الأزمنة و الأمكنة مرداس المعنى

الصرخة الأولى

يخترق فضاء العود إلى زمكان الصرخة الاولى؛ صرخته حيث انبجس الزمن البرزخي بين المعهود و الشاذ المألوف لاحقا؛ لأنه يتقفى أثر الطمأنينة و السكينة؛ لذالك ينفي أحيانا زمن البرزخ ليتخلص من صدمة الزمن الابتلائي؛ يحاول عبر خريطة السفر المرسومة في ذهنه تصورا نسجته ميولات التجربة أن يختزل الرؤية ليحوم حول الانتماء الذاتي؛ هذا لأن الرؤية (مرآة) عاكسة للتصور؛ و التصور( صورة ) يصوغها الذهن بريشة التجارب؛ يجاهر بالقول عن ما قبل السبع زمنا تحدده براة الاستقطاب والألعاب ؛حيز تعاد فيه الخلقة والخلق للذات؛ لأن استحضار المعايير المطلقة للتراب والتكريم تخالف الانتساب المعاصر للذات؛ يحس بالغربة لأنه بعيد؛ بعيد فقط؛ و يتخذ من الأهل و الأصدقاء والوطن حجة لتبرير هذا الإحساس مع أنه دائم التواصل مع الزمان والمكان اللذان يحتضنا حجته؛ تشضى تأطير التجربة فيه بين ساحات الفطرة في مخبرات التشكيل المحفوظة وبين فطرة في اذهان من خولت لهم معارفهم اختراق سدرة المنتهى وفطرة التنظير في كراسات الفلاسفة و المفكرين و فطرة التأويل للمقدس وسير الأنبياء والمرسلين وكرامات الاولياء.

هاجر إلى وطنه؛ غشيته سعادة لا تقاوم للوهلة الأولى بعد أسبوع بدأ يشعر أنه يفتقد شئا ما؛ رغم أنه في موطنه لم يعد مغتربا؛ انتابه إحساس و حنين إلى مسقط رأسه حيث كان طفلا يافعا؛ سلسلة خفية تجذبه إلى الدائرة ( الدوار ) ( الحي) الأول من الدوران حيث تشكلت مكانيزمات الأدلجة للبحث عن الحقائق وتأسيس التصورات أما الثاني من الحياة حيث تشكلت خفقات القلب ملتزمة ايقاعات المحيط؛ غمرته السعادة مجددا لأن الطفل تحرك بداخله؛ كل الآثار في ( الدوار ) ( الحي ) توحي بالانتعاش؛ بالحياة؛ بالذكرى؛ هي منبع كل أبحاثه، كل تصرفاته حتى البطولات والأمجاد و التاريخ والفلسفة والفن والتراث ينحتها من( الدوار )(مسقط الرأس)و كأنه سقوط أبدي حيث يرتبط الذهن بدائرة يستحيل أن يفكر خارجها وإن كان ولابد فهو تعزيز للمسقط والسقوط ؛ مرت أيام معدودات و إذ بشعور غريب يهز كيانه؛ غربة مركبة؛ غياب سرمدي؛ بُعد أبدي؛ لم يعد لمسقط الرأس اثر في رأسه؛ بحث عن المنزل (الدّار) الذي يبدو في إيطاره الواسع برزخ المألوف والشاذ زمن الصرخة؛ ابتسم ابتسامة طفل كالقمر.

