المجتمع الإفتراضي والتصور الدوركايمي: من المجتمع الصلب إلى المجتمع الإفتراضي.

 بقلم: الفرفار العياشي

” إن تكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا ” العبارة لسوسيولوجي إميل دوركايم

  قبل أكثر  مئة 100 عام  هو تصريح رصين و صلب يؤسس لرؤيته لدور المؤسسات الاجتماعية الصلبة  في بناء الهوية الفردية  حين صرح في كتابه “التربية الأخلاقية”: “إن ضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع، ولا يعبر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا، فإنما يردد صوت المجتمع فينا”.  القولة الدوركايمية تكشف ان المجتمع هو أساس بناء و تشييد القيم الاجتماعية و المفضية بدورها الى بناء مواطن صلب و مؤسسات صلبة و منسجمة قادرة على الاستمرار و مقاومة عناصر و أسباب التغير  .

أتخيل دوركايم و هو يحادث طلبته   , و الطلبة في حالة تركيز تام لان صوت الاستاذ يمثل صوت المجتمع, و صوت المرشد  الموجه و المحدد لكل تفاصيل الحياة الفردية و خصوصياتها.     التصور الدوركايمي يكشف ان الإنسان منتوج اجتماعي و صناعة اجتماعية يتم تحويله من كائن فيسولوجي الى كائن اجتماعي  , عبر مسارات التنشئة الاجتماعية المعقدة  الهادفة الى  بناء ذاوات فردية منسجة مع هوية و توابث المجتمع .

 ما هو المجتمع حسب رأي دوركايم؟

حسب  الدرس الدوركايمي  دائما ، يشكل المجتمع المصدر الوحيد لبناء شخصية الفرد و قيمه  ؛ ذلك لأن سلطة المجتمع يتم ترسيخها في  وعي الأفراد  عبر ما اسماه رالف لنتون بالصنارة الاجتماعية كالية لربط الفرد بمجتمعه، وبهذا يكون الوعي الأخلاقي و الاجتماعي للفرد مجرد صدى للوعي الجماعي.  حيت يكون  المجتمع هو الذي يحدد الواجبات  قهرية الظاهرة الاجتماعية ، و ماينتج عنه من تضاءل مساحات الحرية الفردية أمام عمومية الظاهرة الاجتماعية و قهريتها  و سلطة المجتمع المنتشرة في كل مكان .

بعد اكثر من 102 على وفاة دوركايم ، تحولات جذرية عرفها العالم و اثرت على شكل الدول و المجتمعات و حتى على الهويات الفردية و الجماعية و مسارات بنائهما ، أصبح الحديث عن المجتمع الفعلي و فق التأسيس الدوركايمي باردا بالمقارنة مع الحيوية و الأهمية التي يحضى بها المجتمع الافتراضي .

مظاهر المجتمع الحالي في يومنا 

ماذا  لو افترضنا  ان دوركايم عاد من جديد، و قام بجولة بالمدينة و بمقاهي المدينة و بشوارعها و حدائقها و عاد الى بيته و هو يلاحظ و يلتقط و يجمع المعطيات بعين سوسيولوجي فاحص:

  • سيكتشف  مظاهر العزلة الاجتماعية المنتشرة في كل زوايا المجتمع و في كل الأمكنة.
  • و ان العالم الفعلي أصبح موحشا و ان الناس أصبحت لا تحاور بعضها البعض و ان الصمت هو المتكلم الوحيد .  حالة انغماس شبه كلي في عوالم افتراضية .
  •    الناس مختبؤن في هواتفهم الخلوية في عزلة شبه تامة عن الواقع  , و ان العلاقات الإنسانية أصبحت باردة و ان التواصل أصبح مع البعيد اللامرئي و اصبح فاترا مع الغريب في مفارقة حادة تقريب البعيد و ابعاد القريب.ثيؤ
  •   و المجتمع الذي كان سابقا يصنع الفرد و قيم الفرد وعاداته و انماط سلوكه . على اعتبار ان  السلوك هو نتيجة فعل تنشئة اجتماعية و هو عبارة عن نسق من التصرفات التي تعم  المجتمع، ويباشر على الفرد قهرا خارجيا  على الافراد المنتمين لهذا المجتمع.
  • الأكيد ان دوركايم العائد  سيكتشف حجم التحولات و حجم الانقلاب الجذري في تصوراته والتي اعتبرت صلبة و متينة قبل مئة عام من الآن، وان تصوراته لم تعد قادرة على فهم و استيعاب حجم التحولات .

