في المنفى تظهر الحقائق

كم هي بالغة التعبير (الحقيقة ولدت في المنفى) DIEU EST NE EN EXIL رواية (فانتيلا هوريا) التي جرت وقائعها بين روما القديمة وبعض مناطق اليونان في أيام (هوميروس) الشاعر..لقد كشفت عن سر للحرب والسلام ربما لم يدركه كثير من الباحثين السياسيين، فكانت الحروب تشتعل حيث لا نفهم لغة بعضنا..ولم يكن المقصود هو اللغة المحكية التي نقرأها ونسمعها والتي هي نفسها نتاج للغة أخرى ينبغي أن تفهم أولاً ثم بعد ذلك يمكن لنا فهم لغة الحكي.

الشاعر الروماني الذي أُرسل إلى المنفى

لم تفصح الرواية عن أسم الشاعر الشاعر الروماني أول الأمر، ولكنه أرسل إلى المنفى في بلدة يونانية نائية حفتها الأسوار..ذلك حيث غزا عليها شعب من برابرة جنوب شرق أوروبا بسهام مسمومة، فاضطر للنهوض مع أهل البلدة للدفاع عنها…ولما وضعت الحرب أوزارها رحل الغزاة بلا شيء، مر الشاعر بشيخ مزارع كان من جماعة الغزة فسأله عن قومه، فأجابه (جماعتنا ليسوا قساة بالقدر الذي تعتقدون. إنهم بشر كسائر الناس.

جاءوا من مكان بعيد لأنهم جياع. كان الشتاء قاسياً وطويلاً هذه السنة. يريدون أن يأكلوا ويحملوا شيئاً ما إلى أولادهم. أخلق بهم أن يدفعوا ذهباً ثمناً للقمح، وأن يهاجموا المدينة لإسكات بطونهم العاوية جوعاً. ولكنهم كانوا من الإنهاك بحيث لا يقوون على القتال… يمكن للناس أن يعيشوا في أمن وسلام إذا ما تحرروا من خوف بعضهم البعض الآخر. الخوف يجعلنا نتكلم لغات مختلفة. والحياة تصبح حرباً لا نهاية لها).

الأدب والشعر يقتح الباب لفهم عقول الشعوب

وإذا كان الأدب والشعر هو ما يفتح الباب لفهم عقول الشعوب..فإنه يصبح بلا فائدة إذا لم يحقق دوراً في السلم بين هذه العقول (ألوف الشعراء يولدون ويموتون على هذه الأرض فيمجدون بلغاتهم التي لا تفهم واحدة منها أبناء الأخرى… هم لم يعرفوا كيف يكلموننا ونحن لم نعرف كيف نصغي إليهم).. وهكذا فالحياة كلها عبارة عن خطط استراتيجية كبرى تقوم على فهم أحدنا الآخر من إيجاد مساحة الحركة السلمية الآمنة والضرورية لبقاء كل الأطراف على قيد الحياة.

إذن، من هنا يبدأ السلم حيث لا يرتفع علم أبيض يمنع الحرب إلا بالحرية، الحرية في التعبير عن عقلي وطريقتي في الحياة بذات القدر الممنوح للآخر في عيشه طريقة حياته وأحوال وجوده والتعبير عنها.. ذلك ما يجعل لدينا الحق في التفويض الواثق لمثقفينا من أجل التعبير عن أنفسنا وعقولنا وطرق حياتنا. وهذا التفويض الثقافي هو ما يصنع التفويض بالحراك السياسي والسيادة السياسية.. ولعل كل هذا لا يجيء تكلفاً ولكن جراء تراكمات تاريخية وحضارية متقادمة تسمح للشعوب بمنح ذلك التفويض لمن يستحق ليتكلم باسمهم ويبلغ عنهم.

يجب أن نفهم قبل أن نحكم

وهكذا فإن الإيقاف السياسي للحروب دون فهم عقول الشعوب والتواصل الواعي والحي بينها وحل الأزمات الاجتماعية الأساسية أولاً، لهو إيقاف لها في الظاهر يخفي خلفه الرماد الذي يظل يغلي بالجمر الملتهب المدفون تحته.. فيجب إذن أن نفهم قبل أن نحكم، وأن تتواصل عقولنا قبيل أن نسوس بعضنا. ولعل الشاعر المنفي في رواية (هوريا) لم يكن لتتولد لديه هذه الحقيقة إلا بعدما رأى المشهد من منفاه البعيد كمن يرى العرض المسرحي بأعمق ممن يؤديه على خشبة المسرح.. على هذا المعنى تكون الحقيقة بالفعل قد ولدت في المنفى، ورب ضارة نافعة.

فيديو مقال في المنفى تظهر الحقائق

أضف تعليقك هنا