الوجه القبيح لديموقراطية العم سام..

استعجبت عن مدى تأثير المثل الروماني الأشهر “ذاك الساعي للسلام فليتأهب للحرب..” في الأوروبيين والأمريكيين بعد أن قرأت تصريح لروبرت جيتس وزير الدفاع الامريكي الأسبق في العام ٢٠١٠ يقول أن: التعامل مع مثل هذه الدول الفاشلة والمقسمة هو من نواح عدة التحدي الأمني الرئيس لعصرنا.

وبدا التشابه جلياً في خارطة الصراع العالمي وجغرافيا العنف السياسي التي قدمها المؤرخ الإقتصادي “إيمانويل وولرشتاين” باستخدام مصطلحي ” المركز” و”الأطراف”؛ مع الخارطة التي قدمها “توماس بارنيت” في شأن الجولة الثانية من ألعاب الحرب في دول “الفجوة” والتي هي دول “العالم الثالث” أو بالمصطلح الحالي “الدول الفاشلة” حين قال:

“أرني كيف تكون العولمة كثيفة باتصالات شبكية وتحويلات مائية وتدفق إعلام حر وأمن جماعي وسأريك مناطق تظهر فيها حكومات مستقرة ومستويات عالية من المعيشة ووفيات أكثر بالانتحار أكثر من القتل، هذه الأجزاء من العالم أدعوها بالنواة العاملة أو النواة … والعكس هي دول الفجوة … لذا أين سنبرمج الجولة الثانية من ألعاب الحرب الأمريكية في الخارج؟ يقترح النمط الذي ظهر منذ نهاية الحرب الباردة إجابة بسيطة:في الفجوة..”

وتجلى الارتباط وثيقاً بين مدلول خارطتي الصراع السالفتين، وبما قاله “جوزيف ناي”؛ إن روما لم تخضع لنشوء إمبراطورية أخرى ولكنها تداعت أمام هجمات “البرابرة”، والإرهابيون -يقصد التكفيريون المتأسلمون- هم “البرابرة الجدد”. لكن لا تستطيع أميركا شن حرب كلما رغبت دون أن تنفر بلداناً أخرى وتخسر التعاون الذي تحتاج إليه لكسب السلام.

ففي الحقيقة ولكي يستطيع عقلي أن يعالج موضوع كموضوع “”؛ كان عليّ أن أعرض نماذج تبسيطية تبدأ من الحرب الفارسية الأولى ضد العالم اليوناني القديم في القرن السادس قبل الميلاد، ثم حرب المستوطنيين الأوروبيين على هنود السهول الشرقية في أميريكا الشمالية، وأخيراً وليس آخراً الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي وأثرها علي عالمنا الحاضر.

فبالعودة ألفين وخمسمائة عام للوراء ؛ حيث كان حلف “ديلوس” وبالرغم من فاعليته؛ من خلال التساوي في الأصوات ما بين أكبر مدينة/دويلة وأصغرها، وبساطته التنظيمية إلا أنه في واقع الحال؛ كان يخدم الإمبراطورية الأثينية التي ولدت بعد الإنتصار في سهل ماراثون. ومن الناحية العملية كانت بإمكان أثينا، بضخامة تأثيرها على المدن/الدويلات الصغيرة لإسهامها في الحلف بالموارد و السفن، أن تهزم المدن/الدويلات الكبيرة التي قد تتحدى رفعة المكانة الأثينية بحشد أكبر عدد من أصوات المدن/الدويلات الصغيرة.

ولكن المثير هو أنه وبعد عشر سنوات من تأسيس الحلف، وبعد الخسائر المدمرة التي منيت بها أثينا في الحرب “البيلوبونيزية الأولى” ضد إسبرطة (460 ـ 445 ق.م) ، وكذا فشل الحملة الأثنينة على مصر في “455 ق.م تقريباً”؛ تشجع العديد من الحلفاء وتمردوا على أثينا. “.. بيد أن الأثينيين سارعوا لسحق هذه الحركات بشكل خاطف ومؤثر، واتخذوا لاحقاً تدابير والخطوات التي تتضمن عدم تكرارها؛ فأقاموا في بعض الأماكن حكومات ديموقراطية موالية لهم ، وتعتمد عليهم كلياً، بل وفي بعض الأوقات أسسوا مواقع وثكنات عسكرية ، وكلفوا مسئولين أثينيين أحياناً بإدارة شئون الدويلات التي سبق لها التمرد ..”.

