الحب في غياب القلب

بقلم: نورة لهنا

الحب والقلب

كثير من الناس يعتقدون أن الحب مرتبط أساسا بالقلب، أي أنه يتكون ويحدث فيه بداية ويظل الإحساس به مقتصرا عليه في النهاية باعتباره العضو الوحيد المسؤول عن الشعور بالحب.

إن هذه الفكرة مستنبطة أساسا من ارتفاع دقات قلب الإنسان المحب عند رؤيته للشخص الذي يحبه، ولكن هذه الفكرة لا تحيلنا على أي منطق يفسر لنا كل التغييرات التي تحدث للإنسان عند الحب على مستوى السلوكيات، وبالتالي فخفقان القلب لا يمكن له أن يحل لنا إشكالية معقدة كهذه الإشكالية؛ ذلك أن أخذنا بهذا الاعتبار يجعلنا نسلم بأن الحب يقع في لحظة وجيزة، أو في رمشة عين، ثم إن قبول هذه الفكرة يجعل مجموعة من الأسئلة معلقة بدون جواب وعلى رأسها: كيف يحدث الحب؟ وكيف يختار الحبيب؟

عندما يتساءل العاشق عن سبب حبه لفلان بالذات، يجد نفسه أمام حيرة من  أمره، وهذا هو المستوى المعقول؛ لأن العقل الواعي في الإنسان لا يستطيع معرفة أشياء غامضة كهذه، بخلاف العقل الباطني الذي يعرف كل صغيرة وكبيرة، قديمة وحديثة، وخصوصا تلك الأشياء الدفينة التي مرت عليها آلاف السنون ولكنها ما زالت مخزنة في هذه المنطقة التي لا تشبع من الذكريات، والتي تحتفظ بأدق التفاصيل لدرجة أنها تستطيع ربطها بكل ما هو حديث.

الحبيب

اعتبارا لذلك وللمبدأ الفرويدي الذي يعتبر أن الغريزة الجنسية  عند الإنسان تبدأ منذ نعومة أظافره، يمكن اعتبار أن الحب يتكون وينمو مع الإنسان منذ صغره إلى كبره من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن معرفة الفترة الزمنية بالضبط التي حدث فيها الأمر، أو بعبارة أدق لا يمكن للإنسان أن يعرف الشخص الذي كان معيار الحب بالنسبة إليه، ولكن يمكنه معرفة الفترة والشخص الذي أجرأ الحب وبرزه :

بمعنى أن الحب كان موجودا بشكل ضمني  في داخل الإنسان ولكنه لم يظهر على المستوى الواقعي إلا بظهور الصورة المادية التي ينبني عليها، وهو الحبيب؛ ذلك أن كل شخص منا يمتلك صورة معينة عن فارس أحلامه أو فتاة أحلامه في العقل الباطني، ولكنه لا يتذكر كيف تكونت أو متى كان ذلك، ولا حتى الشخص الذي كان مصدر  الإعجاب والتأثير عليه فصار معياره في الحب وبالتالي في اختيار شريك عمره، وبمجرد أن يلتقي شخصا يشبه ذلك الإنسان يبدأ المرء يميل إليه بشكل لا إرادي، وبالتالي يكون الشخص قد عرف من أجرأ الحب ولم يعرف من كونه.

الحكمة من تعاليم الاسلام

وبعودتنا إلى الإسلام سنجد بعض الدلائل التي تؤكد هذا الاعتبار؛ بناء على أن الشرع لم يشرع شيئا أو يمنعه إلا لحكمة علمية ومنطقية. إن الحكمة من غض البصر لها دور كبير في حصول الإنسان على  متعة الحياة الدنيا, وخير متاع الدنيا الحياة الزوجية الهنيئة المبنية على الحب والمودة والسعادة.

إن تحقيق الحب بين الأزواج هو من المساءل القلائل التي يمكن أن نجدها في المجتمع المغربي, فنجد الزوج يعامل زوجه وكأنها أداة للإنجاب أو لممارسة الجنس والطهي، وهذا راجع بالأساس إلى غياب الحب خصوصا بالنسبة للرجل، ولكن السؤال الذي يستوقفنا هو لماذا يختار بعض الرجال الارتباط  بامرأة معينة عن حب وسرعان ما يتزوجونها تنقلب حياتهم إلى جحيم لا يطاق؟ هل يمكن للمحب أن يفعل شيئا كهذا؟ طبعا لا، إذن أين ذهب ذاك الحب؟ وهل فعلا كان حبا؟

إن الجواب عن السؤال الأول طبعا سيكون بالنفي، ولكن الجواب عن السؤالين التاليين فيه شيء من القول الكثير.

