السببية في فلسفة مالبرانش

من هو نيكولا مالبرانش؟

نيكولا مالبرانش فيلسوف فرنسي من اتباع ديكارت ومن الشخصيات التي لعبت دورا هاما في نشر المذهب الديكارتي، تلقى علومه الأولى في الفلسفة بأكاديمية لامارش وبعدها إلتحق بجامعة السوربون لدراسة علم الكلام واللاهوت، وفي أعماله الفلسفية سعى إلى تخليق أفكار أوغسطين وديكارت من أجل تبيان الدور الفعال للرب في كل مناحي الحياة، وبعد أن تعرف مالبرانش على المذهب الديكارتي عقد العزم على إعادة النظر في أفكاره وصياغتها ونشرها فأصدر في سنة 1674-1675 الجزء الأول من أول مصنفاته أهمها مؤلف تحت عنوان “طلب الحقيقة” في هذا الكتاب بحث مالبرانش في ماهية العقل الإنساني وفي عوامل وقوع العقل في الخطأ والأسلوب الصحيح لإستخدام العقل كي لا يقع في الخطأ لبلوغ الحقيقة اليقينية.

في هذا العمل الفلسفي تعبير عن إستقلال مالبرانش الفكري وإبداعه وتجديداته ويتجلى الإبداع بشكل عام في المفهوم الأساسي؛ مفهوم الله بالمعنى الذي نقله عن القديس بولس وأورده في عبارة فلسفية: “نحن نعيش في الله، ونتحرك فيه، ونوجد فيه”. هذا المفهوم الأساسي يستوعب نظرية هامة وأساسية في فلسفة مالبرانش: النظرية الظرفية أو الأوكازيوناليسية، والتي يعبر مالبرانش من خلالها عن أن المخلوقات فاقدة للعلة في نفسها، الله هو العلة الحقيقية للتغييرات التي تحدث في العالم وتظهر هذه النظرية حسب مالبرانش في طبيعة الإنسان وإرتباطه بالله[1]. فالله يخلق ويحفظ الخلق لحظة بعد لحظة وهو الوحيد الذي يؤثر في المخلوقات بما فيها الإنسان، وبما أن الإنسان مرتبط بالإله ومدين له في وجوده وفعله فإنه متحد به.

المذهب الظرفي

يعتبر المذهب الظرفي أو “الأوكازيوناليسم”  Occasionalismفهم ديني وتفسير كلامي لمسألة العلية في مبحث الطبيعيات، ويقر أصحاب هذا المذهب من بينهم مالبرانش أن المادة لا روح لها ولا أثر، والحركة التي لدى الأجسام ليست سوى تغيير مكاني انفعالي هذا معناه أن القوة اللازمة لحركة الأجسام ليست في الأجسام نفسها، وإنما القوة اللازمة العامة والأساسية للحركة توجد في الله؛ أي أن الله هو العلة المسؤول عن حركة الأجسام والمخلوقات التي توجد في العالم، فمثلا “حينما تصطدم كرة بليارد متحركة بكرة أخرى ساكنة، فلا يوجد في الكرة الأولى أية قوة أو قدرة بإستطاعتها تحريك الكرة الثانية، ولذلك فحركة الكرة الثانية بحاجة إلى تأثير وفعالية الله بحيث يحرك هذه الكرة في الظرف المناسب وطبقا للقوانين التي وضعها للحركة[2]. إن الكرة الأولى علة لكنها علة خاصة وظرفية للكرة الثانية، وليس للكرة الأولى أي أثر بدون فعل الإرادة بمعنى أن العلة المؤثرة في حركة الكرة الثانية هي العلة الأساسية العامة للحركة.

أي الله وهذا القانون الإلهي يشمل الطبيعة برمتها. إنطلاقا من هذا المثال يمكن أن نفهم لماذا ينكر الظرفيون تأثير النفس في الجسم وتأثير الجسم في النفس وتأثير الجسم في الجسم وينسبون هذه الثأتيرات التلاثة إلى فعل الله مباشرة الشيء الذي جعل نيكولا مالبرانش يعتقد أن الله هو تلك الواسطة التي توصل بين الجوهر الجسماني والجوهر النفساني، من هنا نستشف مدى تأثر مالبرانش بالفكر الديكارتي خصوصا الثنوية الديكارتية التي تقسم العالم إلى نفساني وجسماني، حيث الأول جوهر ممتد والثاني جوهر مفكر، على مستوى الإنسان نجد النفس مجرد جوهر مفكر والجسم جوهر ممتد هذا التعريف يستلزم أن يكون الإنسان مجرد روح والجسم آلة تستخدمها هذه الروح، فكيف بمقدور هذين الجوهرين المتباينين بالذات أن يؤثر أحدهما في الأخر؟

الظرفية تفسر كيف بمقدور الجوهر الممتد والجوهر المفكر أن يؤثر أحدهما في الأخر؟

تعد الظرفية أحد الأساليب والحلول المقدمة لهذا السؤال فالظرفيون يفرقون بين العلة الأساسية التي تتجلى في الإله والتي يدعونها بالعلة الحقيقية، وبين الظرفية التي هي ليست علة حقيقية ومثلما يعتبرون الأجسام فاقدة للقدرة على إيجاد الإدراك الحسي، يعتقدون أيضا أن النفوس فاقدة للقدرة التي بمستطاعها تحريك الجسم، لأن العلة الحقيقية في الحركة الإنفعالية للإحساس وفي الحركة المدركة للإرادة هي الله فهو الذي يضع القوانين لوحدة النفس والجسم ويبادر إلى العمل على أساسها في لحظات خاصة معنى هذا القول أن الله بإرادته يخلق تغييرات النفس والجسم متقارنة وفي زمن واحد بدون أن تكون بينها أية علية لكننا نشاهد فيما بينها نظاما متكررا بسبب تماثل الفعل الإلهي والقوانين التي يضعها بحرية من أجل أداء فعله.

