بين الانبهار والانهيار

الغرب والشرق

 خشيت طيلة السنوات الأخيرات اللاتي انقطعت فيهن لدراسة ثقافات الغرب وبضعا من لغاته الرائجة في بلادنا والعالم أجمع– أن أهوي في غمار التحيز العكسي لتلكم الثقافات الغريبة وحضاراتها المُحدَثة؛ فخُضت حلبة السباق اللغوي مذبذبا بين آليات الرفض والانبهار.. هل هو (قُصر ديل)؟ أم أنني أرقى بحضارتي وثقافتي الغراء لأن أكون ما أنا كائنه متشبثا به في مواجهة موجة نقائضه؟ وهل أساسه متين لدرجة التمسك تلك ورفض البدائل المطروحة والطرز المبتذلة؟

هل هم بلاد الشيطان والإلحاد والفجور الذي أسست له بهيمية الغرائز والشهوانية البحتة التي أذعنت العقل وقيضت إنسانية العالم الغربي؟ أم إنهم بلاد التحرر والانفتاح والتحضر والنظافة والجمال الذي لم يكن ليراه عالمهم ذلكم إلا بعلمانية الدول وإباء الارتباطات الدينية المقدسة بحِلها وحرامها؟ وذلك لأنهم أفسدوها فأفسدتهم فعقروها فعقرت أرواحهم فباتوا أجسادا حيوانية تحيا بلا روح الإله ولا أمل الاعتقاد ولا سكينة الإيمان.

أصبحت أرتاع حرفيا حينما أُلقَم في مثل هذه المجتمعات والأندية التي بت أرتئيها نافذة على هدم عماد حضارتي والثقة بثقافتي التي لاقت من الهون والامتهان مقدار الذي لاقته من العز والأنفة سابقا، وذلكم بقدر ما أحتقر شخوصهم الذين باعوا أنفسهم ببخس الأثمان واشتروا بمبادئهم الأصيلة رث الرغبات وأعفنها فاستثمروا فيه فعالهم وتناسوا أنهم في فناء.. أخشى أن أندرج بينهم أو معهم فأخزى، وأخشى أن أكون مجرد متحفظ تجاه ما لم أعرفه قبلا..

خيوط الحقيقة

 ثمة فروق طفيفة ظواهرها عميقة جواهرها إلى حد خلق فجوة لا قاع لها بين الحقيقة وأشباه الحقيقة التي لا تفتأ تحمل زيفا في طياتها بين ماهيتها وما تبدو عليه بالفعل؛ وهو التباين الذي لا تتلاقى أقطابه بتاتا.. ودعونا نلقي بعض الضوء على تسميات طمست حقائقَ وألغت عقائد وأمالت مبادئ وأصولا رواسخ -وطبق ذلك على كل شيء من حولك- كأن نسمي العري تحررا وحضارة، ونَئدُ العفة في مقبرة التخلف والرجعية؛ فنطمس حقائق على أدبارها لأن تنقلب زيفا بتسمية أو دعاء.. قالت لي صديقة: “ونسم الخيانة بالانفتاح”– فتتغير مجريات الأمور بين التأصيل للضلالة وهدم الحقيقة غشا ومخاتلةً وبهتانا، وعلى النقيض من ذلك يعود التمسك بالقيم والوفاء انغلاق و (دقة قديمة) فلماذا لا ندع الجميع يحيون معتقداتهم ومبادئهم باسم الحرية ذاتها؟ ولماذا يتوجب علي أن أقبل طمسا لكينونتي من قبل كيانات مُستحدثة ومصطلحات وليدة باسم الحرية والحقوقية؟ ولمَ لا تتسع تلك الحرية المصطنعة لأن تتقبل الشيء ونقيضه؟ أم لماذا علي أن أتقبل نقيضه إذا كاموا هم لا يفسحون لي الساحة بما لدي؟ وهل تبقى إذا حرية؟ فهل يفترض أن نُبطِلَ الأديان لكي نفسح مجالا للمادية؟ أو نقمع الاحتشام ليصبح بذلك العري أوليا؟ ثم نـأمر العالمين بقبول الاخر بينما هم لا يجدون القبول في تلكم الأوساط الوليدة باسم الحرية.

