مجالس قرآنية 1

كم عدد مرات تكرار الإنسان للسور القرآنية في الصلاة؟ 

أكثر من ألف (6000) مرة:

قال لي أخي محمود (عمره تجاوز الخمسين):

  • بفضل الله، أنا أصلي منذ أكثر من 35 سنة، وقد لاحظت أنني أكرر سورًا معينة طيلة تلك السنوات، حاولت حصرها، فتبين لي أنها لا تزيد عن 20 سورة من السور القصيرة، ثم همس قائلاً :”ليس كل السور بالترتيب؛ فهناك سور مثل -سورة البينة- نادرًا ما أقرأها.
  • وما العيب في ذلك، كلنا مثلك، بل ربما أغلب المسلمين كذلك.
  • حسبت كم مرة أكرر السور؟ طبعًا في صلاتي السرية وفي النوافل : عدد الركعات السرية التي نقرأ فيها سورا بعد الفاتحة أربع، أضف عليها 6 ركعات نوافل يوميًّا يكون المجموع 10، يعني في السنة ( القمرية) 3600، في خلال 35 سنة وصل الرقم إلى 126 ألف ( 126000)، هذا عدا رمضان، وغير من مواسم العبادات.
  • ثم ماذا؟، ما الذي تريد أن تصل إليه.
  • لو قسمت 126 ألفًا على عدد السور التي أكررها فسيكون 6300 مرة، هل تدري ماذا يعني هذا؟
  • لا أدري.
  • يعني أنني أكرر السورة أكثر من 6000 مرة، هذا حتى الآن.
  • وهذه نعمة تحتاج إلى شكر ؛ فالحمد لله أنك بصحة وعافية.
  • ليست هذه مشكلتي.
  • ما مشكلتك؟
  • هل تعلم أنه مع كل ذلك التكرار( أكثر من 6000)، تبين لي أن هناك الكثير من معاني هذه السور لا أفهمه، بل إن هناك كلمات منها لا أعرف معناها- وبدأ صوته يتغير ووجه يشحب-، ثم سكت.
  • هوِّن عليك ؛ فالله رحيم وكريم، فليس مطلوبٌ أن تفهم كل ما تقرأ.

فالتفت إليَّ وكأنه يُعاتبني:

  • ليس حزني خوفًا، وإنما سبب حزني، أنَّني كنت أقرأ بلا فهم ولا تعقل، فأين كنت، ولماذا لم أسعَ لفهم الآيات والتدبر فيها، والله لو كان كتابًا من مديري لحللته ودرسته حتى أعي ما فيه، كيف غفلت عن هذا كل السنين… وقطع كلامه صوت هاتفه، ثم استأذن وتركني.

تركني وحيدًا فريدًا شاردًا أغوص في أعماق نفسي وأتجول في خاطري، نعم أنا مثله أردد دون أن أتفكر، وأقرأ دون أن أتدبر، وأسمع دون أن أعي. وعندها قررت أن أجد العلاج.

أحد أساليب الحل هو التعرف على بعض الأسرار القرآنية مما سطره علماؤنا ومما كتبوه بمداد التبر[1] لا بمداد الحبر، فشكرا ًأخي وحبيبي الغالي محمود.

ثم أدركت أني لست الوحيد في ذلك؛ فهناك العديد من الأحباب والأصحاب والأعزاء ممن يحمل الهم نفسه، فاستعنت بالله وقدّمت ما جمعته في بعض الملتقيات والمساجد، والحمد لله كان لها أثر جميل، حتى أن العديد من الأخوة طلب مني تدوينها ونشرها للكل لما لمسوه من أثرٍ عليهم.

وبعد الاستخارة والاستشارة، قررت أن أنشر لكم ما جمعته، وأنثر لكم ما وجدته، وقطفت لكم من اللمسات البيانية والدروس التربوية والمعاني الندية، من كتاب رب البرية، وجعلته على شكل مجالس لا تتجاوز الصفحتين يمكن قراءتها في دقيقتين أو كحد أقصى 3 دقائق[2]، ليكون ميسراً وسهلاَ للقراءة في البيت مع الأسرة وفي الجلسات مع الأحباب والأصحاب وفي المساجد في المناسبات (كرمضان وغيره)، وحصرته في ثلاثين مجلساً في كل مجلس سورة أو جزء منها،  له بداية وفيه خاتمه للتسهيل، ولما كان كله عن القرآن ومعانيه ودروسه أسميته مجالس قرآنية وأملي أن تكون هذه المجالس: في البيت، في المسجد، في الملتقيات، مع كل إنسان، فأجمل ما يُقتطع الوقت لأجله هو دارسة كتاب ربنا الرحمن، فلا أفضلَ من تعطيرِ أجوائنا بزهورٍ من كتاب خالقنا.

