حرب الإمبراطوريين الجُدُد فى البيت الأبيض!(2)

لعل الأحداث الدائرة والمتسارعة اليوم في منطقتنا خاصةً، والعالم عامةً بحاجة لوقفة تجمع بين التأمُل والتأني، فما نراه اليوم من مشاهد حية ومُثيرة ونابضة على الشاشات أو من أحرف لامعة فى عناوين المنشتات بحاجة لوقفة تُطيل النظر وتُمعِن التفكير وتنفذ إلى الأعماق، وهذا ما أحاول فعله في تلك الأجزاء، وكنت في الجزء الأول قد تحدثت عن رؤية أمريكا للحرب العالمية الثانية وكيف أدارت الولايات المتحدة الأمريكية تلك الحرب.

ولعلنا اليوم في عالمنا العربي البائس الحزين اليوم نشهد حالة تراجع لم يسبق لها مثيل على كافة المستويات وفي كل الأصعدة (سياسية، اجتماعية، عسكرية، ثقافية)، وتلك حالة أجد نفسي واقع أمامها في حيرة حقيقية، فالحديث عنها يسبب ألماً قد يتحول إلى جُرح كبير، والصمت أمامها بمثابة هروب الجندي من أرض المعركة وقت القتال، وفي كل الأحوال فإن تلك حالة يصعب السكوت عليها، والهرب منها بدعاوى الكبرياء المفقود أو الكرامة السليبة!

معركة القرن الكبرى

عندما خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية لتجد ثلاث تحديات:

التحدي الأول: وراثة الامبراطوريات القديمة

وعلى رأسها الامبراطورية البريطانية التي كان يُقال عنها (لا تغرب عنها الشمس)، وورثاتها تحديداً في الشرق الأوسط، وذلك أمر بدأ مع دخول أمريكا إلى ميدان الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن وزير خارجية بريطانيا (إيدن) وقتها قال عن طريقة المقايضة التي اتبعها روزفلت مع تشرشل في الحرب:

“إن روزفلت يتعامل مع تشرشل كما كان يفعل المُرابي “شيلوك” في مسرحية (تاجر البندقية)”! 

واستمر الحال حتى جاء رئيس الوزراء “أنتوني إيدن”، الذي أغرق الإمبراطورية البريطانية في مياه السويس بعد المؤامرة التي دبرها مع فرنسا (موليه) وإسرائيل (بن جوريون) ضد مصر الناصرية، ليقول ونستون تشرشل بعدها قولته المشهورة عن وزير خارجيته (في الحكومة) ونائبه في الحزب (المحافظين) أنتوني إيدن:

“كنت أعرف أن أنتوني فاشل، ولكني لم أكن أتصور فشله بهذه الدرجة، لو كنت مكانه لما أقدمت على ذلك الخطأ البشع، ولما واتتني الشجاعة للهرب منه بذلك الشكل المُهين”.

وفي مؤتمر “برمودا” (مارس1957 ) الذي جمع بين الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” (وهو جنرال أمريكا الشهير في الحرب العالمية الثانية)، ورئيس وزراء بريطانيا “هارولد ماكميلان” (وهو الوزير البريطاني المُقيم الملحق بقيادة “أيزنهاور” وقت الحرب العالمية الثانية) الذي خلف إيدن، وفي هذا اللقاء جرى توقيع اتفاق مكتوب جاء الأغرب من نوعه في تاريخ الإمبراطوريات، فقد ظهرت فيه إمبراطورية قديمة تُسلم ممتلكاتها لإمبراطورية جديدة، وكأن الأقاليم والدول بضائع في المخازن أو على ظهر السفن، وكان نص الاتفاق كما يلي:

اتفاق على تخفيض الالتزامات البريطانية وراء البحار

  1. إن الرئيس الأمريكي يعبر لرئيس الوزراء البريطاني عن فهمه للضرورات التي تدعو الحكومة البريطانية إلى تخفيف أعبائها في الشرق الأوسط، وهو يتعاطف مع رغبة هذه الحكومة في جعل التزاماتها في المنطقة متوازنة مع مواردها الاقتصادية والعسكرية.
  2. إن الرئيس الأمريكي أخطر رئيس الوزراء البريطاني بأن الولايات المتحدة لن تستطيع تحمل كل الأعباء البريطانية التي ترى الحكومة البريطانية أنها مُضطرة إلى التخلي عنها، ولهذا فإن الولايات المتحدة تأمل في أن تواصل الحكومة البريطانية إخطار الحكومة الأمريكية بخططها في المستقبل.
  3. إن الرئيس سوف يتخذ الترتيبات التي تكفُل استمرار التشاور مع الحكومة البريطانية في المسائل والحالات، التي يتعين فيها استطلاع رأي الحكومة البريطانية، وسوف يكون ذلك موضع الاعتبار.
  4. إن الرئيس الأمريكي يعبر عن أمله في أن الحكومة البريطانية سوف تقوم بتخفيضات تدريجية ومنتقاة بما يناسب المصالح الغربية بصفة عامة، ويتفق مع مطالب الأمن الضرورية للسلامة المشتركة.
  5. إن حكومة الولايات المتحدة سوف تقدم للحكومة البريطانية دعماً مالياً فورياً مقداره أربعمائة مليون دولار.

التحدي الثاني: ثورات التحرر الوطني

التي انطلقت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في مصر “عبد الناصر” ويوغسلافيا “تيتو” وهند “نهرو” وغيرها من البلدان في العالم الثالث على طول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وقد تعاملت أمريكا مع هذا التحدي باستخدام عدة سياسات في نفس الوقت مثل “شرطي المنطقة” فتارة هي إسرائيل اليهودية الصهيونية، وتارة أخرى هي إيران الشاهنشاهية، بالإضافة لذلك استخدام أسلوب الانقلابات من الداخل لإزاحة الأنظمة المشاغبة، ووصل الأمر إلى سياسة الاغتيالات المباشرة.

ولقد كان الزعيم الهندي الكبير “نهرو” يقول:

“نحنُ محاصرون في منافسة بين قوتين أمريكيتين، واحدة “شريرة غامضة” تُستعمل “للتطويع والإخضاع” هي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والثانية “براقة وخداعة” تُستعمل “للغواية والإغراء” وهي هوليوود عاصمة السينما. ومشكلتنا أنه إذا فازت المخابرات المركزية أصبحت حريتنا مهددة، وإذا فازت هوليوود تصبح ثقافتنا مهددة.

وتدخل وزير خارجية الهند وقتها “كريشنا مينون” يذكر “نهرو”: “بأنه نسى قوة ثالثة لابد أن تدخل في المعادلة وهي قوة “البنتاجون” وزارة الدفاع،

ورد: “نهر” قائلاً “لمينون”:

“لك الحق، ولكني أظن أن فقدان الناس “لحريتهم”، وفقدانهم “لثقافتهم يمكن أن يتم بغير صخب، وحتى دون أن يشعروا، لكن السلاح عندما يتحرك يثير ضجة تُنبه الآخرين إلى أنهم معرضين لتهديد النار”.

التحدي الثالث: مواجهة إمبراطورية الشر الاتحاد السوفيتي الشيوعي

بقيادة رجلها الحديدي “جوزيف ستالين” وخلفه الكتلة الشرقية وحلف وارسو.

وقد تعاملت أمريكا مع هذا التحدي باستخدام سياسة سباق التسلح، لكي تقطع أنفاس الاتحاد السوفيتي في سباق تكاليف له أول وليس له آخر!، واستطاعت أمريكا أن تكسب معركتها بكفاءة تخطيط السياسات ووفرة الموارد، وانتشار الإعلام وبراقة الإعلان، وكانت نتيجة الحرب بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي قد ظهرت في نهاية عصر الرئيس “ريجان” حين خرجت صرختان من امبراطورية الشر التي أسسها “لينين” وبناها “ستالين” وشرخها “خرشوف” وربطها “برجنيف” وفكها “جورباتشوف” وهشمها “يلتسن” أشلاءً إلى أبد الأبدين!