الحقيقة أن الباطل لا يستطيع أن ينطلق في غمرة الحق، وأن الضلالات لا يسعها أن تنتشر وتلقى رواجها والقبول في ظلال ما يضادها لأن وجوده ببساطة يفندها ويبدد فرص تصديقها؛ لذلك أضحت أولى وسائل العولمة الثقافية هي غزو ثقافات الأضعف ودحضها، وأولى وسائل الاستعمار الحضاري هي الطعن في أسس وأعراف حضارة ما حتى إذا تفشى فيها الخور أتوا إليها بالبدائل والنقيض، ولقد آتى هذا أكله يانعة.

إن الحرية التي يدَّعونها هي محض أكذوبة يبثون باسمها مفاسدهم، والحقوقية التي يعملون باسمها إنما هي غطاء يبيدون باسمه كل ما يخالف مصالحهم. هناك قوى خفية شريرة تعمل لصالح الشيطان -أو الملاك الكبير- الذي يسعى لأن يملأ الأرض بكل مفهوم يحيد عن الحق ويطمس الحقائق ويشوه المجتمعات، بل وجعل من عقل الإنسان أداة تخدمه في تدميره. حينما تصبح الظلوم عدالة، والأخلاق رجعية، والأديان تخلفا والمادية تحضرا؛ فهيهات للإنسانية بقيمها الفطرية التي جبلت عليها، وقد أمست الأرض غيهبا للشياطين.

والحق أن الصراع بين الرفض الكامل والانبهار التام يستمر في غياب قوة الهوية وفي ظل ضعف القومية وتدهور الثقافة التي لا تنفك جميعا أساسا للإحنة والشأفة التي تملأ المجتمعات الأضعف -لا سيما مجتمعاتنا العربية المتنامية- وكذلك الانبهار الذي تُعد له فجوةٌ بين المرء وتاريخه حضارةً وإرثا، فإن هي حضرت صمد العالمون -كلٌ بخواصه وامتيازاته- أمام تيارات الانفتاح والعولمة الجارفة.

الثورة الجنسية ١٩٦٠-١٩٨٠

 انبثق في ستينيات القرن العشرين ما عرفوه باسم الثورة الجنسية، والذي هو في واقع الأمر محض انحلال أخلاقي وتدهور اجتماعي وانهزام ديني وتحدر ثقافي، وقد كان لمثل ذاك دوافع خفية لعالم خفي لا يعلم عنه أحد.. فقد عينوا لذلك مسؤولين ودفعوهم للتصديق على قرارات كانوا قد جهزوا لها، بل واستصدروا منهم قرارات تخدم مخططهم القبيح في نشر الإفساد وقمع المبادئ والقيم باسم الحرية الكاذبة لخلق مجتمعات آلية لا تدين؛ مجتمعات تحيد كل الحيد عن سمو الإنسانية التي غيروا لها المفاهيم حتى يستأثروا بها لذواتهم ويتبعهم العالم الآخر الذي سوف يرى -لا ريب- في ذلك تطورا وتحضرا، ثم يبثون في أذهان ذويه ضعف الثقة في حضارتهم وما لديهم من موروث نشأوا فيه وترعرعوا عليه، بعدما ربطوا للأذهان تلك الأخلاقيات الشاذة بالمجتمعات الشامخة التي كسرت حاجز النمطية وبلغت أوج الثورة الصناعية واحتكرت ميادين السياسة برؤيتها الرأسمالية. إن رؤية الصواب في الآخر والانبهار بما لديه ما هي إلا فكرة بغيضة في اللاوعي تَسْبٍر غَور ظنك بضعف ما لديك واهتزاز اعتقادك فيه.

