الديمقراطية بين رحي التخوين والتكفير

الحقيقة أن الديمقراطية لا تسبب إزعاجًا للأنظمة الديكتاتورية فحسب ، لكنها تسبب إزعاجًا كبيرًا للأحزاب الإسلامية أيضا ، جرب وقل هذه الكلمة في نقاش موضوعي أمام كلا الطرفين ، ستجد كمًا رهيبًا من الإتهامات قد وجه إليك وألصق بك ،

الطرف الأول سيتهمك بالعمالة والخيانة ومحاربة الإستقرار لأنك ضد سياسته المتعسفة والتي ترتكز علي قمع الحريات وتكميم الأصوات ،أما الطرف الثاني سيوجه لك إتهامًا بأنك علمانيًا تحارب الدين وتعترض علي تطبيق الإسلام وتقف حاجزًا في طريق الأمة ..

لماذا كل هذا الإعتراض علي شعار الديمقراطية ؟

بالنسبة للطرف الأول الذي ينتهج الديكتاتورية كحجة لاستقرار البلاد ، فمن الطبيعي أن يحارب الديمقراطية لأنها نشأت أصلًا كرد فعل لإنهاء نظامه الديكتاتوري والمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية ، فالديكتاتور دائمًا ما يري الديمقراطية تهديدًا حقيقيًا لوجوده وهو بذلك لا يجد مخرجًا إلا أن يتهم المعارضة بالعمالة والخيانة ، ثم يبني نظامه علي فكرة الحزب الواحد الذي لا وجود لصوتٍ غيره ، وبذلك يعتبر أن من يقف ضده خائنًا البلاد محاربًا استقرارها ،

فالصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية مفهوم بالنسبة لنا ،أما الغريب أن تكون الديمقراطية محل اعتراض الكثير من الإسلاميين أيضًا ، فأنا لا أري تناقضًا بين الديمقراطية وبين ما يدعوا إليه الإسلام من تحقيق الحرية وتطبيق العدل ،

إن أول ما يتهمون به الحركة الديمقراطية أنها تمثل العلمانية وتحارب الدين علي حد قولهم ، والحقيقة أن هناك اختلافًا كبيرًا بين الديمقراطية والعلمانية في عقول الناس ،

ما الفرق بين الديمقراطية والعلمانية ؟!

فالعلمانية تدعوا إلي الفصل الكامل بين الدين والدنيا وتمنع تدخل الدين في حياة الناس ، وهي نشأت في الأساس كحركة اعتراضية علي تجبر الكنيسة في أوروبا ودعمها للإقطاع ووقوفها مع الأشراف ضد الطبقات الكادحة ، ورعايتها للظلم ،

فكان من الطبيعي أن ثار الناس ضد الكنيسة مطالبين بفصل الدين عن الدولة وحجب سلطة الكنيسة من التدخل في حياة الناس ، حتي أنهم أعدموا القساوسة لكثرة تجبرهم علي الفقراء ، وبذلك كانت العلمانية ضرورةً لتقدمهم وتخلصهم من هذه السلطة الظالمة ،

أما الديمقراطية فلها أهداف ومبادئ مختلفة ، فهي تدعوا بشكل واضح وصريح إلي إشراك جميع الفئات في العملية السياسية للوصول بالدولة إلي بر الأمان ، وهي لا تشترط الفصل بين الدين والدنيا ولا تحارب وجود الدين كمصدر من مصادر التشريع أو كمرجع معتبر في تحديد المباح وحظر الممنوع ، كما أنها تسمح لكل الفصائل بالمشاركة في صنع القرار ولا تمنع أي حزب من العمل السلمي سواء كان إسلاميًا أو غير ذلك ،

والمختلف في الأمر أنها تضمن التفاف الناس حول المصلحة العامة ، وتضمن أيضًا التعاون المستمر بين الحزب الحاكم والمعارضة ،

كما تقلل من احتمالات حدوث الفتن وتنفيذ المخططات ، لأن الناس تتعاون مع النظام الديمقراطي الذي يمثلهم جميعًا طالما يحقق الأهداف ويحترم الأعراف ، فمن الصعب التغلب علي هذا النظام وتدميره ، بعكس الشعارات الإسلامية التي تمثل رائحةَ دمٍ بالنسبة للحيتان ، فهذه الشعارات تكون مبررًا لتآمر الخارج والداخل علي استقلال الدولة ونيل حريتها مما يسهل سقوطها وزرع الفتن بين أهلها ،

وعلي صعيد آخر فالديمقراطية نشأت كرد فعل علي الديكتاتورية بأشكالها المختلفة وليست لمحاربة الدين كما هو الحال في العلمانية ،

كما أن هذه السلطة التي تمارسها الكنيسة ليست موجودة عندنا في الإسلام لكي نطالب بفصل الدين !