  • كانت الصرخة الأولى من “جورباتشوف” بأنه لم يعد يستطيع التحمل المضي إلى نهاية الطريق!
  • وكانت الصرخة الثانية من “يلتسن” بأنه فقد الأمل في الإصلاح ومن ثم فعليه القفز إلى المجهول!

ومع ذلك ظلت أمريكا غير مصدقة للمشهد الذي تراه أمامها ويراه العالم معها، وكان أكثر ما فاجأ البيت الأبيض في عهد “ريجان” أن الرجُلين الباقيين على دفة الإمبراطورية الشيوعية (يلتسن و جورباتشوف) كلاهما راح يستعين بها ضد رفيقه، ومن جانبها فقد كان مُناها الخلاص من الرجُلين معاً، وفي نهاية المطاف تكفل كلاهما بإنجاز المهمة وتحقيق مُنى العم سام.

ومع أن المعلومات المتدفقة على المكتب البيضاوي كانت مؤكدة ومفصلة في رصدها للسقوط الكبير فإن كافة أجهزة الادارة الأمريكية حول البيت الأبيض وفيها وزارة الدفاع (البنتاجون) ووزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ظلت غير مُصدقة هي الأخرى ما تراه بعينيها، ثم كان أول همها وسعيها بعد أن ثبُتت الرؤية إبداء اللهفة على مصير الترسانة النووية السوفيتية، والهرولة على عجل بعروض مساعدة على تأمينها (إزاء عمر افتراضي قارب أجله) وخوفاً من مجهول يمد أصابعه إلى زر أحمر مع لحظة اختلطت فيها اليأس مع الغضب.

أمريكا تصفي حساباتها مع الحلفاء!

  • عندما ظهرت بشائر سقوط الاتحاد السوفيتي انتابت الولايات المتحدة مشاعر التبرم والضيق والغيظ والغضب مما شعرت به أمريكا حِيال حلفاء لها في أوروبا اعتبروا انهيار الاتحاد السوفيتي انتصاراً لهم، دون أن ينتبهوا بالقدر الكافي لنوازع أمريكا في تلك اللحظة الفارقة، ذلك أنهم وهم يحتفلون بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، لم يظهر عليهم من (وجهة النظر الأمريكية) إدراك لحقيقة أنهم يحتفلون بنصر لم يصنعوه، ولم يتحملوا تكاليفه، بل إنهم على العكس استفادوا على الحساب من حيث أن الولايات المتحدة وفرت لهم طول الوقت عمليات إنقاذ متوالية ابتداءً من مشروع مرشال الذي أسعفهم فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى ضبط أسعار بترول رخيص أتاحته لهم الولايات المتحدة من أسواق الشرق الأوسط التي استحوذت عليها أمريكا.

ثم إن هذا الدعم ظل مُتاحاً حتى أعقاب حرب أكتوبر1973 عندما قفزت أسعار البترول، (وبعدها وقف “هنري كيسنجر” وزير خارجية أمريكا في مؤتمر باريس لتدوير فوائض النفط العربى1974 قائلاً لدول أوروبا:

“إن مشروع مارشال قد انتهى الآن وانتهى معه تطوع أمريكا بضمان سعر بترول رخيص كان لازماً لعملية إنعاش أوروبا).

  • وكانت بقية الدواعي الأمريكية إلى التبرم والغضب من الحلفاء الأوروبيين “ظنها” أنهم عاشوا زمن الحرب الباردة في أمان وفرته لهم مظلة نووية أمريكية تولت حمايتهم دون أن تكلفهم شيئاً، وهذه المظلة لم تكفل لهم الأمن فحسب، وإنما كفلت لهم أن يتوفروا على صنع الثروة وتكديسها، وتجديد وسائل إنتاجهم وتطويرها، وتحسين خدماتهم والارتقاء بها و أولها التعليم، والآن هرعوا للاحتفال على حساب ما أنجزته أمريكا وحدها، ثم هم فوق ذلك يحاولون تلقينها درساً فى طرائق السلوك والتصرف، ويتبجحون بالرغبة في اعتبار أنفسهم أقطاباً دولية أوروبية على قدم المساواة مع أمريكا، وكان معظم الضيق إلى حد الغيظ موجهاً إلى فرنسا وألمانيا.