الطاقة المتحكمة في برمجة الطمأنينة

سرادقات (الدّار) براءة طفل تلملمه زخات العفوية في حضن الرعاية؛ تنفس الصعداء؛ كأنه يمتص شحنة الطاقة المتحكمة في برمجة الطمأنينة داخل كيانه معتمدا على صياغة اللحظة بالتذكار عبر السفر في زمن يحدده المخيال وعلى المكان الذي تحدده (الدّار) و بالتالي هذا الانفصال الموصول بالبعد المكاني هو نوع من التغريب العكسي أو ابتعاد عن الذات انتقالا إلى لحظة الخلاص؛ لم يلبث إلا ساعات و إذا به يتجه مهرولا ناحية اليمين و كانه طفل صغير دون الثلاث يستلم لعبة تقليدية مصنوعة من الخشب؛ هكذا كانت تجره أسلاك التذكار وهو يبتسم ويضحك ثم يجلس في حضن الرضاعة و الولادة منفصلا عن الذات بكل الحواس؛ عاد الى إلحنين إلى الطمأنينة لم يعد غريبا أو بعيدا عن الموطن الذاتي عن خلية التكوين؛ عاش أكثر من ستين سنة في رحلة التذكار والخيال واختزلها في بضع دقائق في الزمن الابتلائي المرتبط بالمكان؛ لم يعد ينتابه إحساس بالطمأنينة؛ يغامره حنين السفر إلى المجهول؛ إلى العدم؛ إلى ما قبل الصرخة الأولى لأن زمن المكان انتهى وزمن الذكرى تلاشى .
صراع الأزمنة توقف نظرا لاندثار بعد المكان المسؤول على تحديد زمن الذات التي تقيد ملكات الشعور والإحاسيس انتصارا للزمن الابتلائي الملتزم للمكان .

نزيف الأسفار بحثا عن الطمأنينة والسكينة عبر تراكم الأزمنة انتهى قبل صرخته الأولى بحوالي التسع حيث كان يتشكل من صلب المكان مادة عبر الحبل السري؛ ابتسم ابتسامة عريضة؛ ابتسامة الكشف؛ ابتسامة الاطلاع؛ ابتسامة التسبيح؛ ابتسامة توحي بتغيير التصور للحياة والكون والوجود ؛ رفض مفهوم الغربة المتداول بعدما اطلع على حقائق الشعور المنسوجة بخيط صراع الأزمنة التي تصوغها مراحل الاستقطاب والتنقل عبر أزمنة الخيال والمخيال للاستئناس بأزمنة التذكار؛ سرعة الخيال رهيبة جدا لكنها لاتخترق الأمشاج؛ بل تقف عند اصطدامها بملكة السمع ؛ وسرعة المخيال رهيبة لكنها محفوفة بصراعات الأزمنة التي يحددها القوم ليس لها محطة توقفها إلا زمن الميول المؤدلج الذي ينفي زمن العدم بحكم تشكيله لمنعطف بعد الصرخة الأولى لينصهر وفق الحكايات والروايات في التعصب الأعمى باسم المعرفة والثقافة والخصوصية .

مجرة العدم

استنادا على سجل التأملات المعزز بالقمطر المسجور؛ يعرج إلى مدارج المجهول؛ إلى مجرة العدم حيث تنكسف له المعاني الكبرى للغربة إذ أدرك بأنها تلك الميزة التي لابد أن يلتزمها الإنسان ليعيش الطمأنينة والسكينة التي أودعت فيه و هو رتق محفوظ حيث الفطرة المطلقة؛ في هذا العالم الذي جاء منه (غريبا) تتناسل القيم المطلقة حمولة تضفي عليه صفة (الغربة)؛ و حسب المدارات الكونية والتقاء المتناقضات سيعود علقة (الديدان) ثم رتقا تحت الثرى لينشر من جديد ؛إن كان ملتزما للغربة سيعود غريبا وإن كان العكس الأمر فيه نظر .

أخذ قلما و ورقة ثم كتب: الأصل فينا أن نكون غرباء نستمد القيم الإنسانية من ذالك العالم الذي أوجدنا على الفطرة السليمة؛ نعم إن مسيرة التاريخ وتقارب الأزمنة والأمكنة والتواصل بين الأجناس وغيرها من المكونات المترابطة فيما بينها سواء كانت ملموسة أو محسوسة معناها محدد أو متغير او مجهول؛ كلها عوامل تحدد معنى معينا يصبح قوة فاعلة؛ و الغربة هي إحدى هذه المعاني التي تبنى أثر هذه التفاعلات في الأذهان .
الغربة هي حنين العود إلى الاطمئنان والسلم والسلام ؛التي شكلتها معان سامية كتبت بألفاظ نورانية؛ و هندسة متناهية لا يعرف كنهها إلا جنين في الرحم؛ الإنسان الذي يعيش الغربة ما يزال يحتفظ بإنسانيته ، انتهى.
كتب هذه الكلمات وترك الورقة على مكتبه ثم خرج .

فيديو مقال الأزمنة و الأمكنة مرداس المعنى

أضف تعليقك هنا