دوركايم في مشروعه السوسولوجي  يكشف دور و أدوات التنشئة الاجتماعية في بناء و الهوية الجماعية و التي تستمد مقوماتها و خصائصها و قيمها من المجتمع التي تنتمي اليه، هو بناء وظيفي من اجل بناء هوية جماعية صلبة  و بالتالي بناء دولة قوية و صلبة.

 تعريف العولمة وأثرها على مجتمعنا

الآن بسبب نسق العولمة  الجارف والذي استطاع اختراق كل المجالات و الخصوصيات , ساهم في تفتيث الهويات الصلبة وواء الفردية و الجماعية بما يسمح له بالاستمرارية و التحكم و الهيمنة , انه نسق مفترس يعيش على التغذي على هويات الاخرى , فالعولمة هي هوية عملاقة مهمتها تكريس نموذج نمطي في السلوك و الحياة و الوجود و تحويل و صناعة كائن معولم له نفس القيم. فالعولمة حسب الباحثة ساسيكا ساسن في كتابها الصدار سنة 2008 انها اعتبرت العولمة حيوان يصول ويجول بقوة .

مع العولمة وموجة العولمة  هل هناك حاجة الى المنجز الدوركايمي لفهم طبيعة المجتمع و رهاناته و هل التصورات الدوركايمية مازالت صلبة و قادرة على تفسير الظواهر الاجتماعية  , و هل مفاهيم القهرية و العمومية كخصائص افعل الاجتماعي مازلت صالحة في زمن العولمة و الذي يشتغل على تفتيت الصلب و اذابته !

ربما دراسة التحولات الاجتماعية في علاقتها بنسق العولمة يمكن الاشتغال على مفهوم الهوية باعتباره إطاراً نظريا  أكثر نجاعة في فهم التحولات و طبيعتها و نتائجها ؟

العولمة أنتجت عوالم متغيرة مما يفرض اعادة قراءة الواقع الاجتماعي و إعادة بناء تصوراتنا انطلاقا من التحولات الجذرية التي مست نسق الهوية، بروز الهويات الافتراضية و ترسيخ سلوك قاعدي اصبح سائدا  و مؤسسا لانماط سلوك جديدة  و المتمثلة في الانسحاب من الواقع الاجتماعي  , و الاقامة الدائمة او الشبه الدائمة في  عوالم الشبكات الاجتماعية يكشفان أدوات التنشئة الاجتماعية المحددة في التصور الدوركايمي اصبحت متجاوزة.

و لربما انها سبب من الاسباب في هذا التحول لان الفضاءات الافتراضية تمتلك جاذبية الحرية و اغراءات التحررمن كل القيود و الواجبات الاجتماعية و الدينية , و التي اعتبرها دوركايم قهرية لا ترحم الافراد و الذين لا وظيفة لهم سوى الامتثال لها و الخضوع لها .

أدوات التنشئة الاجتماعية و التي تهدف إلى التأثير و التعبئة و التوجيه من اجل ربط الفرد بقيم مجتمعه سواء عن طريق بالاعتماد على سلطة قهرية كما هو الحال مع دوركايم او عبر سلطة ناعمة غير مرئية لكنها فعالة مع بورديو، العولمة صنعت فجوة كبيرة و عميقة بين الفرد و المجتمع نتيجة اكتساح قيم العولمة , و ما نتج عنها من انسحاب شبه كلي من الفضاءات الاجتماعية وترك القيم الاجتماعية بلا فائدة، ربما هناك حالة عجز من طرف البحث السوسيولوجي للامساك بهذه التحولات المتسارعة، او على الاقل تسجيل  حالة البطء في  سرعة التفاعل من اجل الإمساك بهذه التحولات المتسارعة .

