بُعبُع النقاب: بين الحقيقةِ والسراب

لا تخافوا من البعبع فهو مخلوقٌ من نسج خيال الكُتّاب، وهذا المقال يفتحُ نافذةً صغيرة نحو الحقيقة – نحو الجواب العجيب للسر الغريب.

اللغة الإنجليزية وعقدة الوودر

سأصدقكم القول لا يمكن للغة أن تقوم بمعزلٍ عن الثقافة الملتصقة بها، وهذا طبيعي لأن اللغة والثقافة وجهان لورقة الدولار الواحدة؛ ولكن فلننظر لهذا الموضوع من زوايا مختلفة فمثلًا عندما نقول “اللغة العربية” فالثقافة الملتصقة بها لا تنحصر بالرداء الصحراوي والعمامة وإبريق القهوة القديم والجلوس على الأرض في الخيمة، فاللغة العربية والثقافة والإنسان كفردٍ واحدٍ والإنسان كجزء من الجماعة يعملون سويا لإنشاء ما نسميه بالثقافة ولاستخدام تلك اللغة وهذا في تغير مستمر.

ثقافة اللغة

فلا يُمكن تعميم الثقافة لتشمل كل الذي يفعله الناس المنتمون لهويةٍ واحدة او لغةٍ واحدة في زمنٍ واحد، ومن هذا المنطق اللغةُ ليست حكرًا على أحد، فأنا فلسطينية من غزة ولغتي الأم هي العربية ولكنني أتحدث الإنجليزية بطلاقة وأكتبُ بالإنجليزية قصصًا وأشعارًا منها ما قد نُشر في الولايات المتحدة وماليزيا والسويد.

فهل هذا يعني أنّ ثقافة اللغة (أو ما يتوهم لنا بأنها ثقافة اللغة) عليها أن تصبغني بصبغة مستخدم اللغة الذي يعيش في أوكلاهوما مثلًا؟ أحبُّ هذه اللغة وأستطيع التعبير عن نفسي بها بأريحية واللغة هدفها تحقيق التواصل بين الناس فإذا تحقق التواصل فهنيئًا لمتحدثها فقد أتقنها! إذا لماذا كلّ هذه المحاولات البائسة في التحول من غزاوي يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولغته الأم العربية إلى واشنطوني يتحدث الأمريكية وقد انسلخ عن أصله وهويته وبلده وأفكاره؟

لماذا هذه الفقرة التي تبدو لوهلة بعيدة عن السياق وما هو البعبع؟ وما هو السر الغريب ذو الجواب العجيب؟ هذا ما سنعرفه بعد قليل.

قبل النقاب وبعد النقاب وما بينهما

تخصصتُ في آداب اللغة الإنجليزية في مرحلة البكالوريوس وأتبعته بتأهيل تربوي في تعليم اللغة الإنجليزية وأنهيتُ الرحلة بالتخصص في ماجستير الترجمة، وبفضل الله تخرجتُ بامتياز من الآداب والترجمة، وبدأت بالعمل كمعلمة ومترجمة قبل التخرج وبعد التخرج – حتى اتخذتُ قرارًا لم أحسبه سيغير مجرى حياتي لهذه الدرجة.

لطالما حلمتُ بالنقاب، كنتُ أنظر إلى نساء المدينة وفتياتها وهنّ يرتدين النقاب في ساعة الظهيرة وأنا أدعو لهن بالغيب أن ييسر الله لهن أمرهن، وأن يضاعف أجورهن، فيا لهؤلاء النسوة! يجابهن حرور الدنيا بإسدال غطاء رؤوسهن على وجوههن. كان النقابُ بالنسبة لي حلمًا لن أتمكن من الوصول إليه! صحيحٌ أنّ الكثير من النساء في غزة يرتدينه ولكن اتخاذ هذا القرار ليس بسهولة اختيار لون الشالة التي سأخرج بها أو لون الحقيبة الجديدة التي سأشتريها، فهذا الصاحب سيصحبني طول العمر وسيرافقني طول المسير وكم من الصعب اختيار شريكٍ تستطيع أن تقضي حياتك بأكملها معه دونَ أفٍّ أو تأخير.

عملتُ في مجالي لأكثر من ست سنوات (كنتُ بدأتُ العمل وأنا في سنتي الثانية من الجامعة) وعادةً ما كانت الوظيفة تأتيني فأنا كنتُ من المتميزين في مجالي وشغفي كانت سماهُه على وجهي، فكنتُ أولّ من يُوصى به عند إعلان الوظائف، فعملتُ مترجمةً فورية مع مؤسسات دولية ومحلية ومع بعض الوزارات وعملتُ كمعلمة للغة الإنجليزية في مؤسسات محلية مرموقة، وكان صيتي والحمد لله دائما يسبقني، والكل يعرفني قبل أن يلقاني، وهذا كان حالي في جامعتي أيضًا – والحمد لله.

