عودة الوعي – مصر في عهد ناصر بعيون توفيق الحكيم

كتابات توفيق الحكيم 

في عام 1972، قرر الكاتب الكبير توفيق الحكيم تدوين ما وعته ذاكرته من صور ثورة 1952. أراد الحكيم من خلال هذه المذكرات تسجيل رأيه و مشاعره الشخصية تجاه تلك الحقبة من عمره – على حد قوله. لم تكن هذه المذكرات مخصصة للنشر، لكن حدث أن تسربت نسخ منها عن طريق صديق للحكيم. و بعد سجال، قرر الحكيم نشر النسخة الأصلية من المذكرات ليدرأ بها النسخ المشوهة التي ظهرت في الصحف المصرية و غير المصرية، و ذلك بدلاً من مقاضاة ناشري النسخ المنقوصة. رأي الحكيم أن مقاضاة هؤلاء قد توحي بإنكاره لمحتواها، و أن النتصل من رأيه ليس من شيمه. فكان كتاب “عودة الوعي” الذي نشرت الطبعة الأولى منه عام 1974، و أثار ضجة و اعتراضاً بين أوساط الناصريين و اليسار.

الثورة و نبوءة الحكيم

يروي الكاتب ذكرياته عن فترة ما قبل الثورة، و عن كونه ممن تنبأوا بثورة 1952 في كتابه “شجرة الحكم” عندما نادى بضرورة قيام “حركة مباركة و ثورة مباركة”، و قد سميت ثورة 1952 بهذا الاسم فعلاً في مبدأ ظهورها. كان الحكيم من المتحمسين للثورة، و كيف لا و هي قد نجحت في طرد الملك الفاسد، و بدأت في فترة قصيرة في اتخاذ قرارات كانت تحتاج إلى عقود لتنفيذها – إن نفذت، مثل تحديد الملكية الزراعية؟ حتى عندما بدأ يرى بعض الانحرافات في مسلكها فإنه كان يأمل أن تقوم الثورة بتصحيح مسارها بنفسها، و أن تكون مكاسب الثورة أكبر من نقائصها.

تفاؤل ينقلب إلى مصيبة

كان الحكيم – مثل الكثير من المثقفين الذين عاصروا الثورة – مستبشرين بالشبان الذين قاموا “بالحركة المباركة”، لكن تأتي الريح بما لا تشتهي السفن. كانت أول طامات الحركة المباركة – ثورة 1952 – إلغاء الحياة الدستورية خوفاً من انتخابات محتملة تأتي بحكومة وفدية قد تعارض حركة الضباط. فأفتاهم أحد ترزية القوانين ممن كارهي الوفد بإهمال الدستور و أحقيتهم في إصدار القوانين بدون برلمان استناداً إلى أن ما قاموا به “ثورة” و ليست حركة للضباط. و هكذا تحول الانقلاب العسكري بقدرة قادر إلى ثورة، و أين هي من تعريف الثورات التي يقوم بها شعب و يقودها مدنيون؟ و بناء على تلك الفتوى السقيمة  أصبح هناك مجلس لقيادة الثورة يصدر القوانين في الغرف المغلقة و بدون مناقشة علنية. تجازو المفكرون عن تلك المصيبة لأنهم لم يكونوا قد رأوا آثارها السلبية بعد، و لأن “العيون المحبة لا ترى” كما يقول التعبير الشهير.
ثم توالت المصائب. قامت الثورة بحل الأحزاب، و لم تكتف بذلك؛ فقامت بتجريد السياسيين أصحاب الأقدار الكبيرة من هيبتهم، و جعلتهم إما ممن يطلبون الحظوة من السادة الجدد، أو ممن يدوسون أقرانهم ليفلتوا بأنفسهم. و لم ينج من الخوض في هذا المستنقع إلا قليل.

وتلت تلك المصيبة حركة التطهير، فشجعت الثورة المباركة كل موظف على الطعن في زميله أو رئيسه ليأخذ مكانه، فكان أن تم تجريف الجامعات و المصالح الحكومية و حتى المستشفيات من أصحاب الكفاءة لصالح أصحاب الحظوة و المشاغبين، و زالت هيبة المرءوس و سلطانه، و أصبح الجهاز الإداري للدولة محكوماً بعديمي الإحساس بالمسئولية.