أسرار سورة الناس 

والآن مع المجلس الأول وعنوانه “المعركة الخفية”:

ﭐﱡﭐﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﱠ

الحمد لله رب الناس العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

سورة الناس سورة تتحدث عن معركة أبدية خفية، لا يسلم منها أحد:

تبدأ السورة بذكر ثلاث صفات لـمَن نطلب نصرته ونلجأ إليه ﭐﱡﭐﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ،وهذا ترتيبٌ بديع: بدأ بالرب، وهو الذي يوفر العناية والرعاية، وهي مطلب العبد، ثم عرّج بالملك لزيادة الأمان للعبد؛ فهو مملوك لذلك الرب، ثم ثلّث بما يجب على العبد وهو تحقيق الإلوهية للرب والمالك.

وخص َّكلمة “الناس” وكررها لأنهم أشرف المخلوقات وأهمها، ولأنه أمر بالاستعاذة من شرهم وهو أعلم بهم.

ثم تنتقل السورة إلى الشطر الثاني وهو بيان ما يُستعاذ منه، فبينت أحد صفاته الخطيرة؛ فليس المهم مَن هو، لكن الأهم ماذا يفعل، فهو ” ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ،والوسوسة: الشيء الخفي من الصوت والحركة، وهو في الوقت نفسه” الخنّاس” وهو كثير الخَنَس وهو الرجوع والاختفاء؛ فهو يختفي ويرجع: يختفي إذا ذكر العبد ولم يغفل، ويرجع للوسوسة إذا غفل العبد ولم يذكر الله، وهو مع قوته في الوسوسة إلا أنه ضعيف عند الذاكرين والمتيقظين كما قال رسول ربِّ الناس r:” الشيطانُ جاثمٌ على قلب ابن آدم، إذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس[3]، وهكذا ترسم تلك الآية طريقة ذلك العدو (الشيطان )، وتوضح طريقة تجنب شرِّه.

ويبين ربنا – سبحانه – مكان تلك الوسوسة ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ومن هنا كانت صعوبتها؛ فهي ليست ظاهرة، وإنما في الباطن يشعر بها العبد ويتحسس منها، ومن أسرار “الصدور” وليس القلوب؛ لأن الصدر مكان أوسع من القلب، والقلب موضع الإيمان؛ فالشيطان يوسوس في الصدر، والعبد هو الذي يسمح لتلك الوسوسة بالدخول للقلب أو عدمها، وحرف في لاستيعاب الصدر والإحاطة به، والله أعلم.

ثم كشف القرآن عن صنفي الموسوسين، ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﱠ والجِنّة جمع جني والناس وهو البشر، وقدم الجِنة على الناس لأنهم أصل الوسواس، مع أن شياطين الإنس أخطر من شياطين الجن أحياناً، وأعاد الناس للتأكيد على ميدان المعركة ومحور الصراع؛ فالناس هم المطلوبون، وهم أحد أدوات ذلك الصراع وهم القادرون على التعوذ برب الناس لينجو من الوسواس الخنّاس، أو يكونوا من أتباعه فيمارسوا دوره.

تلك هي معركتنا مع عدونا الخفي والظاهر، معركة لا تنتهي إلا بموتنا، لكن الرب والمالك والإله علّمنا السلاح وهو اليقظة وعدم الغفلة والمحافظة على الأذكار، ونحن مَن تختار.

اللهم ارزقنا اليقظة، وأبعد عنا الغفلة والحسرة، واجعلنا من الذاكرين البررة.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

…………………………………………………………………………………….

[1] التبر يعني الذهب

[2] معدل قراءة الإنسان 250 كلمة في الدقيقة ( صفحة واحدة)

[3] ، الألباني، تخريج مشكاة المصابيح 2221، إسناده صحيح.

فيديو مقال مجالس قرآنية 1

أضف تعليقك هنا