا يدري قيمة النظر والمشي على الأرجل والصحة إلا العليل.

إذن فقيمة الأشياء بغيابها، والسعادة بنقيض ما نسعى إليه، أو بتعبير أدق. جمال الأشياء يكون قبل بلوغها وتملكنا إياها، وتشوقنا إلى الاستمتاع بلذتها يحصل كلما كنا بعيدين عنها وباقترابنا منها تبدأ تلك الرغبة تضعف شيئا فشيئا، حتى إلى بلغناها واستطعنا المساس بها أتعسنا سعادتنا، فنعتقد أن السعادة لا توجد في ما سعينا نحوه، فنختار شيئا جديدا لعلنا نجد ذلك المستحيل الذي نطارده.

الطموح وعدم اكتفاء الانسان بمالديه

وبرجوعنا إلى ذواتنا وتجاربنا الشخصية سنجد أن كل واحد منا يطمح للحصول على شيء معين ويؤكد أنه لا يريد من الدنيا سواه، ولكن ما إن يمتلكه، فإذا به يمله ويسعى للحصول على شيء أرقى منه. عندما كنا صغارا لم نكن نريد سوى اللعب وأكل الحلوى وبعدها صرنا نريد مزيدا من المأكولات اللذيذة، وبتقدمنا في  السن  صرنا نريد بعض المال لشراء ما نريده بأنفسنا؛

فكان طموحنا الحصول على وظيفة من أجل الاستقلال المادي، ولكن هذه الأخيرة لا قيمة لها بالنسبة إلينا إن لم توفر لنا السيارة ثم السكن، فالزواج فالأولاد؛ ذلك أن النفس الآدمية لا تشبع من متع الدنيا ولن تشبع، وصح قول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لما قال:” لو كان لبني آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث ولن يملأ جوف بني آدم إلا التراب”

 الحكمة الربانية من تقديم بعض الأشياء وتأخير أخرى

كما جاء في قوله تعالى:” ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير.”  ذلك  أنه من حكمة الله أنه جعل النفس البشرية تسعى دائما إلى الملذات، وإلا لما وعدها بنعيم الجنة، ولو كان نعيم الدنيا شبيها بنعيم الجنة لما كانت فائدة من اعتبار الدنيا دار شقاء وممر إلى  دار الآخرة حيث يوجد المقر الأبدي، فالله يريد من عباده أن يستمتعوا تدريجيا بمتع الدنيا حتى يصلوا  إلى المتعة الحقيقية التي لا تزول ،

فلو أتتنا الخيرات دفعة واحدة لكانت سعادته لحظية فقط. تخيل معي لو أنك ولدت في مكان تتوفر فيه جميع ظروف الرفاهية وكل ما يخطر على بالك من الملذات التي تظن أنها تحقق السعادة. هل كنت ستسعد مثل الذي لم تكن لديه وحصل عليها بمشقة؟ طبعا لا؛ لأنك لم تجرب نقيضها، لهذا يسعد الإنسان بالأشياء التي يدمر من أجل بلوغها أكثر من سعادته بالأشياء التي تهاب له دون بذل أي جهد، فالعادة وتكرار الأشياء تكسبها الملل، وما من أحد منا إلا وكان في يوم من الأيام يحب أكلة معينة فأقبل عليها  بشهوانية حتى صار يمكثها.

الحب وآثاره على النفس

نقرب الفكرة أكثر بأعقد ظاهرة عرفها التاريخ ولكنها ستسعفنا كثيرا في حل كل هذه الحبك المتشظية، فضلا على أنها أقصى ذروة للسعادة التي يتصارع الإنسان من أجلها، فهي نوعية لا تشبه كل ما توفره الأشياء المادية الملموسة؛ ذلك الشعور الملتبس الذي يفاجأ به المرء من حيث لا يدري، إنه الحب المجهول الذي نعرفه جميعا، ولكننا لا ندري متى يحل علينا، والأسوأ ليس في مجيئه، ولكن في عجزنا عن صده، لا يختار المكان ولا الزمان. والغريب فينا أننا لا نرفضه ليس لعجزنا عن طرده، ولكن لعلمنا بما يفعله فينا، من تغير في السلوكيات وهدوء واتزان في النفس، والأغرب من ذلك أننا نحب الحبيب بكل ما فيه من جمال وبشاعة، حتى إننا أحيانا لا نقبل بعض الطباع في أناس ونحبها في من نحب.