إشكالية تكون الحب

من الراجح أن الأمر يتعلق بإشكالية تكون الحب، فالرجل الذي لا يغض بصره خارج مؤسسة الزواج يستطيع أن يرى مجموعة من الصفات الخارجية لنساء كثيرات اللائي تعرف عليهن من قريب أو بعيد طيلة تجربته الحياتية، وهذه الصفات قد ينساها الرجل مع مرور الوقت، ولكن عقله الباطني لا يمكن له أن ينساها، إذ يكون قد سجلها جميعا ولكن بطريقة مغايرة لما هو واقعي،

فهو عندما يستجمع تلك الصفات التي تمثل الجمال الكمالي للمرأة الخارجي والداخلي، يعتبرها تتعلق بامرأة واحدة ويجعلها المعيار الأساس لحدوث الحب عند ذلك الشخص، وبمجرد أن يلتقي الرجل بامرأة تتوفر على بعض تلك الصفات أو على الأقل قريبة من تلك الصورة المتواجدة في عقله اللاواعي يبدأ بالميل إليها ويوهم نفسه أنه قد وجد الحب الذي كان يبحث عنه، ولكن سرعان ما يرتبط بها يجد نفسه أمام امرأة لا تمثل الجب الذي يطمح إليه، فلا يجد حلا غير الخروج من جديد إلى الحياة للبحث عن الحب الحقيقي المفقود من سنين، والذي في الحقيقة لا يمكن له أن يجده إلا في الوهم.

وبخلاف ذلك فالإنسان المؤمن الذي يغض بصره إلى أن يقرر الزواج باختياره لامرأة معينة يستطيع أن يقع في حبها وأن يعيش معها حياة متزنة لا مرارة فيها، ويمكن للحب في هذه الحالة أن يرقى إلى أعلى الدرجات؛ لأن عقله الباطني لم يسجل إلا صفات تلك المرأة بعينها وجعلها هي الحب الحقيقي بالنسبة  لذلك الإنسان.

العقل منبه الحب

من هنا فإن المنبه الأول بحضور الحب هو العقل الباطني للإنسان، والذي لا يمكن له أن يتواجد بأي شكل من الأشكال في القلب، ولكنه متواجد بالأساس في دماغ الإنسان، وبالتالي فهذا العضو هو المسؤول الأول والأخير عن الشعور بالحب، وقد تم التوصل إلى ذلك من خلال دراسة بريطانية كشفت عن وجود مراكز في الدماغ مسؤولة  عن ذلك.

يوجد في الدماغ مركزين يسميان بوتامين وأنسولا يقومان بالنشاط عند رؤية الإنسان للشخص أو الشيء الذي يحبه، ويزداد نشاطهما حسب درجة وصدق الحب، وقد تم التوصل إلى ذلك من خلا ل التجارب التي قام بها مجموعة من العلماء عن طريق مراقبة دماغ مجموعة من الناس من المشاركين في التجارب ولا حظوا أن نشاط هاتين المنطقتين يختلف من شخص إلى  آخر.

لماذا يقع الإنسان في الحب؟ وما حاجته إلى ذلك؟

إن سبب ذلك راجع إلى غريزة الحياة من جهة، ولكن من جهة أخرى وهي المسألة الأهم؛ لكونها تجعل شعور الإنسان بالتعاسة والمعاناة  التي تلازم البشر أمرا بعيدا للغاية ومنعدما بشكل افتراضي، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يحقق السعادة التي يسعى من أجلها وإن كان ذلك على حساب مجموعة من التغيرات التي تحدث للإنسان خصوصا على مستوى سلوكه، ولكنها هي التي تعطي للحب معنى ولذة ممتعة؛

لأن الإنسان يحتاج بين الفنية والأخرى إلى التجديد في حياته والخروج من الروتين اليومي القاتل، ووقوع الإنسان في الحب يجعله يشعر وكأنه ولد من جديد بسبب كل تلك المشاعر الغريبة التي تراوده وتجعله يغير من النظرة الناقدة لشخصه، إنها بمثابة حياة في عالم آخر، ولكنه ليس سوى عالم فسيولوجي يعيشه الفرد، فهرمون الحب المسمى  “الدوبامين” عندما يفرز يعمل على تحريك مجموعة من الخلايا والأعضاء التي تكون في حالة سكون تام وهو ما يسبب البهجة والسرور، وفي نفس الوقت يقوم بتهدئة المراكز المخية المسؤولة عن الخوف أو القلق من أي شيء، بل أكثر من ذلك، فقد بينت بعض الدراسات أن هذا الهرمون يخفف من حدة بعض الأمراض الجسدية.

هرمون الحب

إن إفراز الهرمون المسؤول عن الحب لا يقف عند حدود ما يحس به الإنسان ويعيشه بداخله دون أن يراه أحد، بل يتعداه إلى ما يظهر على الإنسان من علامات خارجية، وهي ما يمكن لأي شخص أن يراها.