لذلك مالبرانش يرى أن الشيء الذي يبدو علة ظاهرة للحركة في الطبيعة لا يمثل في حقيقة الأمر العلة الأصلية لها لأن عليتها الحقيقية هو الله[3] أما العلل التي تظهر أمامنا ونعتبرها أسباب مباشرة لفعل شيء ما، ماهي إلا أسباب ناتجة عن الأثر الإلهي أو الفعل الإلهي الذي يلحق بالموجودات في كل لحظة عن طريق -الظرفية- علل مناسبة وهذا يدل حسب مالبرانش أن الإرادة الإلهية تتدخل في تنظيم وإقامة علاقة بين العلة والمعلول، فالإله هو السبب الأول الذي بإرادته تحدث المعلولات والسبب المسبب لنتيجة ما هو إلا سبب ثانوي لسبب الحقيقي الذي يتجلى في إرادة الله.

مسألة العلية حسب مالبرانش

العلية حسب مالبرانش تساهم في تنظيم الوجود من خلال إضفاء عليه نوع من الدقة والنظام والإنسجام، فالله  خلق العالم بإرادته وأضفى عليه طابع النظام والترتيب بحيث يتحرك العالم بفعل قوة إلهية مما يجعل النفوس تبهر وتعجب بعقل الخالق اللامتناهي، فالنفوس والأجسام تتحرك بشكل طبيعي نحو خالقها الذي طبع فيها الحركة بإرادته الحرة والله بفعل قانونه النابع من إرادته قد نظم المخلوقات وهو علة حدوث الحوادث في العالم والموجودات لا يمكن أن تحتوي على قوة ذاتية تسمح لها بالثأتير في بعضها البعض.

إذا حدث تأثير بين هذه الموجودات في هذه الحالة نقول أن هذا الحدث ما هو إلا فرصة أو مناسبة للفعل الإلهي وهذا ما يقصد به مالبرانش بالعلل المناسبة- الظرفية- وبالتالي فإن العلية الإلهية بالنسبة للمخلوقات هي مصدر كل شيء والموجودات المخلوقة سوى أجسام ونفوس لا حراك فيها ولا قوة ولا فعل، تتحرك بإرادة الله وتتجه بميولها إلى عبادة خالقها وتبجيله وهذه المسألة من آثار الفيض الإلهي والنعمة الإلهية، بهذا المعنى الله  بالنسبة لمالبرانش يتسم بالخلق المستمر من خلال إرجاعه لحركة الأجسام جميعها إلى حركة إلهية تمليها إرادة الله على الطبيعة وخلق العالم من بين عدد لا متناهي من العوالم الممكنة التي تشملها حكمته الإلهية.

التوافق بين مالبرانش و أبو حامد الغزالي من خلال نظرتهما لمفهوم السببية

إن نظرة مالبرانش لمفهوم السببية تتفق إلى حد كبير مع نظرة أبو حامد الغزالي الذي أخضع كل ما في الكون من قوانين ومسببات لإرادة الله المطلقة، لأن برأيه لا يمكن لأي شيء بذاته أن يكون سبب بشيء آخر لأن مسبب الأسباب هو الله بقدرته وإرادته، كل الأسباب والمسببات كلها ورائها الله  يقول أبو حامد الغزالي في هذا الصدد “الإقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا. بل كل شيئين، ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولا إثبات أحدهما متضمن لإتبات الاخر، ولا نفيه متضمن لنفي الأخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الأخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الأخر: مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والإحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء…”[4].

بمقدور الله حسب الغزالي أن يخلق الشبع دون الأكل وأن يمنع الإحتراق رغم وجود النار، وإن كان إقتران بين هذه المسائل فهذا معناه أن هناك تقدير إلهي لخلقها على التساوق (التجاور)، وبإمكان الله أن يتدخل في أي لحظة لتغيير هذا التساوق ويقدم الغزالي مثال إحتراق القطن، فملاقاة القطن مع النار قد لا يحدث الإحتراق وقد يتحول القطن إلى رماد دون ملاقاة النار، هذا يعني أن الخلق المستمر الإلهي ليس له حدود لامتناهي وبالتالي ليس هناك علاقة ضرورية منطقية بين الأشياء مادام الله هو العلة الأولى خالق العالم ومتحكم فيه بحريته وإرادته المطلقة، فالذي يقوم بفعل الإحتراق في القطن وجعله حراقا ورمادا هو الله أما النار فهي جماد لا فعل لها بل هي وسيلة في يد الله يفعل بها ما يشاء.

المراجع

  1. د.قاسم الكاكائي، الله ومسألة الأسباب بين الفكر الإسلامي وفلسفة مالبرانش، نقله إلى العربية عبد الرحمان العلوي، دار الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص25
  2. المرجع نفسه. ص40
  3.  راوية عبد المنعم عباس، مالبرانش والفلسفة الإلهية، تقديم وتحليل الدكتور محمد علي أبو ريان، دار النهضة العربية، بيروت، 1996،ص 132
  4. ابن رشد، تهافت التهافت، مدخل ومقدمة وتحليل للدكتور محمد عابد الجابري، مركز الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، ص503

فيديو مقال السببية في فلسفة مالبرانش

أضف تعليقك هنا