عمامة السياسة !

مدخل لفهم علاقة التصوف بالسياسة في دول جنوب الصحراء “السودان نموذجا”

هجرت في حُبِّكم يا سادتي ناسي … ولامني في هـواكـم كل جلاسي..الحلاج

صورة الرجل الزاهد الذي يجلس علي فراش من الحصير يتعبد ليلا نهار قد تكون تلك الصورة المنحوتة والمحفوظة عميقا في المخيال الاجتماعي لشعوب دول شمال وغرب افريقيا عندما يسمع  في تلك المناطق كلمة “متصوف”او”صوفي”.

فالمتتبع لحال الصوفية في افريقيا ودخولها لدول جنوب الصحراء يجد انها مرت بعدة مراحل فمن مرحلة العابد الزاهد الذي يمكن ان نسميه ب”السائح” الذي يهيم ويجوب القرى والبوادي داعيا للمحبة ولله تلك المرحلة التي يقول فيها الحلاج “لولاك يا سيدي ما غبت عن وطني … ولا  تغربت عن اهلي و عن ناسي” مرحلة مليئة بالاغتراب واعتزال الناس .

ثم سرعان ما تتحول  الي مرحلة “الشيخ المستقر” الذي له خلوة “خلوى” زاوية لتدريس تعاليم الدين والقرأن ياتي اليها الناس ثم تتحول الي مركز ديني ثم سرعان ما يصير مركز اقتصادي لحاجات الذين اتوا لاشباع حاجياتهم الروحية ويمكن ان اسميها هنا مرحلة اللاخلوة حيث تتحو رمزية الشيخ الي مركز ديني بعد سنوات الانعزال والطواف تلك وتاتي الوفود لنبع كراماته ومقدراته علي اشباع نفوسها والغفران.

ثم تأتي المرحلة الثالثة مرحلة التي تلي حياة ذلك الشيخ وتأتي بعد موته وتأسيس واقامة المقام”المزار” ومن بعده توريث حقه وسلطانه الديني لذريته والاقربين وهي المرحلة مقام كتابة هذا المقال وهي مرحلة “جماعة الموت الترميزي” وهي الجماعة التي تحتمى بأرث قديم يحقق انتماءها لشيخ او طريقة معينة وهي مجتمع له اهداف واخلاقيات واحتياجات يحققها يفيد ويستفيد من خلال علاقاته واحتكاكه ببقية المجتمعات.

ما السياسة؟

اذا كانت السياسة مجهودات فردية أو جماعية، من أجل الوصول إلى السلطة أو التأثير في مساراتها،كما يعرفها علم الإجتماع السياسي فالتصوف يحمل نفس الفكرة لكن بشكل اكثر مثالية وينشد سيطرة الحياة هذه والمنفلت منها بالاضافة للميتافيزغيا ولكن الفرق انه مجهود فردي في مرحلة السائح لكن سرعان ما تتحول الي فكرة جماعية مع تأسيس “جماعة الموت الترميزي” .

وتتحول سلطة الشيخ الي سلطة ومحاولة تأثير علي حيوات الاخرين من التابعين بدون قوانين وبزات عسكرية ومحاكم بل بمحاكم اجتماعية تفرضها الجماعة وقانون للجماعة معروف ضمنيا لكل اعضاء الطريقة وهي مجموعة علاقات مترابطة داخلية يكون في راسها الشيخ او الخليفة وبعض معاونيه بالاضافة لعلاقات الطريقة الخارجية التي تكون سلطة مطلقة للشيخ  الصوفية تنزع إلى الزهد وصرف النظر عن مباهج الحياة لكن يبقى ذلك بيد الشيخ فهو الامر والناهي والممثل للطريقة في علاقتها الخارجية .

علاقة التصوف بالسياسة في دول جنوب الصحراء

في دول جنوب الصحراء ظهرت علاقة التصوف بالسياسة مع اول قيام دولة اسلامية وهي السلطنة الزرقاء في وسط السودان التي قام ملوكها بدعوة وتشجيع العلماء من بقية الدول للدخول وبناء مراكز ومدارس لتدريس وتعليم علوم الدين وكانت المتصوفة يمثلون سلطة الدولة التشريعية حيث تمت الاستعانة بهم في العديد من فتاوى التشريع فكل قصص الشيخ فرح ود تكتوك كمضرب مثل لها احتكاك بالسلطان وسلطاته وصراعاته مع الزبالعة.

  وفي مصر

كانت علاقة المماليك وطيدة جدا بالمتصوفة للتشريع وسن القوانين وحتى تطورت لتصل لتعيين الحاكم العام للدولة ويمثل نموذجها ابوسعود الجارحي وامتد لعصر العثمانيين وحكم الانكليز ومع قدوم محمد علي باشا الي السودان ومصر حاكما وواليا لهما ظهرت دعواته لدخول الصوفية للبلدين فدخل الطريقة الميرغنية الي السودان بتشجيع ودعم مباشر من محمد علي باشا امتدادا لعلاقة المتصوفة وشيوخهم بسلطات الحكم التركي .

