بل أقل من لحظة

آخر ليلة

كعادته في كل سبت من كل أسبوع، ينام الشاب الثلاثيين ليله إلى أن تكتحل عيناه به، بعد سهر طويل ليلة السبت، فالجمعة يوم إجازة ….. بعد أسبوع دراسي شاق …… يبيت ليلته بين أصحابه ورفقاء عمله في تجاذب لأطراف الحديث، تارة في أخبار الأهل والأسرة والأولاد …. وتارة في شؤون الوطن الذي يعشقه تمامًا كعادل، ومنة، وعبد الله، مهجة قلبه، وقرة عينه، الذين لطالما يحنُّ إليهم وإلى محياهم الجميل، وهدوئهم الساحر، وابتسامتهم النقية التي لا تختلف كثيرًا عن بسمة أبيهم …….

استيقظ العروس في الحادية عشرة صباحًا، فقد بات ليلته في برد شديد حلَّ-على غير العادة-بعروس الخليج العربي، بعد ليلتين من المطر الشديد شهدتهما مدينة الدمام، استيقظ …. وفتح عيناه على شمس النهار التي أوشكت أن تتوسط السماء، استيقظ …. يملؤه النشاط، وتحوطه الحيوية، وما لبث أن أخذ يعدَّ لفطوره مع رفقاء دربه في هدوئه الجمَّ وأدبه الكبير، فقد كان وهو يبتسم …. كالقمر باهيًا، ابتسامته لا تفارق وجهه، وضحكته لا يشبهها مثلها، متزن في حديثه، لين في حواره، عذب في منطقة، له من التعابير التي ينطق بها، والعبارات التي يتناولها جميل الكلام وأعذبه، وصادق المعنى وأجوده.

لكنه في ذات الوقت …. وفي نفس اللحظة لم يكن يعلم، وما كان ليعلم ما يخفى عليه، ولا ما ينتظره من لقاء حبيبه ومولاه، لم يكن يعلم، وما كان ليعلم أنه بعد أقل من ساعة من الزمن ينقطع ما كان يؤمل فيه، فلطالما عدَّ الليالي والأيام على سفره إلى أم الدينا، وما فارقت مخيلته يومًا ما …. رفيقة دربه، ونصفه الثاني، لا …… ولا قططه الصغار الذي حنَّ للقياهم وتشوق للقاهم. لم يكن ليعلم، وما كان ليعلم أنه بعد أقل من ساعة سيكون أثرًا بعد عين، وخبرًا بعد حقيقة، وغيبًا بعد شهادة.

تلبية النداء

وبغير ما تقدمة…. ودونما تأجيل أو تأخير أو تهيئة، وهو يتناول كسرة خبز، يعطف عليها بشربة ماء مصحوبة بزفرة أو شهقة، إذا به لم يعد يملك أن يثني على الكسرة بأختها، أو يعطف على الشربة بغيرها، أو حتى يكمل الشهقة بزفرة مثلها، لا …… وما كان له أن يفعل ذلك، فقد ناداه كريم فلبى نداءه، ودعاه عظيم فلم يستطع رد جوابه، نظر إلى السماء …..وهو يعلن طلب الموافقة، والتفت إلى رفيقه في صيحة مدوية، انخلعت منها القلوب، واهتزت لسماعها الصدور، وارتجفت لها الأيدي والأقدام، وكأنها إشارة منه ببدء الانصراف، نعم … بل والرحيل عن دنيا ….لم يعجبه فيه طغيان الباطل، وفشو الظلم، وغلبة الزور، عن دنيا ……بات الصادق فيها كذوبًا، والأمين فيها خؤونًا، وسيد القوم فيها ……….

ولا يحزنه ذلك …. وكيف يحزنه، ولازال ماء زمزم في حلقه، ونظراته إلى الكعبة تعبدًا تملؤ وجهه، وخطواته بين الصفا والمروة تسبقه إلى جنات ربه، وكيف يحزنه ذلك، ولا زال تضرعه عند الملتزم، ودعاؤه بين الركنين يرن في أذنيه، ويملؤ جوانبه.

في دقيقة …… أو أقل، بل في ثانية ……أو أدنى، لبى العروس نداء ربه، وأجاب دعوة مولاه ففاضت روحه إلى خالقه، وجادت نفسه إلى مولاه، وانطوت بذلك صفحة، …… وسقطت بها ورقة من الشجرة …في دقيقة…… بل أقل من لحظة.

فيديو مقال بل أقل من لحظة

أضف تعليقك هنا