الشغور الأخلاقي على بساط الترف

النقد الأخلاقي لحياة النبلاء في عصر التنوير

في عمل كان متمحورا حول استهجان إضمحلال القيم واستتار المبادئ في حياة أرستقراط ونبلاء العصور الوسطى إلى ما قبل قيام الثورة الفرنسية ١٧٨٩م– أغرق الكاتب الأديب والشاعر الإيطالي الشهير Giuseppe Parini في إنكار حياة النبلاء عليهم، والتي تكون عادة مترعة بالكسل، واللامبالاة حتى الأخلاقية، وخاوية من أية مبادئ أو قيم، وغنية بالعادات الفاسدة العفنة.

عصر النهضة الإنسانية: الحركة التنويرية

 كانت هذه الأعمال تنشر في ضوء حركة التنوير الإنساني التي عرفت بعصر النهضة الفكرية الأوروبية فيما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين؛ أي عقب الحقب الوسطى التي اتسمت بالتبعية المطلقة للسلطة الكنسية.

كان منبعها فرنسا، وتمحورت أفكارهم حول البحث عن السبب La ragione وحق التفكير دون قيد، اعتراضا على سلطة البابا التي تقمع العلم، وتحرم حتى المحاولات الفردية لفهم الكتاب المقدس  أو حيازته أو قراءته، وإنكارا كذلك لمنزلة السادة النبلاء -من الأرستقراطيين الإقطاعيين وحاملي الألقاب الشرفية- التي ينالونها بالوراثة فيما كان يعرف بـ (الدم الأزرق) دون استحقاق أو جدارة.

اتسعت الحركة التنويرية بعدئذ لتشمل إيطاليا وألمانيا وبريطانيا؛ إلا أن الأخيرتين حصرتا الحركة على الإصلاح الفردي دون مناهضة السلطات؛ لا سيما أن الكنيسة الإنجليزية الأنجليكانية البروتستانتينية مرت بإصلاحات في القرون القليلة الخوالي بدء من عهد هنري الثامن الذي أعلن انفصاله عن البابا وقام بتقديم نسخة إنجليزية من الكتاب المقدس قامت على إثرها كنيسة مذهبية جديدة في عهد إليزابث الأولى ١٥٥٩م، أسستها على أصول بروتستانتينية وسطية تتصالح مع الكاثوليكية، لكنها إنشقاق إصلاحي عنها، فكانت تقدس العلم وتسمح بالاستنارة الفكرية والبحث.

كان إسحق نيوتن أبرز رواد هذه الفترة، كما قامت كذلك الثورة الإنجليزية ١٦٨٨م في بريطانيا بعزل الملك جيمس الثاني -الذي تحول إلى المذهب الكاثوليكي- وهو ابن تشارلز الأول والذي أيضا تم إقصاؤه وإعدامه على يد أوليفر كرومويل ١٦٤٩م الفترة التي تلت الحرب الأهلية الإنجليزية (١٦٤٢-١٦٥٣) وتلاها إعلان دولة الكومنولث الجمهوراتية؛ فلم يوجد تعارض في المصالح بين التاج المتمثل في ماري الثانية الأنغليكانية من بيت ستيوارت، والمفكرين والمجددين رواد الحركة التنويرية من جهة، أو الكنيسة الإنجليزية من جهة أخرى.

التهكم والرفض لحياة النبلاء

وفي عمله Il Giorno (اليوم) يأبى “باريني” أن يصبح أولئك هم أفاضل المجتمع وأرقاه دونما جدارة -وهو قوام الثورة الفرنسية-، ويتهكم في نوع من الكوميديا السوداء على سلوكياتهم التي تنافي النبل وتتسم بالمرَج والجنوح ثم الكسل والتراخي والإسراف واللامبالاة؛ حيث يصف صباحهم بالتثاقل والإستهتار، معددا صور الرفاه، ومجسدا للفجوة الغائرة بين الطبقات، والتي تتمثل في عدو الخدم من أبناء الطبقات الدنى لخدمة سيدهم: هذا يعد الفطور الوفير، وهذا يمشطه، وهذا يضع له مساحيق تجميلية، وذاك يحممه، وذاك يهيئه لدرس الرقص، ثم الرسم، ثم اللغة الفرنسية، وبعدئذ -وبينما يجهز أحدهم الفرس والعربة- يركض أحد الخدم على الأقدام صوب قصر فتاته التي يتنزه معها ليخبرها أنه على قدوم.