وفي أربعينيات القرن الخامس قبل الميلاد، لجأت أثينا إلى أن تفرض على حلفائها استخدام الأوزان والمقاييس والعملات الأثينية وإغلاق دور السك المحلية ؛ … وحرصت على تشديد قواعد تحصيل مبالغ الجزية أو الضريبة التي تدفع كمساهمة في “حلف ديلوس”وتسليمها إلي خزانة الحلف، وجعلت أثينا موطناً لعقد المحاكمات لأولئك الذين توجه إليهم تُهم انتهاك هذه القواعد وخرقها، وفي العام (545 ـ 453 ق.م) جرى نقل خزانة حلف من مقره (في جزيرة ديلوس) إلى الأكروبوليس -مقر الحكم- في أثينا، وكان التبرير الرسمي، أن كان احتمال هجووم الفرس البحري على بحر إيجة.

ثم انتقلت إلي العصر الحديث (١٥١٧-١٩٤٥تقريباً) .. ففي القرن التاسع عشر ، أُخضِع سكان أميريكا الأصليون لمشروع له من الوحشية قدر أكبر من بساطته على يد المستوطنين الأوروبيين، وكان النموذج المبكر فيه هو هنود “التشيروكي”؛ حيث قال عضواً في الكونجرس “عليهم إما أن يغيروا من نمط حياتهم، أو الموت”. واختاروا الخيار الأول؛ وبعد قرن واحد تقريباً تم تحويل “التشيروكي” إلى آلة انضمت لسيارات العضلات الامريكية، كتعبيراً رمزياً، عن حداثة تلك القبائل التي كان للجنس الأبيض الفضل فيها.

وفي “نيو مكسيكو” الحالية تم استعمال نظام الدوريات لمضايقة محاربي “الأباتشي”، وأنشأ أيضاً نظاماً للمرايا الموضوعة أعلى الجبال تتواصل بالإشارات، فمد هذا من تحكم المستوطنين بالمعلومات على مساحة شاسعة من الأراضي، وبهذا يمكن تتبع خط سير تاريخ ما نعرفه اليوم بطائرات دون طيار -الدرون؛ وهكذا تكون حوامة “الأباتشي” تعبيراً كاملاً عن ما جرى ضد من تحمل إسمهم وتتطور فيما بعد للدرونز.

وأيضاً، قبائل السايوكس Sioux الذين هزمهم المستوطنين عن طريق محاكاتهم؛ فقد حلت وحدات صغيرة وسريعة وخفيفة من الفرسان محل التشكيلات الكبيرة، مخفضةً من اعتماد الجيش على قطارات إمداد طويلة مهددة، وعملت فرق الخيالة عن قرب مع المرتزقة من هنود قبائل “الكراو” و”الإيكاروس”، بجانب استخدام المبدأ الروماني “فرق تسد Divide et empera” ضد القبائل لتسهيل الإقتتال الداخلي، وخلق تابعين محليين من الهنود، وبهذه الطريقة قُتِل أحد أقوى زعماء الهنود ويدعوه بالـ”الثور الجالس” بواسطة محاربيه السابقين الذين تحولوا إلى شرطة المحمية .

وفي العصر المعاصر (١٩٤٥تقريباً – اللحظة)؛ وحيث أدت الرأسمالية “غير المقيدة”، التي تركت وشأنها؛ إلى عدم استقرار مالي أدي لحربين عالميتين، وبعدهما أزمتين ماليتين في ١٩٧٣ و٢٠٠٨م ؛ فإن التأثير تضاعف بسبب الآثار الجانبية لاستراتيجيات “العسكرة”، “والمسارات الإقتصادية الليبرالية الجديدة للرأسمالية” في مرحلة الحرب الباردة (١٩٤٥-١٩٩١ تقريباً).