اليوم الذي قررت فيه شراء النقاب

ثمّ في يومٍ من الأيام خرجتُ من الجامعة وقررتُ الذهاب لأقرب متجرٍ واشتريت النقاب، وعدتُ إلى المنزل في لهفة آملةً أن هذه الخطوة هي البداية، وفعلًا كانت البداية وفي 18/11/2017 تنقبت! وأخيرًا تحقق الحلم! وأخيرًا بدأت رحلتي الجديدة!

ذهبتُ إلى الجامعة والفرحُ يحتلُّ قلبي رغمًا عني، وسُعدتُ جدًا بردود أفعال طالباتي، وحزنتُ من بعض الردود التي صدرت عن من رأيتهم قدوتي، ولكن لم يكن شيئًا ليحزنني، فكما قلتُ الفرح قد استعمر قلبي.

مدّني النقابُ بقوةٍ لا أدري كيف أصفها، صارَ درعًا يحميني من نفسي ومن المواقف المحرجة، ساعدني في الاستمرار في النقاش بدلًا من السكوت خوفًا من تعليقات الآخرين، ساعدني على النهوض في كل مرةٍ كان الجلوس فيها أقل جذبًا للأنظار، يُريدون منا البقاء في المنزل عندما نتنقب – ولكننا نتنقب لأننا نخرج من المنزل! وهذا ما لا يريدون فهمه، هم لا يريدون فهمنا ولا يريدون تفهمنا ولا يريدوننا أحرارًا بل أتباعًا، ومنذ اللحظة التي ارتديتُ فيها النقاب شعرتُ بالحرية، وأرسلتُ لصديقتي رسالة مفادها: “لم أشعر بهذه الحرية من قبل! أنا حرّة!”

الرزاق هو الله وخزائنه ممتلئة لا تفنى أبدًا

لم يخطر لبالي ولو للحظة موضوع “الرزق” و “العمل” عندما كنتُ أحاور نفسي بما يخص النقاب، فكانت الرهبة الدائمة: أخافُ أن أرتديه ثم يأتي يومٌ وأخلعه، وهذا الهاجسُ الذي كان يلاحقني كلما فكرتُ بارتداء النقاب. حتى جاء اليوم الذي تواصلت معي فيه مؤسسة “دولية” كنتُ أعمل بها بنظام الساعة كمترجمة فورية وطلبوا مني الاستعداد لمجموعة من اللقاءات التي تتطلب الترجمة الفورية.

ذهبتُ إلى المقر كعادتي واستغرب رجال الأمن كثيرًا ونظراتهم كانت كافية للتعبير عن خوفهم وتخوفهم وشعورهم بأنني في المكان الخطأ (ظنوا بأني إحدى المريضات)، فقلتُ لهم بأنهم ينتظرونني في الإدارة أنا فلانة وأنا المترجمة، فبذهولٍ قبلَ رجل الأمن إدخالي، دخلتُ عند الطبيبة التي سأرافقها للترجمة ومن النظرةِ الأولى عرفتُ أنّها سترفض مرافقتي لها، ولكنها حاولت أن “تتذاكى” ولكن “محسوبتكم” ذكية أيضًا، بدأت تسألني عن المشاكل التي ستواجهنا في الحديث مع المرضى، وأن المرضى سيشعرون بعدم الراحة للحديث مع امرأة لا يرون وجهها.

النظرة السلبية للفتيات المتنقبات

فقلتُ لها: بالعكس! الرجل سيرتاح أكثر في مجتمعنا لأنه إن رآني فستزداد مخاوفه بأن أتحدث للآخرين عن مشاكله، ولكن عندما يشعر بأن كلتينا مجهولتين: فأنتِ أجنبية ولستِ من البلد وأنا لا يعرفني – سيتحدث، فالحديث مع الغرباء دائمًا أسهل! ولكنّها استمرت في تكرار الجملة ذاتها، خرجتُ ذلك اليوم من المؤسسة وأنا سعيدة جدا! اتصلتُ بوالدتي قبل الوصول إلى المنزل وقلت لها: “أمي! نجحتُ بالاختبار الأول! واللهِ نجحتُ بالاختبار الأول!”

كنتُ أعرفُ أنني سأُمتحن بحبي للنقاب، وبرغبتي بارتدائه، وهذا كان امتحاني الأول! اتصلتُ بالمؤسسة وأخبرتهم أنني أنسحب من المشروع (كما يقولون: نتغدى فيهم قبل ما يتعشو فينا).

سلسلة من الامتحانات

ثمّ ماذا بعد؟ أصبح هذا هو حالي مع جميع المؤسسات الأجنبية التي كنتُ أعمل معها، وبعض المؤسسات المحلية التي تتحلى بأعلى درجاتِ التحمل والتفهم والتصالح مع الآخرين والأخريات (عدا المنتقبات).

بعد أن كنتُ من أفضل العاملين والعاملات في مجالي وبشهادة تلك المؤسسات! وبشهادة نتائج العمل! وبشهادة سيرتي الذاتية التي تكاد تنفجر من الخبرات ولم يمض على تخرجي ثلاث سنوات!