هل يقف الشعب بجانب الديمقراطية ضد الدين ؟

الحقيقة أيها الكرام أنه ليس هناك من يحارب الإسلام من أبنائه ، والمطالبة بالديمقراطية لا تتعارض مع حب الدين واحترام شرائعه ، والدليل علي ذلك أن الشعب لا يمانع أبدًا أن تتواجد الأحزاب الإسلامية في العملية السياسية ، فحتي أوروبا يوجد بها أحزاب دينيه تشارك في السياسة ،

إذًا فما حقيقة الإعتراض ؟

لكن حقيقة الإعتراض التي يحاولون الهروب منها تكون علي مبادئ هذه الأحزاب الدينية القائمة وطريقتها في العمل السياسي وعدم قدرتها علي كسب المعارضة وتحقيق الأهداف ، فالناس فقدت الثقة في العديد من الأحزاب الإسلامية _ كحزب النور مثلًا _ لأسباب نعلمها جميعًا ،

منها أنهم يستخدمون الدين كوسيلة لألعاب سياسية بحتة ولتحقيق المصالح الخاصة ،ورغم أن التجربة قد أثبتت فشل هذه السياسة وعدم ارتياح الناس لها إلا إنهم يصرون علي هذه الأساليب الرخيصة ،والإسلاميون لهم من المناهج ما يضعف من مواقفهم ، فهم حينما يفشلون في السياسة لا يعترفون بأخطاءهم ، وبدلًا عن هذا ، يقومون فقط بإسقاط الدين علي الواقع حتي يصوروا للناس أنها حرب علي الدين ، وهي في الواقع أمورٌ لا تتخطي طبيعةَ السياسة القاسية ،لكنهم يصرون علي تحويل اللعبة السياسية إلي حرب دينية لكسب تعاطف العامة وصرف العقول عن أخطاءهم التي تسببت بشكل أكبر في الوصول إلى هذه الأهوال وكانت بمثابة الجسر الذي مهد للديكتاتورية طريقها ،إذاً فالحقيقة تكمن في عدم ثقة الناس فيمن يمثلون الأحزاب الإسلامية وليست القضية في محاربة الدين إطلاقًا كما يتم الترويج ،

ما حدث أن الأحزاب الإسلامية فشلت في التغيير التدريجي المتقن الذي يشجع الناس علي قبول الحكم تحت شعار الإسلام ، وحينما اتضح لهم ذلك الفشل اتهموا الناس بالانقلاب علي الدين ، وكان من الأولى لهم تدارك هذه الأخطاء والإعتراف بخسارة المعركة وفقد الشرعية السياسية ومن ثم الإنسحاب المتواضع لصالح الثورة وتجنيب البلاد لهذه الدوامات ،

لماذا نطالب بالديمقراطية طالما أن الإسلام يضمنها لنا ؟

نطالب بها لأننا لا نجدها تخالف تعاليم الإسلام أولًا ،

كما أنها تضمن الشفافية في وجود الكفاءات التي تستطيع التغيير وتحقق التطوير بالعقل والفكر دون الإعتماد علي الدين كشعار ومبرر للوصول إلى الحكم والخروج من المآزق السياسية ،

بالإضافة إلي أنها تؤمن الوحدة بين الأحزاب المتعارضة وتحفظ الشرعية السياسية للحاكم ، وهي بذلك تقوم علي إشراك الناس في الحكم ، ونلخص ظهور الديمقراطية في عبارتنا :

إن الحركة الديمقراطية نشأت نتيجة الصراع الطويل بين الفاشية العسكرية والفاشية الدينية ،

ولا نقصد الهجوم علي الدين أو اتهام منهجه باستخدام كلمة فاشية لا سمح الله ، لكننا نقصد بها سياسة الجماعات والأفراد التي تتخذ من الدين ستارًا للخطأ ومخبئًا من الإعتراف والمواجهة ؛

فالعقود الأخيرة قد أثبتت للأسف أن الدين قد يستخدم كشعار لتحقيق الأطماع السياسية ، فها هو البشير قد حكم السودان ثلاثين عامًا بانقلابٍ علي الحكومة المنتخبة ، وساعده علي ذلك التحدث مع الناس باسم الدين ورفع راية الإسلام ، حتي أن الكثير من الإخوان قد دعموه وعملوا معه رغم أنه جاء بانقلابٍ عسكريٍ واضح ، كما أنه طوع الإسلام للإرهاب معارضيه ،

وها هم الإخوان أيضًا قد اعتلوا الثورة في مصر ووصلوا إلي الحكم تحت شعار الإسلام رغم قلة كفاءاتهم ونقص خبراتهم وتميعهم في المواقف السياسة منذ بداية تخليهم عن أهداف الثورة وحتي وضع أيديهم في يد المجلس العسكري ،

ولو كان الشعب يحارب الدين ما سمح لهم بالوصول إلي الحكم من البداية ، لكن الحق أنهم لم يثبتوا استحقاقهم لهذه المناصب فقام الناس بسحب الثقة منهم ولم يسحبوا الثقة من الدين نفسه والعياذ بالله ..

آن لنا جميعًا أيها الأفاضل أن نستعمل عقولنا ونعرف أن خيرَ مخرجٍ من هذه الأحداث هي الديمقراطية التي تمثل بداية التدرج في التغيير المتقن السليم ، وكما يقول الغزالي :

أنه ما دام النظام الذي يطالب به الناس ويلتفون حوله لا يتعارض مع أساس الدين ومبادئه ،

فلا مبرر حينها للتمسك بالشعارات الحزبية والتعصب الأعمي لها ؛ لأن هذا يعتبر انتصارًا للأطماع السياسية علي حساب المصلحة العامة للدين والوطن علي حدٍ سواء ، والعاقل يعرف أن التدرج هو المنهج الصحيح لتغيير الفساد المتراكم ، وليس الحكم هو غاية المسلم ..

#الديمقراطية_هي_الحل

فيديو مقال الديمقراطية بين رحي التخوين والتكفير

 

أضف تعليقك هنا