لماذا كل هذا هل فقد من أجل الحفاظ على الحب في ذاته أم للظفر بمن بعث فينا الحب؟ بعبارة أخرى هل يمكن  للحب  أن يحقق غايته وهو عاجز عن الاقتراب من المحبوب أم أنه غني عن ذلك؟

بعودتنا إلى التراث العربي سنجد لا محالة الجواب الذي سيكمل خطونا نحو الذي بدأناه  لنثبته، فأغلب الشعر العربي الجيد كان نديما للحب، ومن ذلك قول جميل بثينة:

وما ذكرتك النفس يا بثين مرة        من الدهر إلا كادت النفس تتلف

وإلا علتني عبرة واستكانة           وفاض لها جار من الدمع يذرف

فجميل بثينة أنشد هذه الأبيات الشعرية بعد أن تزوجت بثينة رُغما عنها، فسافر إلى مكان بعيد وما زاده البعد إلا عشقا وهياما في بثينة، فعاد ثانية ليجدها قد رحلت، مما أدى به إلى الهجرة إلى الشام، فظل على حاله إلى أن وافته المنية.

البعد لا يزيد الحب إلا حياة ونشوة

إن لم نقل بأن دوامه مرهون بمدى البعد بين الحبيبين. إن السعادة التي نستشعرها ونحن في أمس الشوق إلى رؤية من نحب لا يمكن للقرب من الحبيب أن يعلو عليها؛ فكثر من الزوجات المتعلقات بأزواجهن، يرغبن وينتظرن دخول الزوج إلى البيت بلهفة جنونية، ولكن سرعان يجدنه أمامهن ينصرفن إلى إتمام الأشغال المنزلية دون  أن يعرنه أي اهتمام، هذا إن لم نقل بأن الزواج هو مقبرة الحب.

فبعض النساء عندما يقعن في حب رجل معين يستعجلن رؤيته في كل وقت وحين، بل يصير الزواج هو همهن الوحيد، ولا يتركن الوقت الكافي ليستمتعن بلذة الحب التي يوفرها البعد، والصادم في الأمر أن كثيرا من الأزواج يلجأون  إلى الطلاق مباشرة بعد الزواج. لماذا؟

 الجمال في البعد وليس في الالتحام بالشيء.

هناك كثير من النساء أو الرجال الذين نعشقهم أشد عشق لما نرى فيهم من الصفات الجميلة، ولكنها صفات مشكوك فيها، فقد يكون الرجل حسن المعاملة، طيب العشرة في العمل، كريما مع أصدقائه، مؤدبا في الرد عند الغضب، فترى فيه المرأة الزوج المثالي الذي سيمنحها السعادة وتعيش معه في المدينة الفاضلة، ولكنها لا تعلم أنه ـ قد ـ لا يصلح أن يكون زوجا، فشخصه في الشارع ليس كما هو في عش الزوجية، وهنا نعود إلى حكمة الخالق من  حرماننا  بعض الأشياء التي نلحّ على امتلاكها لعلمه بما هو خير لعباده، كما يتجلى في قوله تعالى:” وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون”

العجيب أن نعلم أن الجمال قد يكون في بعد الأشياء عنا، ومن غبائنا  نسعى إلى إفساد سعادتنا بالاقتراب من ما  يمكنه أن يسعدنا وهو بعيد عنا، والأغرب أنني كنت سعيدة متشوقة قبل أن أرفع قلمي والآن أفسدت سعادتي.

بقلم: نورة لهنا

نعلم أن الجمال قد يكون في بعد الأشياء عنا، ومن غبائنا  نسعى إلى إفساد سعادتنا بالاقتراب منه.

 

أضف تعليقك هنا