عرض الرجل الواحد

أصبح عبد الناصر هو الرجل الأول في البلاد، و بدأت البلاد تعتاد حكم فرد وثقوا فيه و أحبوه. و أخذ الحاكم المحبوب نفسه يعتاد الحكم الذي لا مناقشة فيه. كان الشعب بصفة عامة، و المفكرون بصفة خاصة، يحبون عبد الناصر، رغم كونهم لا يعرفون دخيلة فكره و لا الدوافع الحقيقية لتصرفاته. كانت مصر لا تعرف أمورها الداخلية و الخارجية إلا من خلال ما يلقيه الزعيم الخالد من على منصة الخطابة.. خطب رنانة و حماسية تمتد لساعات و ساعات، صار عبد الناصر المعبود المعصوم، و لم يعد العقل المصري يجرؤ  على أن يخرج رأياً علنياً مخالفاً لرأي الزعيم المعبود. وصل عبد الناصر إلى أنه لا يناقش و لا يعارض، و هي منزلة لم يملكها الأنبياء و المرسلون الذين كان أقوامهم يجادلونهم و يردون أقوالهم. لم تكن هذه المنزلة لسعد زغلول زعيم الأمة الذي التفت حوله مصر بأكملها، و لا لديجول معشوق الفرنسيين. و حتى إذا أراد أحد نقداً، فقد كانت المنابر مقفلة دونهم.

فنان و ليس حاكماً

رأى الحكيم أن المحرك الرئيسي لقرارات عبد الناصر كانت “الفعل و رد الفعل” و ليس التفكير الرزين المبني على بعد النظر، و هذا يرجع لطبيعة شخصية عبد الناصر الأقرب إلى طبيعة الكاتب الفنان الحالم العاطفي منها إلى السياسي المحنك، و هو ما لمح إليه “نهرو” بعبارة رقيقة عندما قال لعبد الناصرأن الأخير يحتاج إلى القليل من الشعر الأبيض، قاصداً الرزانة و الحكمة و التجربة. و للمفارقة فقد اتجه عبد الناصر فعلاً في مطلع شبابه إلى الكتابة القصة، و كتب صفحات من رواية سماها “في سبيل الحرية” – لا أدري لم تذكرت أن هتلر كان رساماً معمارياً جيداً، و أن رفض أكاديمية فيينا للفنون قبوله كان لحظة فارقة في تاريخ العالم الحديث! يؤكد حديث الحكيم ما قاله عبد الناصر نفسه في المؤتمر الوطني عام 1962 رداً على سؤال بخصوص الأساس الذي قام عليه “الميثاق الناصري” الذي يحوي الفلسفة الناصرية – إذا جاز تسميتها بهذا الاسم. قال عبد الناصر كما نقل عبد الله إمام في كتابه “الناصرية” (دار الشعب – 1971): “على أي أساس قدمت هذا الميثاق؟ على أساس إحساساتي (!!)، و ما لمسته في العشر سنين اللي فاتت، و حطيت فيه الآراء اللي أعتقد أنها تحل بعض المشاكل أو التناقضات”.

الحكيم و شبهة التحامل على عبد الناصر

حرص الحكيم على دفع شبهة التحامل على عبد الناصر عن نفسه؛ فذكر قصة قيام عبد الناصر بعزل وزير المعارف عندما أراد فصل الحكيم من الخدمة، و كان الأخير مديراً لدار الكتب التابعة للوزارة، و كان عبد الناصر في وقت الواقعة قد بدأ نجمه يلمع بين الضباط الأحرار. كان عبد الناصر يتفاخر بأنه “قام بطرد وزير من أجل مفكر”، كما كان قد قرأ “عودة الروح”، و كان يقول أنها أثرت في تكوينه الوطني. كان رأي الحكيم أن عبد الناصر فيه الكثير من “محسن بطل الرواية الشهيرة، من وطنيته و شخصيته العاطفية الانفعالية، حتى في الأمرو السياسية و شئون الحكم كما سبق. حتى علاقة عبد الناصر بالحكيم كانت انفعالية انفجارية، و ظهر ذلك في قرار منح الحكيم أعلى وسام في الدولة لمجرد قيام بعض أدباء الشباب – لم يسمهم الحكيم – بالهجوم عليه بهدف تحطيم الأصنام في زعمهم، و اعترض رئيس التشريفات لعدم أحقية الحكيم للحصول على الوسام الذي يعطى فقط لرؤساء الدول و أولياء العهد. كان الحكيم حريصاً على البعد عن عبد الناصر الحاكم و ليس الشخص.