من المعلوم أن الدماغ هو المحرك الرئيسي لكل أعضاء الجسم، وخصوصا الحواس الخمسة؛ لذلك فبمجرد أن يساور الإنسان الشعور بالحب يعمد الدماغ إلى ترجمته إلى مشاعر حسية من ما هو مخفي إلى ما هو ظاهري؛ فيشعر المرء  بالرعشة والخجل والعجز على الحركة والتلعثم وجفاف الريق وتعرق راحتي اليد، إضافة إلى ظهور بريق لامع في العينين مرفوقا  بابتسامة خجولة وصوت في قمة الرقة والحنان وتورد الخدود وبعض الحركات اللاإرادية مثل تحريك الأرجل أو حك الأنف أو فرك الأصابع، ويصاحب كل ذلك خفقان شديد في القلب؛ الشيء الذي يجعل من هذا الأخير مجرد عضو من الأعضاء التي تتحرك وتثور عند حدوث الحب وليس كفاعل رئيس في ظهور هذه المشاعر الغريبة عند بني البشر.

ويرجع ذلك بالخصوص إلى طبيعة الإنسان كحيوان عاقل وغريزي يفسر الأمور وفق ما يشعر به ويحس به وما يحدث له من تغيرات سلوكية تجعله مستعدا للتضحية بكل شيء مقابل الحصول على ذلك الشيء الجميل.

حاجة الانسان للحب

إن حاجة الإنسان إلى الحب ترتبط برغبته في الاستمرار في الحياة، وهذا الاستمرار لا يمكن له أن يتأتى دون  وجود حافر قوي، وما من حافز أقوى من الحب الذي يمكن له أن يتغلب على كل صعب وشديد، كما يجعل من الحياة سعيدة وسهلة رغم شقائها  وعلقمها المرّ.

هناك فرق كبير في العيش والنظرة إلى الحياة بين الذي يعيش مع الحب والذي يعيش بدون هذا الأنيس المذهل، فالأول لا يرى في الحياة إلا الوجه المسود لذلك يعيش مكتئبا حزينا تائها لا يعرف كيف يعيش الحياة رغم توفره على كل الشروط الضرورية للعيش بخلاف الثاني الذي يعيش بالحب ويفكر به ويعيش له؛ لأنه مزود بطاقة  داخلية قوية لا يعرف منها إلا الراحة والسكينة وإن حاول معرفة ماهية ما يشعر به جهله في كل محاولة، اقترابه منه كالماء المالح الذي يرويك ولا يرويك في آن واحد

إن حاجة الإنسان إلى هذا الشعور الغريب كبيرة، فبوجوده يهون كل شيء وبانعدامه يضمحل كل شيء, ولكن الأمر أهون بكثير من تجد الحب ثم تفقده، والأصعب من ذلك أن تجده ولا تستطيع الظفر به.

النسيان

وفي كلتا الحالتين لا بد من النسيان، وهذا ليس بالأمر السهل المنال، ولكنه شبيه بذلك السهل الممتنع؛ لأن المسألة لا تتعلق بشيء ملموس يمكن التحكم فيه، ولكنه مرتبط بعمليات كيميائية وفسيولوجية خارجة عن إرادة الإنسان. عندما يفكر المرء في الحبيب يقوم الدماغ بإفراز هرمون ” الأوكسيتوسين” وهذا الهرمون لا يمكن له أن يسحب من الجسم إلا بعد مرور أربعة أو خمسة أشهر، وفي كل مرة يفكر الإنسان بالشخص الذي يكن له مشاعر الحب يفرز الهرمون من جديد مرة أخرى ويحتاج نفس المدة الزمنية ليطرحه الجسم وهكذا…

يظل الهرمون يفرز والعاشق يتعذب ويعاني من الألم النفسي والجسدي بقدر عمق وصدق الحب؛ وبالتالي فنسيان الحبيب مرتبط _ حسب الخبراء_ بالشخص نفسه من جهة كونه هو الذي يساهم في إفراز الهرمون المسؤول عن الحب، ولكنه غير مسؤول عن ذلك من جهة كونه لا يستطيع طرح صورة حبيبه من مخيلته، ثم إن مسألة التفكير في عدم التفكير هي المسألة التي لا يطاولها الشك وفقا للمبدأ الديكارتي: “أنا أفكر إذن أنا موجود” فكيف يمكن للشخص أن يقنع نفسه بعدم التفكير في من يفكر به؟

زد على ذلك فأعراض الحب سواء الجسمية  منها أو النفسية تتشابه مع أعراض بعض المواد المخدرة مثل “الكوكايين” لاشتراكهم في إفراز نفس الناقلات العصبية، وبالتالي فالوقوع في الحب شبيه بالإدمان على المخدرات إن لم نقل هو الإدمان نفسه.