رؤية الفيلسوف فريدرك هيجل للمجتمع الواقعي والمجتمع الإفتراضي

فريدرك هيجل ثتحدث عن حركية التاريخ الإنساني فقط حدد نقطة البداية المفترضة لمنه حدد بدقة لحظة النهاية والتي تتحقق حين يتطابق الواقع مع الفكر يصبح واقعي عقليا و العقلي واقعيا، ربما رؤية لها مايبررها و قيمتها المعرفية لكن التحولات المتسارعة في زمن العولمة تكشف أن كل فكر مهما كانت قيمته يبق فكرا نسبيا.
العالم اليوم أصبح متشابكا بسبب التطور التقني قي شبكات و آليات التواصل , فقد تحول العالم الى قرية  صغيرة مما منح الإنسان الاعتقاد انه أصبح بإمكانه التجوال  فيها بسهولة و حتى الإقامة فيها نظرا لسهولة فعل ذلك، ربما حان الوقت ان نقلب رؤية الفيلسوف فريدرك  هيجل  حتى تنسجم مع طبيعة التحولات الواقعة فالواقعي لم يعد عقليا و إنما أصبح افتراضيا، أن يصبح الواقعي افتراضيا  , يصبح الافتراضي واقعيا فالأمر يكشف جملة تحولات عميقة مست النسق العام للفكر و الثقافة و أنماط السلوك وطبيعة الشخصية المعولمة ، من بين التحولات العميقة و التي مست هوية الإنسان في العالم الافتراضي  حيت أصبحت الذات تعيش وحدة رغم تواجدها وسط عدد لانهائي من المتفاعلين  و المنخرطين في شبكات التواصل .

 التحولات التي مست شخصية الفرد من وجهة نظر ويل ستور will storr

الكاتب الصحفي البريطاني ويل ستور will storr  يناقش التحولات التي مست شخصية الفرد في زمن العولمة و يتعلق الأمر الاهتمام المبالغ فيه بالذات  والهوس بها حيت الإقامة فيها و خارجها في الوقت ذاته  , و هي مفارقة غريبة و حادة، نعيش في عصر العولمة , التي ساهمت في بناء نمط سلوكي عالمي بجعل الإنسان كائنا مستهلكا و سعيدا , وان سعادته مرتبطة بنوع العطر و نوع السيارة و حتى نوع البيسكوي او نوع الشمبوان الذي يستعمله , السعادة تعني استمرارية الاستهلاك من اغلي سلعة الى أرخصها , لا احد ينبغي ان ينفلت من شبكة الاستهلاك .
بهذا المعنى فالعولمة صنعت فردا مستهلكا يعيش من اجل اللذة , بجعل  الليبدو هو محور حياته و سر سعادته، الانسان المستهلك هو الباحث عن لذته و عن سعادته و لو اقتضى الامر ان يتخلى عن كل شئ عن ذاته و هويته من اجل اللذة .
طريق اللذة الذي رسمته العولمة هو طريق بلا نهاية , لأنه يولد كائنات هجينة و سطحية تعيش وفق مبدأ الحاضر، أي بناء شخصية بلا حس واقعي او إشكالي , تعيش بالبعد اللذي كبعد وحيد  حيت تصبح اللذة هي معيار السعادة .

لم يعد الفرد انتاج مجتمعه كما عبر عن ذلك دوركايم في تصوره لطبيعة العلاقة بين الفرد و المجتمع و انه حتى الفرح الذي يبديه المجتمع بالمواليد الجدد ليس فرحا بالاطفال انفسهم، و انما هي إجراء وظيفي حتى يتم تربية و تنشئة هولاء بما يفيد المجتمع  , و ان لا يكونوا عناصر تشويش وعرقلة لوظائف المجتمع .

الهويات الإفتراضية التي يكسبها المجتمع الإفتراضي للأفراد

مع الهويات الافتراضية هناك شبه انسحاب من المجتمع الواقعي او حالة من التمرد الجماعي عليه بالانخراط في قيم الافتراضية و الفضاءات الافتراضية و المجتماعات الافتراضية و هو ما يفترض استبدال الفيم الدوركايمية و اعتبار الظاهرة الاجتماعية قهرية وعومية و خارجية لم تعد كما كانت.
ربما الهويات الافتراضية و ما نتج عنها من تحولات جدرية في نسق السلوك الفردي و الاجتماعي و الثقافي لمواطن العولمة يفرض تغييرا في النسق الدوركايمي ,  و الذي وضع اطار صارما للعلاقة بين الفرد و المجتمع , و لعل عنوان هذه التحول يكشفه عبارة دوركايم : اذا تكلم ضميرنا فان المتكلم هو المجتمع , فان هذه العبارة ربما اصبحت جزءا من الماضي و قعة تراتية لا تاثير لها فس نسق التنشئة و التاثير , و وجب استبدالها بعبارة اذا تكلم  ضميرنا فان المتكلم هو شبكة الانترنيت كعالم افتراضي.