ومن بعده الاستعمار الثنائي علي السودان ومنحت الحكومة الاراضي والاملاك لشيوخ الطرق كما سمحت لهم بجنى الزكاة سيطرت الحكومة السيطرة  علي الطرق الصفوية عليها بسبب فكرة القيصرية cesarlism  وهي التبعية العمياء للشيخ “الخليفة” كامام وقائد سياسي واقتصادي  للجماعة كنظام شمولي يحتكر كل السلطات فتوجب علي الحكومة اقناع الشيخ فقط لضمان اقناع الالاف من مريديه وتسهيل عملية جنى الضرائب  وملاحقة المخالفين وان كان الحكم التركي انتهى بفكرة صوفية بامتياز .

وهي “المهدية” الا ان المهدي طالب التصوف قام بنفسه بأصدار منشور يلغى فيه الطرق الصوفية “”تعددت الطرق واختلفت حتى ظن أن كل شيخ يقوم بتأسيس دين جديد وأن غيره من زعماء الطرق خارج عن الدين وحتى ضل القوم ضلالاً مبيناً وأصبحوا يوجهون أنظارهم لمشايخهم بدلاً من ينبوع الدين والعرفان الأصيل القرآن الكريم والسنة المطهرة”.

علاقات تورارثتها الحركات التحررية البعد استعمارية  postcolonialism التي وجدتها نفسها في اول امتحان محتاجة لتلك السلطة لتحقيق نصر سياسي في الانتخابات والولاء الكامل لمؤسسة الدولة  ومن هناك بدأت علاقة الحزبين الكبيرين بطائفتي الختمية والانصار، واخذت تلك العلاقة منحى اخر مع قدوم الحركة الاسلامية”حركة الاخوان المسلمين السودانية” وتكوينها لجبهة الدستور الاسلامي التي لاول مرة يرى فيها جماعة صوفية يكتب اسمها عيانا في تحالف سياسي حيث ضمت الجبهة الطريقة التيجانية .

“الواقف بأبواب السلاطين واقف بأبواب الشياطين”

وفي عصر حكومة مايو-نميري- شهدت التصوف علاقة مباشرة مع راس الدولة التي سن القوانيين بناء علي اشواقه الصوفية وامتدادا لعلاقاته بطرق صوفية متعددة انتهت بسن قوانين سبتمبر قوانين الشريعة الاسلامية التي علي اثرها تم اعدام الكثير من “المهرطقين” كعصور التنوير في اروبا وعلي راسهم المتصوف السياسي الاكبر الاستاذ محمود محمد طه .

لكن تلك العلاقة اخذت تغييرا كبير مع قدوم الحركة الاسلامية للحكم فظهرت الطرق الصوفية كمدارس لاعداد كوادر المجاهدين وظهرت كمدارس عرفت بالمدارس الاهلية التي يستطيع الطالب عن طريقها الالتحاق بالجامعة دون المرور بالنظام الاكاديمي المعروف وفتحت الجامعات التي تماثل الازهر الشريف في مصر كالجامعة الاسلامية وجامعة القرأن الكريم وظهرت تمثلات الطرق الصوفية بطريقة واضحة في الية صنع القرار وتعيين المسئولين التنفيذيين وظهرت هنا سلطة الطرق الصوفية وعلاقتها المباشرة بالدولة في شكلها الحديث كذلك في مصر خصوصا في انتخابات 2011 وفي تركيا وعلاقتها بحزب العدالة والتنمية وان كانت تجربة تركيا اقدم من عهد حزب “النظام” .

والان  ونحن تحولات نشهد ديموغرافية وفكرية وسياسة في مجتمعاتنا وسباق التحول الي الدولة المدنية التي يحكمها الرئيس “الخادم Server” الموظف دولة الحريات والمواطنة التي تنظر لكل مواطنيها علي حد سواء بلا تفريق او تقديم ويعمل ساستها علي اقناع ناخبيهم بدون استغلال علاقات المال والدين وطرفة في صناعة الافكار واعادة نشرها في عصر النظام العالمي  ،

علينا العمل في نفس الوقت علي تكسير تلك الافكار، ومحاولة تفكيك علاقات التصوف بالسياسة والعودة بالمتصوفة للمرحلة الاولي مرحلة التي ينشد فيها الحلاج “ما لي وللناس كم يلحونني سفها…ديني لنفسي ودين الناس للنـاس” وان كان التغيير يحتاج لكتلة حرجة لكن اعادة صنع نفس النظام الاجتماعي لا يحدث تغيير حقيقي بقدر ما يحدث تغيير طفيف قشرى في بنية المجتمعات والدول لا اتحدث عن هدم كل المتوارث ولكن الاجتهاد وتحسينه بالروح التي توافق الديمقراطية والحريات الفردية  .

 فيديو مقال عمامة السياسة !

أضف تعليقك هنا

خالد سراج الدين

خالد سراج الدين

من السودان