قرارات مصيرية

يناقش الحكيم موضوعات هامة في تاريخ مصر، مثل اتفاق الجلاء و تهاون عبد الناصر في بنوده و التفريط في السودان، و قرار التأميم. كان الحكيم يرى أن عبد الناصر رجل سلام يهوش بالحرب حتى خسر كل حرب خاضها: العدوان الثلاثي – لولا تدخل القوى العظمى، و حرب اليمن التي ابتلعت الذهب المصري و الرجال، و هزيمة 1967 التي سماها هيكل تخفيفاً “نكسة” و هي هزيمة مكتملة الأركان، التهمت جيشنا بأكمله، و كلفتنا من الأموال ما كان يكفي لبناء سدين عاليين طبقاً لمقال لهيكل، و وضعت مصر في حالة ركود بلا سلم و لا حرب، حتى حرب أكتوبر 1973.  يقارن الحكيم خسائر مصر المادية الشنيعة على يد عبد الناصر بما استدانه الخديو إسماعيل من بضع عشرات من الملايين لتعمير البلاد فيما سمي في وقتها ترفاً و سفهاً، و هي مقارنة تظهر مدى الجرم الذي ارتكبه عبد الناصر في حق مصر و ثرواتها. تعجب الحكيم من مهزلة رقص النواب في المجلس الموقر تأييداً لعبد الناصر بعد الهزيمة بدلاً من محاسبته، و قارن موقفهم بموقف الفرنسييين من نابليون الذي تحمل المسئولية، و تم نفيه بعد معركة واترلو رغم أن الخسارة كانت جزئياً نتيجة خطأ أحد قواده.

الوحدة العربية”بالعافية”

يرى الحكيم أن فكرة الوحدة العربية عن طريق إشعال الثورات و تدبير المؤامرات كانت مسلكاً فاشلاً، أعاق حدوث الوحدة بالطرق التاريخية الطبيعية التي كانت تسير إليها من قبل الثورة. حتى خروشوف رأي أن ما كان يفعله عبد الناصر مدمراً للوحدة العربية، و نصحه بذلك في رسالة نشرها هيكل في أحد كتبه.

ضياع الوعي: الخسارة الكبرى

رأي الحكيم أن أي خسارة مادية أو سياسية بسبب الثورة يتضاءل أمام الخسارة الكبرى: ضياع وعي مصر. أدى الحكم المتسلط و الرقابة الصارمة إلى توقف النمو العقلي و الإرادي لمصر، فأصبح الوجدان الجمعي ضعيف الشخصية فاقداً للقدرة على تحمل المسئولية لأنه لم يتحملها يوماً؛ “فأبوه الحنون هو اذي يفكر له و يختار له .. و يتحمل عنه كل المسئولية و هو جالس كالمعتوه يتلقى كل شئ من فم أبيه”.

بعدما انقشع الغبار

ينادي الحكيم بالحكم على حركة 1952 بشكل موضوعي في جو من الحرية و بعيداً عن الارتباطات العاطفية. كما ينادي – و هو الأهم – بعودة الوعي لمصر، قاصداً استرداد حرية مصر في الحكم على الأشياء، و أن عودة الوعي لن تتم إلا عندما تنكشف الحقائق.
كتاب ينتقد فيه الحكيم ذاته و أترابه من المثقفين، بعد ما رحلت الحقبة الناصرية و صار نقد الزعيم ممكناً، و يثير الكثير من الشجون عن وطن ضاع وعيه و ثروته، و تأخر عقوداً عن ركب التطور.

فيديو مقال عودة الوعي – مصر في عهد ناصر بعيون توفيق الحكيم

أضف تعليقك هنا