أعراض الحب

بعد أن يدمن الجسم على إفراز هرمون “الدوبامين” الذي يسبب البهجة والسرور والشعور بالسعادة، يصبح عيش الشخص بشكل عادي يتطلب وجود هذا الهرمون وإلا نتجت عن ذلك أعراض فضيعة وهي نفسها التي تصيب من يحاول الإقلاع عن آفة مخدرة.

بناء على ذلك يمكن اعتبار نسيان الحبيب شكل من أشكال إزالة المخدر من الجسم، يكون الأمر في البداية صعبا وأليما وينخفض الألم مع مرور الأيام والشهور والسنون حسب صدق وعمق الحب، لكن بعد مرور ثلاث سنوات يتغير الأمر إذ يمكن للحب أن يضمحل؛ على اعتبار _ حسب الدراسات _ أن العمر المفترض للحب هو ثلاث سنوات.

مراحل تطور الحب

لا أحد يستطيع أن ينكر أن المراحل الأولى في بداية العلاقة العاطفية هي أحسن ما يعيشه الإنسان ضمن مراحل الحب، وبعد مرور الأيام أو بالأحرى بعد الزواج تبدأ المشاعر في الاندثار والتلاشي بشكل تدريجي، اللهم إلا في بعض الحالات التي يكون فيها الطرفين يبدلان مجهودا شاقا من أجل أن يكبر هذا الصبي الشقي الذي لا يقبل الجمود والركون. بعد أن يعتاد الدماغ على محفزات الحب  ويلجأ إلى إنتاج هرمون معين، يحتاج علميا إلى تنبيه ” الدوبامين” من جديد لإبقاء الحب قائما، وذلك عن طريق التجديد وتشغيل مراكز اللذة ليعود كل شيء مختبرا مثيرا للسرور، وإلا أصبح الحب في مهب الريح، وهذه الأشياء أثبتها بعض  التجارب  الإنسانية الموجودة في الواقع المعاش.

أما في الحالات التي تنقطع فيها العلاقات وتأبى أن تصل إلى العش المفضل للحب بسبب ظرف من الظروف أو في حالة الحب الذي يكون من طرف واحد، يكون النسيان هو سيد المواقف، ولكن فسيولوجية الخلق الإلهي التي تعمل في استقلال عن المرء تحول دون ذلك رغم وجود المحاولات  العديدة التي يبذلها الشخص ولكنها تصل في غالب الأحيان إلى الباب المسدود. هنا يتدخل عامل الزمن الذي يستطيع أن يطرد هذا الضيف المتطفل من حيث لا يدري ولا يكلف أي مجهود، وهذا أمر ثابت بالتجارب الإنسانية.

اعتبارا لما سبق يمكن أن نجزم من جهة، وندحض من جهة أخرى الأطروحة التي تحصر الحب وتقيده ببعض الشروط التي هي في الأصل بعيدة عنه كل البعد؛ ذلك أن حدوث الحب لا يحتاج مؤسسة معينة  لكي يولد فيها ولا أرضية مفروشة بمجموعة من الشروط لكي يستلقي عليها، ولا رجلين لكي يستطيع التقدم، فهو غنى عن كل هذه التعقيدات. يحتاج فقط الخروج إلى الوجود واختيار بيت معين لكي يولد فيه وإن علم بأن مكوثه من المحال، ورغم ذلك تكون فعاليته قوية وإيجابية.

الحب الحقيقي

الحب الحقيقي هو الذي لا يقترن بمجموعة من الشروط، بل الذي يكون حبا لذاته، فلكي تعلن لنفسك عن حبك لشخص معين كان لزاما عليك أن تحبه وإن لم يحبك وتخلص له وهو يخونك وتستمر في حبه وأنت بعيد كل البعد عنه، هذا ما يمكن تسميته بالحب الحقيقي؛ لأن حلاوة الحب تتأتى للإنسان فقط بوجود  تلك المشاعر الحسية التي يعيشها في عالمه الداخلي دون  أن يحتاج من يشاركه إياها.

ويبقى الحب من أغرب الأساطير والألغاز التي يعجز العلم عن حلها، كما لا يستطيع المرء إدراك ماهيتها، إنه بمثابة العدو اللذيذ الذي يطعنك من حيث لا تدري ولا تستطيع الظفر به, ومع ذلك لا يمكن  لك إلا أن تعامله معاملة الأم الحنون لابنها الشقي.

 

بقلم: نورة لهنا

ويبقى الحب من أغرب الأساطير والألغاز التي يعجز العلم عن حلها، كما لا يستطيع المرء إدراك ماهيتها، إنه بمثابة العدو اللذيذ الذي يطعنك من حيث لا تدري ولا تستطيع الظفر به.

 

أضف تعليقك هنا