رفضهم لي بسبب نقابي

صرتُ أختصر الطريق، هؤلاء الذين لم يسمعوا بنقابي ويتصلون بي من أجل وظيفة ما أقول لهم: تنقبت! ويكأني أقول لهم أني مثلًا مرضتُ مرضًا خطيرًا معديًا يجب ألا أقترب من أحد! وبالطبع – دون خجلٍ من أحد – تكون الإجابة: أوه، عفوًا نعتذر منك.

ولا يزال يحدث ذلك حتى هذه اللحظة؛ أدخل الاختبارات المعدة للوظيفة، أحصد أعلى الدرجات، أتقدم للمقابلة: منقبة؟ لا شكرًا. سمعتُ أسئلةً عجيبة، وقصصا غريبة من أناسٍ كثيرين في مقابلات عملٍ مختلفة؛ وفجأة، أمست الفتاة الناجحة المجتهدة المتميزة (للأسف الشديد) منقبة، وكأنّ لساني بُتِر، أو أقدامي شُلّت، أو رأسي أصابه حرقًا لا يستطيعون تحمل رؤيته، تنقبتُ أنا وتكشفت حقائقهم.

الازدواجية في الحكم والمعايير

في عصرنا الحالي نرى كثيرًا من الفتيات المسلمات اللواتي تقررن خلع الحجاب، ونراهن تجاهرن بذلك على صفحات الفيسبوك بكل عزٍّ وفخر، ونرى أيضًا المسلمين والمسلمات وهم يعلقون لهن ويصفقون لهن ويشدون على أياديهن ويناصروهن، وعندما كتبتُ مرةً على صفحتي بأن مؤسسة من المؤسسات رفضتني بسبب النقاب كانت الإجابة: اخلعيه! عفوًا، كانت “النصيحة”: اخلعيه!

  • مؤسسات حقوق المرأة لا تكترث للمرأة التي تقول لهذا كله: لا! سأرتدي النقاب رغمًا عن أنوف كل من يرفضه، فأنا حرة! وهذه حريتي.
  • نساء المجتمع لا تكترثن للمرأة التي تقول لهذا كله: لا! سأرتدي النقاب لأنني أحبه ولن أتخلى عنه لأرضي غروركم.
  • رجال المجتمع لا يكترثون للمرأة التي تقول لهذا كله: لا! سأرتدي النقاب لأنني لطالما حلمتُ به! ولن أسمح لأحدٍ بأن ينزع مني حلمي هذا.
  • كن أنتَ لبنة التغيير! كوني أنتِ البداية!

لا تنظر إلى المنتقبة فترى “لصة” ولا تنظر إلى المنتقبة فترى “جاهلة غير متعلمة”، هذه الصور النمطية لا تختلف عن الرجل العربي الجالس في الصحراء يغني للغنم.  هناك من اللصوص من يلبسون البدل، وهناك من اللصات من تلبسن أحدث الصيحات. إن هذا النقاب الذي نرتديه ليس بعبعا، ودعونا من الكلام الساذج الذي يقول بأن عدم رؤية المنطقة أسفل أعيننا ستؤثر على التواصل بيننا!

في عصر التقنيات الذي نعيشه؟ وأساليب التعلم الحديثة التي لا يوجد بها معلمون أصلًا! وكل الذين فقدوا بصرهم؟ وكلّ الذين يجلسون في الصفوف الأخيرة – هؤلاء كلهم لا يرون المعلم أصلا، هذه كذبة كُذبت ورُددت وصدقها الجميع – وعملوا بها، وكنّ المنتقبات ولا زلن ضحيتها.

نور قبل النقاب – هي نور بعد النقاب لا يوجد بعبع

ولا يوجد وحش يختبئ في الخزانة، ولا يوجد شرير تحت السرير، مفهوم الحرية من المصطلحات الصعبة التي لا تزال البشرية تحاول جاهدة قولبتها لتتوحد تعريفاتها في إطارٍ ما، ولكن تأبى الحرية إلا أن تتحرر من هذه المحاولات التي لا تزال تبوء بالفشل حتى يومنا هذا، ولعل الوصف الأشمل للحرية يتلخص بقولنا “التحرر من عبادة العباد لعبادة رب العباد”.

لم أندم يومًا على ارتداء النقاب، وقررتُ أن أحميهِ كما يحميني، وقررتُ أن أدافعَ عنه كما هو يدافعُ عني، ولهذا أشاركُ هذا المقال وأنا آملةً بأن المستقبل سيتغير وأن من يقرأ المقال لن ينظر للمنتقبة من ناظور الأحكام السابقة أو الصور النمطية، كلّ واحدةٍ منا لها قصتها…

وهذه هي قصتي: أنا نور، أنا منتقبة.

فيديو مقال بُعبُع النقاب بين الحقيقةِ والسراب

أضف تعليقك هنا