فالحروب بالوكالة تركت في “العالم الثالث” -او”دول الجنوب” بالمصطلح الجديد – تراثاً مكوناً من مجموعات مسلحة وأسلحة رخيصة وشبكات تهريب . ودفعت السياسات الإقتصادية الليبرالية الجديدة ـ الخصخصة ورفع التحكم الإقتصادي ـ إلى أزمة عدم المساواة في إعادة توزيع الثروات، ووفقاً لوجهة نظر الكثيرين الآن؛ فقد انضم أخيراً “تغير المناخ” الآن إلى هذه الأزمات، ويعمل كمسرع لها؛ ويدعوه البنتاجون ب”مضاعف التهديد”. فعلى مدى الكوكب بأكمله -كما تشير التقارير الرسمية- يثير الطقس العنيف وشُح المياه صراعات اجتماعية، قائمة مسبقاً، ويسرعها.

ولهذا تعتقد الولايات المتحدة أنه “.. وبدلاً من القلق حول حروب تقليدية على الغذاء والماء، فقادتها يرون بروز جغرافيا جديدة مكونة من حروب أهلية وتدفق لاجئين ومذابح دماعية وانهيار اجتماعي مدفوعة كلها مناخياً. واستجابة لذلك يتصورون مشروعاً مفتوحاً لـ “مكافحة التمرد” يطبق على مستوى عالمي.

وما يجري الآن، طبقاً لرؤية “كريستيان بارينتي” ، هو شيء يشبه الحروب ضد هنود السهول، فبعد انتهاء الحرب الباردة أضحت الولايات المتحدة وفقاً لما جاء في الكتيب الحقلي للجيش الأمريكي حول مكافحة التمرد الصادر في ديسمبر 2006: “تمتلك .. تفوقاً عسكرياً تقليدياً هائلاً، ودفعت هذه القدرة أعداءها إلى محاربتها بطرق غير تقليدية مزجت بين التقنية الحديثة والأساليب القديمة في مكافحة التمرد والإرهاب… تشكل هزيمة مثل هؤلاء الأعداء تحدياً كبيراً للجيش والقوات البحرية.”

ولكن؛ “لا يمكن لإمبراطورية أن تصطاد الذباب بمطرقة..”
وليكون عنف الجيش الأمركي فعالاً ، يجب أن يُطبق بتحفظ ـ كبير بالنظر إلى قدراتها ـ وبدقة . ويتطلب أسلحة أصغر ، وحركة أكبر ، وتكتيكات أذكى قادرة على تحقيق انتصارات سياسية غير تقليدية مثل : تحييد سكان ثائرين ، وهزيمة قوى غير نظامية ، واحتواء تدفق اللاجئين واستبعادهم ، وقمع جماهير جائعة في المدن . وبالتالي فإن ما يدعي “مكافحة التمرد COIN ” هي الموضة السائدة . ولكنها للأسف ليست إلا جزء من المشكلة وليس الحل . فأساليبها مخربة ومفتتة إجتماعياً .

وكعقيدة، فإن “مكافحة التمرد” هي نظرية الحرب الداخلية؛ إنها استراتيجية، هدفها الأول هو المجتمع المدني ككل، والنسيج الإجتماعي للحياة اليومية، وتستهدف المستوى الشعري الدقيق من العلاقات الإجتماعية، فهي تصدع وتمزق – لكنها لا ترمم – العلاقات الإجتماعية الحميمة بين الناس، وقدرتهم على التعاون، ونسيج التضامن المعيشي ـ بعبارة أخرى فإنها تستهدف الروابط التي تشكل أواصر المجتمع.

وتحت هذه الظروف، تتمحور الإستراتيجية والتكتيكات الآن حول: النفسية، والدين، والبنى العمرية، والطقوس، والتقاليد، والروابط العائلية، والأنشطة الإقتصادية، والإحساس بالمكان، تهاجم مكافحة التمرد مدمرة عن قصد العلاقات الإجتماعية في مكان ما، وتحاول إعادة صياغته، لكنها أثناء العملية تساعد في إطلاق عمليات ذاتية التغذية من التفكك الإجتماعي.

وباختصار، كل المؤسسات الرسمية والغير رسمية للحياة العادية .. المجتمع هو الهدف وهو لذلك محطم ..!

المصادر:

  • كريستيان بارينتي.. مدار الفوضي..
  • فيكتور دايڤز هانسون.. صانعو الإستراتيچيات القديمة من فارس إلي روما..
  • چوزيف.إس.ناي.. القوة الناعمة..

فيديو مقال الوجه القبيح لديموقراطية العم سام..

أضف تعليقك هنا