ويبقى الجدير بالعجب أن السيدة لها زوج، وأن هذا الزوج له عشيقات أخر في انتظاره، ولكل منهن زوج أيضا، فيقوم كل زوج بتسليم زوجته إلى رفيقها في الصباح حتى فجر اليوم التالي أو قرب الدجى، فيتسكعون معا مثرثرين بما لا يحمل معنى، ومبددين للوقت بلا فائدة، حتى إذا جن الليل فيشرعون في السكر والمقامرة حتى طلوع الفجر، ثم يجري العربيد بعربته بالسرعة القصوى دون مبالاة، فيدهس من يدهس، ويجري خلفه الخادم على قدميه، حتى إذا وصل قصره أخذ يخلد إلى النوم.. يقول باريني: “في الوقت نفسه الذي يستيقظ فيه الفلاح ليحرث أرض النبيل ويقدم له في الأخير الثمار والإنتاج كاملا” فعلام يستحقون النبل والكرامة الاجتماعية؟

ويتطرق (باريني) إلى مشهد عبقري في قصيدته، جسد من خلاله الفجوة الهرمية في مجتمع ما قبل الثورة الفرنسية -المجتمع الأرستقراطية-؛ إذ يصور مائدة الغداء الفخيمة التي أترعت بما لذ وطاب مما جناه وأعده الفلاحون، الذين هم عنه محجوبون، وبينما هم على الطاولة يذكر أحدهم ذكرى على ما بدا أنها سيئة بالنسبة إلى السيدة النبيلة: “إذ ركل أحد الخدم كلبتها، فسقطت السيدة مغشيا عليها من هول الموقف، وبعد فواقها أمرت بطرد الخادم وأسرته كلهم جميعا جوعى وعارين، وتظل الكلبة متنعمة بصحبة حشم آخرين” فانظر كيف أوصل النعيم إلى مجون من درجاته الأول؛ فلا يشعر الثري المرفه بمن يجوع، وكيف؟ إذ هو غارق في ملذات لا تفنى، ولا يحس بالعارين المشردين، وكيف؟ إذ هو منعم بأرقى اللباس، وأفخم الأغطية، بينما يفضل أهواءه وحيوانه الأليف على بشر مثله يعتبره من طاقم العبيد بلا أدنى قيمة تذكر.

تحريف المبادئ وإلباس المسميات

 وبينما نحن نرى قيما كتلك القيم المنتقِدة لتهتك المبادئ لدى طبقات المترفين اللامبالين– نرى أيضا في عصرنا الحاضر من يدعون لطمس الحقائق وإلباس الحق بالباطل، وتبديل المبادئ، بل إسقاطها تماما، في ظل هذه الحضارة الغربية التي بلغت ذروتها فأضحت طبقاتها كلها رفاه، وباتت رأسماليتها التي عج بها المجتمع شبيهة بالأرستقراط القدماء ولكن مع فارق اتساع الطبقة لتشمل تصنيفات أعمق، في حين أن البذرة الأولى لتلك الحضارة الحالية بدأت بإرساء المبادئ والدعوة إلى صيانة القيم الأصيلة التي اتسم بها البرجوازيون والطبقات العاملة، وقد وُلدت ناقدة وآبية لهذه الأخلاقيات الشاذة والمجون المارق الذي استشرى في طبقة الأثرياء، لتتبنى نشره اليوم في مجتمعات العالم طرا تحت لواء العولمة الثقافية التي تغزو الحضارات فتهدمها، وتأتي على الهويات والقوميات فتدميها حتى الفناء.

 غدوت اليوم تتردد على آذانك (خليك كلاس) أو (أوبن مايندد) لتدعوك مثل هاتين الجملتين باسم المنادين بهن أن تقبل بالعري كثقافة تمدن، وجنس الشوارع كنوع من التحضر، والخيانات الزوجية كلون من الحرية، والدياثة انفتاحا ومسايرة للتقدم؛ فما أشبه اليوم بالبارحة، كأن التاريخ يعيد نفسه في ضوء تلك الطبقية التي نحياها من جديد مع أشباه الأرستقراط، وطبقة السادة والنبلاء.