المجتمع الغربي قيل الثورة الجنسية

لم تكن المجتمعات الغربية بهذا الشكل الذي نراها به الآن، وإنما كانت أكثر تحفظا وتدينا من حضارات العرب حاليا وسلفا. لقد كان الزواج شريطة لإقامة علاقة جنسية، بل لم يكن من الرائج استخدام مصطلح الممارسة الجنسية وإنما كان “ممارسة الحب” أو Make love الأشيع في تلكم المجتمعات، فقد حددوا الجنسَ ممارسَته في أرقى القوالب وهو الحب، وسمى به الإنسان طيلة تاريخه عن الغرائزية والشهوانية الحيوانية المبتذلة، وكان الزواج هو الميثاق المجتمعي الذي يمكن للمرأة من خلاله أن تحمل أو تنجب أطفالا، وعلى الرغم من انتشار الممارسات الشاذة دائما حتى في أوساطنا الإسلامية الآن وفي أوج تحضرها أيضا -فيما وراء الأضواء- إلا أنها كانت منبوذة ومستهجنة؛ حتى إن مختلف الدول الغربية كانت تجرم في قانونها مثل تلك الممارسات كإرث من الحضارة الرومانية التي خلَّدت ذلك حتى بعد سقوط إمبراطوريتها، ولكن تأتَّى الانسلاخ من كل القيم بدفع مستأجرين أكثرهم من الشواذ جنسيا وفكريا ليقوموا بأعمال عنف وحرق وتدمير ممولين من جهات غير معلنة، ومدعومين من قيادات خفية ذات سلطان، كان على إثر ذلك إعتراف الكونجرس الأمريكي بطلباتهم التي مثلت أم الانحلال والفسوق بعينه: من حرية الممارسات الجنسية دون ارتباط، وحرية الإنجاب والإجهاض، وحرية التعري علانية، بما في ذلك حقوق المثليين. العجيب في الأمر هو سرعة تطور الأحداث وتنسيق الإجراءات المتوالية فيما يبين للمطَّلع أن ثمة ترتيب وتدبير خفي وأن يدا خفية تمثل قوى عظمى تعمل من وراء الستار.

 فقد تم في الفترة ذاتها تنحية كل القيود على بيع العوازل الذكرية وافتعلت قوانين تهتم بجودتها وفن صناعتها وانتشرت صناعة حبوب منع الحمل والدعاية لها، كل ذلك كتطبيق لثقافة “الحب الحر” التي أسس لها الهيبيز HIPPIE لافتين إلى أن الجنس غريزة فطرية لا ينبغي أن تقيد أو أن تحاصرها مخاوف، وهذه المجموعات تأسست بالأساس في ستينيات القرن الماضي ولاقت تأييدا من الشباب رابطين قيمهم بالتطلعات السياسية في مواجهة الرأسمالية.. فأصَّلوا لمعتقداتهم بين كل الأطياف والطبقات.

وعلى الصعيد الآخر فقد أقرت دولٌ كأستراليا وفنلندا وكوستريكا إلغاء تجريم المثلية ١٩٧١م وتبعتهم في ذلك العديد من الولايات الأمريكية ثم أعلنت السويد ١٩٧٣م مباشرة اعترافها بحقوق المثليين وحرياتهم، وتوالى بُعيد ذلك -على مر عقد من الزمان- ترخيص إنتاج وصناعة المواد الإباحية والدعاية المعلنة لها بحرية لعينة في منتصف الثمانينيات وتصنيع المنشطات الجنسية عقب ذلك؛ لينتهي حديث النقاد والمؤرخين عن تلك الثورة الجنسانية بأنها حرية التعبير الجنسي دون خجل أو قيد كقوام لها ثم أتت تلك التطورات جميعا كمظاهر لذلك كله، فكان محور أهدافهم يدور حول بث القيم البهيمية وإضفاء الطابع الغرائزي على سلوك تلكم المجتمعات التي مُهِدَ لأن تسود العالم وتغزوه بتلك الثقافة الوقحة.

“ليس كل ما يلمع ذهبا”

 وإن هذا كله يذهب بنا إلى خطر الانسياق خلف المسمى وصب الحقائق في قوالب زائفة تخبي جوهرها وتضفي عليها الزور والبهتان. إن الأعم دائما هو الأكثر بُطلا، وإن الحق أبدا هو الخفي المطمور؛ فحذار والانجراف في مجاري القطيع. فإن الانبهار الناتج عن ضعف ما لديك لا يؤدي بك إلا إلى الانهيار تباعا وما لديك.

فيديو مقال بين الانبهار والانهيار

أضف تعليقك هنا

أحمد محمود القاضي

أحمد محمود القاضي
شاعر وكاتب، باحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية النقدية، يدرس ليسانس الألسن- جامعة عين شمس- قسم اللغة الإيطالية