العالم لم يعد كما كان صلبا و الهوية الفردية الصلبة و المتمسكة بقيمها تلاشت او على الاقل تراخت و بدأت في التلاشي،  و المجتمعات تحولت من مجتمعات عضوية و إلية الى مجتمعات افتراضية موجودة في اللامكان.
فالعواطف و الحب و الكراهية و الغضب تحولت من انفعالات واقعية الى مجرد ايقوانات مرئية، حيت اصبحت الصورة اهم من الفرد، اما قيم التقدير و الاحترام فهي مفاهيم و قيم متلاشية , لان قيمة الفرد تحددها صورته و عدد المتفاعلين  معها يتم توظيفه من اجل التفاعل مع الآخرين التواصل مع الآخرين، و بناء العلاقات الايجابية او السلبية مع الاخر الافتراضي عبر إيقونة J AIME ،فالصورة التي تحضي بأكبر كم من الإجابات يعني انها ذات افتراضية اجتماعية و لها اكبر عدد من الأصدقاء المنتشرين في كل مكان، عكس الصورة التي لا تحضى باهيمة تقدير ايجابي فان صاحبها يعيش عزلة افتراضية و يعيش في فضاء ازرق بلا أصدقاء، فالتواصل أصبح مرئيا و صامتا يتم عن طريق الصورة التي التهمت الذات و حولتها الى مجرد صورة قابلة للتداول و التقييم و الإعجاب في فضاء مفتوح.

 تعريف التواصل الإفتراضي

التواصل الافتراضي هو تواصل غير اجتماعي لانه مؤسس على صور و ليس على تفاعل حي يفترض ذوات متحاورة و سياق ولغة حوار اظافة الى كثلة من الانفعالات المرتبطة بطبيعة التواصل و مضمونه .
لقد نجح التواصل الافتراضي في تحويل التواصل الاجتماعي داخل المؤسسات الحية و اليومية في البيت وفي المقهى في الشارع الى تواصل افتراضي , الأمر الذي يقود إلى تأكيد فرضية التهام الافتراضي للواقعي .  لكل شخص هاتفين او اكثر و هو ما يجعل هواتف المغاربة تتجاوز 65 مليون هاتف خلوي . أي ان عدد الهواتف يتجاوز عدد المواطنين أنفسهم.
مواطن العولمة غير بطاقة هويته كما غير موطن إقامته حيت أصبح الإقامة الدائمة في شبكات التواصل الاجتماعي و هو ما يجعل إقامته فيها هي اقامة من اجل الموت ,ان أخذنا بالبعد الاستشعاري لكلمة شبكة العنكوت , وهي عبارة عن خيوط رقيقة ناعمة و ملساء و تسمح بالتأرجح و الدوران و الخفة , لكنها خيوط قاتلة , بمجرد الالتصاق بها فكل حركة تعني قيدا جديدا,   و النتيجة صيد سهل للعنكوت و التي لا تحتاج الى الخروج من اقامتها للاصطياد لأنها تمارس الصيد و القتل الناعم فضحاياه هم من يبحثون عنها .

المجتمع الافتراضي و الهوية الافتراضية احدثت قطيعة مع الإرث الدوركايمي في تأصيله لهوية و طبيعة المجتمعات و طبيعة العلاقة بين الفرد و المجتمع ساهم في بروز الفردانية بشكل متطرف كاطار لبناء هويات فردية منعزلة و متحررة من كل القيم و المعايير الاجتماعية او على القل التمرد ضدها.

 بذلك يكون المجتمع الافتراضي المؤسس و الحامل لحقيقة افتراضية كما سمها السوسيولوجي برنارد جو ليفارت قد انهت العلاقة مع أسس التصور الدوركايمي  في نظرته لطبيعة المجتمع و خصوصيات الظاهرة الاجتماعية .

الاعتراف بصعوبة استيعاب المنجز الدوركايمي لطبيعة التحولات المتسارعة و الخاصة بالمجتمع الافتراضي تكشف القيمة العلمية لهذا الارث السوسيولوجي المهم، لان علمية اية نظرية تتحدد بمتلاكها ميزو النسبية و إمكانية مجاوزتها او حتى قابيلة تكذيبها وفق تصور كارل بوبر.

 

 بقلم: الفرفار العياشي

 

أضف تعليقك هنا