ألوان من شذوذ المترفين الأخلاقي

 لطالما صاحبت الرفاهية السوء والتهتك والخلاعة البذيئة، ومن الظاهر أن الشذوذات السلوكية في الحياة عامة وفي الحياة الجنسية خاصة -باعتبارها مناط اللذة وقوام المتعة البشرية- كانت مرتبطة بوثاقة مع شيوع الترف والرفاهة لدى الطبقات العليا في شتى المجتمعات؛ إذ يسأم النبيل روتينية اللذة فيشرع يفتش عن وسائل تنعشها، ويبتكر له فراغه مستحدثات تغيّر عليه ملل الرخاء، ونرى ذلك جليا في انتشار الشذوذ الجنسي المثلي في قصور سلاطين بني عثمان الأتراك في آستانة في القرون الأخيرة، الذين كانوا يسبون مع الجواري الغلمان والخصي، ثم يعينونهم لخدمة السلطان الخاصة والترفيه عنه والرقص على أنغام  الموسيقى، وكانوا يقيمون لهم حرملك خاص كما للجواري، المشهد الذي عهدناه في تاريخ الدولة العباسية مذ عهد الأمين.

وخلفاء محمد علي على مصر كـ سعيد باشا الذي كان يجند الغلمان صباحا للتدريب العسكري ثم يستجلبهم مساء للممارسات الشاذة جماعات، ويمن عليهم بالعطايا الباهظة، وعباس حلمي الأول الذي كثر عنه الكلام في مثله، أما الأشهر والأوثق فهو انتشار هذه العادة في مجتمعات لاقت من الرفاه الجم ومن الحضارة الأوج: كالإغريق في جزر البلقان، والدولة العباسية في العراق.

بنو عباس

 كانت تلك الممارسات بغرض اللذة والعاطفة فحسب عند العباسيين، وانتشرت فيما بين الطبقات المرفهة من المجتمع بدءً بالخلفاء والقضاة والولاة، حتى الشعراء والأدباء، وطغت تلك الثقافة فيما تلا عصر الرشيد على القصر -وقتئذ- والطبقة الوسيطة بينه والعوام (النبلاء والولاة والأثرياء) -ولعل أكثرهم شهرة شاعر الخمر الهانئ بن الحسن الملقب بأبي نواس- حتى أنها أقيمت حوانيت لتجارة الغلمان، على أن يكون الغلام في خدمة سيده وتلبية رغباته حتى الجنسية بكامل الولاء، بينما سادت المبادئ -كالمعتاد- والتدين الطبقة الدنيا والتمسك بالقيم.

الإغريق

 وبينما هي كذلك عند العباسيين عدها اليونانيون القدماء وسيلة لبناء المجتمع وإرساء المساواة والترقي بين درجات سلم الطبقية؛ إذ كانوا يعدون تلك الممارسة قائمة بشكل رئيس على المحبة والاقتداء؛ حيث يتكفل رجل ناضج بأحد الغلمان فينفق عليه ويتولى تعليمه ليصبح منارته ومحط نواظره، وبعد استوائه يكرر هو ذلك، وتدور عجلة المجتمع، ومن أمثال ذلك سقراط، وقد تحدث عن ذلك أيضا أفلاطون في الندوة، والحب الأفلاطوني، ثم انتهى في آخر أيامه إلى أن ذاك الفعل مرفوض، لأنه لا يمثل الحب إلا النفعي القائم على اللذة -على النقيض مما كان يعتقد فلاسفة عصره- وأن الحب الغيري ينتج أجيالا تسهم في بقاء المجتمعات، كما أن الأول قد يؤدي إلى أفراد سلبيين عالة على المجتمع.

وهكذا فإن ذروة الرفاهية تنتج المجون وتولد الكفر والفسوق والطغيان والتجبر والتكبر، ثم لا تلبث حتى تكون مهد الانحدار والانهيار، وأولى علامات الزوال، وأمثال الأمم السوابق قائمة بيننا.

(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)

فيديو مقال الشغور الأخلاقي على بساط الترف

أضف تعليقك هنا

أحمد محمود القاضي

أحمد محمود القاضي
شاعر وكاتب، باحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية النقدية، يدرس ليسانس الألسن- جامعة عين شمس- قسم اللغة الإيطالية