وكان الحلفاء الأوروبيون لأمريكا حاضرين دائماً بردود نثير الخواطر أكثر مما تلطفها، فهم يعترفون بفضل المظلة النووية الأمريكية لكنهم يضيفون أن هذه المظلة كانت أمناً لأمريكا بالدرجة الأولى، ثم أنها لم تكن بلا ثمن، لأن أوروبا أعطت الكثير، وتحملت الأكثر سواء من غموض النوايا السوفيتية ـ أو من تجاوزات القوة الأمريكيةـ ومع ذلك فإن أوروبا في المبتدي والمنتهى كانت قابلة بدور متميز لأمريكا في قيادة عالم ما بعد الحرب الباردة، ومنتهى طلبها شراكة في المستقبل متكافئة وليس إملاءً إمبراطورياً متعالياً، فهم ليسوا دول عالم ثالث، وإنما هم دول أقدم وأعرق، وثقافات أسبق في الزمن وأعمق، وخبرة أسلم وأعقل!

لكن الأغرب والأعجب وقتها أن الغضب والضيق الأمريكي وصل وقتها لبعض الحلفاء العرب الذين ظنوا أنهم تحمسوا وتطوعوا لتحقيق التفرد الأمريكي على العالم.

  • فمن ناحية كانت هناك دول تظن أنها لعبت دوراً هاماً في أفغانستان حيثُ وقعت الضربة القاضية ضد الاتحاد السوفيتي تحت رايات الجهاد الإسلامي المُقدس الذى أرهق الجيش السوفيتي، ومرغ أنفه في التراب وأوصل الدولة السوفيتية إلى قبرها تحت ذلك التراب.
  • ومن ناحية ثانية هناك دول أخرى تظُن أنها لعبت دوراً أساسياً في وقت تقدم المد الإسلامي(الشيعي) الذى مثلته الثورة الإيرانية، وأقامت ضده سداً هائلاً مدعوماً مالياً ومخابراتياً حتى أوقفته وحصرته (ولن أزيد فى تلك النقطة رغم وجود وثائق تقول أكثر من ذلك)، وبالتالي فإن العقيدة الشيوعية لم تركع أمام القنابل النووية الأمريكية، وإنما أرغمتها على الركوع تلك السيوف المشهرة الذي وهب بدوره نصر الله للولايات المتحدة الأمريكية!

والآن كانت هذه الدول العربية على الناحيتين (الفريق الذي صد الزحف الشيوعي في أفغانستان، أو الفريق الذي حصر التيار الإسلامي في إيران) تتقدم مُطالبة بحقوق تعتبرها إنصافاً وعدلاً!

ولم تكن أمريكا على استعداد للاعتراف للطرفين بما قدما، ورأيها بأثر رجعي، أن هؤلاء العرب لا يستحقون منها مكافأة فقد فعلوا ما فعلوا ووقفوا حيث وقفوا دفاعاً عن مصالحهم الذاتية، وعن أمنهم قبل الأمن الأمريكي، وبالتالي لا تصح لهم بعد ذلك مطالبة بمستحقات متأخرة أو متقدمة.

كان ذلك ملمح آخر لمعرفة طريقة إدارة أمريكا لصراعاتها.

المراجع:

  1. الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق – محمد حسنين هيكل.
  2. الإستراتيجية الأمريكية للقرن الحادى والعشرين – أنتولى دوبركين.
  3. السياسة الخارجية الأمريكية بين مدرستين المحافظة الجديدة والواقعية – هادي قبيسي
  4. أمريكا المختطفة ـ جون جي.ميرشايمر

فيديو مقال حرب الإمبراطوريين الجُدُد فى البيت الأبيض!(2)

 

أضف تعليقك هنا

مجدي منصور

‎محامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة