فقه سماع التلاوة… القوالب

بقلم: مصطفى رجب مصطفى أحمد

يَعرف السميعة لكل قارئ كبير عددًا من الجُمل النغمية والنقلات والقفلات المميزة التي لا يشاركه فيها غيره، فهي معالم أسلوبه ورسوم مدرسته، ومسالكه النغمية التي يكرر معظمها في معظم تلاواته، وهي طريقته التي تُنسب إليه فيتوخاها مقلده حتى يُعرف بين الناس أنه يجيد تقليده.

إبداع القارئ

هذه الجُمل النغمية والنقلات والقفلات المميزة يمكننا أن نسميها قوالبَ إبداع القارئ، التي اعتاد أن يبدع فيها، واعتاد سمّيعته أن يسمعوها منه، وفي إطار القوالب المشهورة لكل منهم أبدع كبار القراء من غير المنشدين، كالشيخ محمد رفعت، والشيخ الشعشاعي، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ أبو العينين شعيشع، والشيخ محمود علي البنا، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد.

التلاوة

وقد تفاوتت نسبة القوالب في التلاوة بين قارئ وآخر، لكنها ظلت الغالبة على أداء هذا النمط من القراء، فيمكن أن نقول مثلا إنها تشكل ما متوسطه 80% من جُمل التلاوة، والـ 20% الأخرى تشكلها التجليات الخاصة التي يُرزقها القارئ في كل تلاوة، خارج قوالبه المعتادة، أو خارج شكلها البسيط المعتاد، وتتفاوت النسبتان نفسهما بين تلاوات القارئ الواحد بحسب صفاء مزاجه وجاهزيته للإبداع في كل تلاوة، وما يُرزقه فيها مِن تجليات وكرامات، والذي يحدث عندما يفاضل سمّيعٌ بين قارئ وآخر، أنه يفاضل بين قوالب هذا وذاك، ويختار ما هو أشد ارتياحًا وميلًا إليه من الجُمل والتراكيب النغمية والقفلات. تستحوذ القوالب على القدر الأكبر من المقارنة، بينما يشغل الصوت المساحة الأضيق، لأن المقارنة بين أصوات الكبار مقارنة بين أصوات عظيمة لا يرجح أحدها على الآخر إلا بمشقة شديدة، ولأن التنوع الكبير في قوالب أساليب الكبار لا بد أن يستحوذ على ذهن السامع عند المقارنة، ولأن السمّيع الحصيف يسمع نغمًا عبر صوت قبل أن يسمع صوتًا عبر نغم، لكن تبقى خامة الصوت وإمكاناته بلا شك أحد العوامل المؤثرة في تكوين كل قارئ لقوالبه.

كيف نشأت القوالب؟

القارئ العبقري ليس ملحنًا يجلس قبل التلاوة ليضع لحنًا تامًا على مقاس آيات الربع الذي ينوي قراءته، بل هو يبتدئ القراءة وفي ذهنه قوالبه المعتادة التي يذهب إليها على سجيته، فكيف استقرت في سجيته؟
تنشأ القوالب بطريقين: الاشتقاق والخلط، والغالب أن كل القراء الكبار سلكوا الطريقين معًا في إنشاء قوالبهم المميزة.

الاشتقاق

فإن كل قارئ بدأ مقلِدًا حتى نضج، فبدأ يخرج عن أسلوب شيخه بأن يشتقَّ مِن جُمَله جُملًا تشبهها في بعض المواضع وتغايرها في البعض الآخر، على ما ارتاحت إليه سجيته وسمت إليه موهبته ومعرفته النغمية، ثم يواصل تجويد جُمله الجديدة المشتقة وتطعيمها بفريد إبداعه حتى تستوي على صورة جديدة تُنسب إليه وحده، فلا يبقى في جُمله ما يشبه جُمل الشيخ إلا الأثر الضعيف الذي يرمز بلطف، ويخفى عن كثير من الآذان.
بهذا الاعتبار يمكننا أن ننسب الشيخ أبو العينين شعيشع إلى الشيخ محمد رفعت، والشيخ البنا إلى الشيخ الشعشاعي، والشيخ المنشاوي إلى الشيخ محمد سلامة دون أن نقول إن أيًا منهم كان مقلدًا لشيخه، فقد تمت عملية الاشتقاق وبلغت مداها حتى اختلف الشكل واللون.

الخلط

فإنه راجع إلى تأثر القارئ الناشئ بقارئين أو أكثر من كبار قراء عصره، فيبدأ بتقليدهم معًا، فيخلط أساليبهم وجُمَلهم حتى ينتج مزيج لا يُنسب إلى أي منهم، وإنما يُنسب إليه وحده، ثم هو يواصل تجويد جُمله وصقلها بفريد إبداعه حتى تعلو درجتها على درجات من أخذ عنهم في أول نشأته.

تراجع فن التلاوة

وأوضح مثال على إنشاء القوالب بالخلط هو الشيخ محمد صديق المنشاوي فإنه تأثر من جهة بوالده، ومن جهة أخرى بالشيخ محمد سلامة، وكانت قراءة الشيخ صديق المنشاوي الأب قراءة سجيةٍ مرسلة تخلو من الصنعة، وقراءة الشيخ محمد سلامة قراءة صنعة وترتيب، فشرب الصنعة والترتيب من الشيخ محمد سلامة ونظم بهما قراءة والده التي كانت أفخم جملًا وأشجى قَفلًا وأهيبَ في النفس من قراءة الشيخ سلامة، حتى نضج المزيج العجيب فأضاف إليه من إبداعاته وفرائده وتجليات موهبته ما فاق به والده والشيخ سلامة بمسافة واسعة، وحتى صار الأسلوب المنشاوي يُنسب إليه لا إلى أبيه، والمقلدون من عائلته وخارجها يقتفون طريقته لا طريقة أبيه، وكان الذي حدث عند تراجع فن التلاوة منذ سبعينيات القرن الماضي أن جودة إنتاج القالب تراجعت عند الأجيال الصاعدة من القراء عن درجتها عند القراء الكبار، لضعف الاشتقاق حينًا، وإساءة الخلط حينًا آخر، والتأليف النغمي من لا شيء بحثًا عن التميز والبُعد عن شُبهة التقليد، مما أنتج مسوخًا من الجُمل النغمية، وللتقليد الصِرف رابعًا عند فئة من القراء اكتفت بتقليد الكبار وزهدت في إنتاج قوالبها.

القوالب والثراء النغمي

ليست القوالب معيارًا يُحكَم به على الثراء النغمي لأسلوب قارئ ما، وإن كانت القوالب بلا شك علامة إبداعية مميزة.
فالشيخ مصطفى إسماعيل كان في الحفلة واسع التجوال بين المقامات الفرعية كثير المفاجأة بما لا يتوقعه سامعه، وهو مع ذلك يقرأ في إطار القوالب، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد كان صاحب صنعة وإن خلت تلاوته من بعض المقامات الأساسية ، كالنهاوند التام الذي لم نسمعه منه إلا في تسجيل ستوديو من سورة طه، والسيكاه الذي لم يكن يقرأ به إلا في سورة الشمس، ورغم ذلك كان مبدعًا متينًا و(صنايعيًا) كبيرًا داخل نظام القوالب، والشيخ عبدالعظيم زاهر كان يقرأ بأسلوب أقرب إلى السجية المرسلة يكاد يكون خلوًا من الصنعة، وقراءته في قوالب.
لأن القوالب راسخة في سجية القارئ لا يحتاج وجودها إلى معرفته النغمية، أو صنعته المحكمة المقصودة، وإن كانت بالتأكيد تكثر وتثرَى بهما، بل إننا نجد القوالب في صورتها الأولية في ترتيل مقيم الشعائر الذي لا حظ له من العلم بالنغم، ولا نصيب له من موهبة الأداء الحسن إلا حدَّها الأدنى.

القوالب والتكوين المقامي

تتكون القوالب غالبًا من المقامات الأساسية، فهي المادة الأساسية لإبداع القارئ أولًا، وهي ما يستقر في السجية أولًا ويكثر ترداده فيها، أما المقامات الفرعية والمُرَكَّبة فتذهب إليها الصنعة بعد أن تستقر قوالب الشيخ الأساسية في طريقته، وإن كان هناك عدد غير قليل من المقامات المركبة فرض نفسه في قوالب معظم القراء الكبار، وراج فيها حتى بات أساسيًا في أذهان السميعة، كالحسيني والشوري من البياتي، والهزام والعراق من السيكاه، والنيروز والسوزناك من الرست، والعشاق من النهاوند.
وكان لا بد أن تفرض هذه المقامات الفرعية نفسها على قوالب القراء الكبار، لما لها من ثقل في الطرب العربي، ولما بُني عليه الطرب العربي من الطلاقة والفصاحة وبلاغة التعبير عن المشاعر ودخائل النفوس، وليس فن التلاوة في كل الأقطار العربية – وفي مصر على وجه الخصوص – إلا وجهًا جميلًا جليلًا من وجوه النغم العربي الأصيل وطربه الشريف.

قراء خارج القوالب

أما القراء المنشدون أصحاب المعرفة النغمية الواسعة، كالشيخ علي محمود، والشيخ طه الفشني، ومِن المتأخرين الشيخ محمد عمران، فكانوا يقرأون بلا قوالب، أو لنقل إن أردنا الدقة بأقل قدر من القوالب يمكن الأذن أن تقبض عليه.
وسبب ذلك معرفتهم الواسعة بالأنغام ومسالكها، مما يستعصي عليه أن تنحصر سجيتهم في قوالب محدودة وإن كثرت، بل إن سجيتهم صارت في السباحة بين بحور النغم، من أجل ذلك كانوا أسرع انتقالًا بين المقامات، وأبعد عن التوقع، بل عن محاولة التوقع، وكان تقليدهم مجازفة غير محسوبة لا يخاطر بها قارئ ناشئ، لأنه لن يستطيع الإمساك بشيء واضح يقلده، إلا قليلًا.
لهذا أيضًا كان تذوُّقهم مشكلة عند السميع الذي اعتاد تذوّقَ القوالب، وتوقُّعَها، واستحسانها، وتقليدها، فهو يخطئ بالتأكيد إذا حاكم هذا النمط من الأداء إلى نمط القوالب المعتاد.

قلة القوالب

فتسمع من يقول إنه يتذوق الشيخ الفشني منشدًا لا قارئًا، وليس هذا لسبب إلا لأنه لا يستطيع الإمساك بأسلوب الشيخ الفشني، فالأداء عنده سياحة نغمية غير مقيدة، لكنها محسوبة، والسميع النمطي ينتظر أشياء نمطية، طلعة، وجملة، وقفلة، بينما الشيخ يفاجئه بالنقلة تلوَ النقلة، حتى بلغ من سُرعة نقلاته بين المقامات أن غيّر المقام خمس مرات في دقيقة واحدة، في تلاوة الاستوديو الشهيرة من سورة يس، وأرتاح إلى اتخاذ الشيخ الفشني نموذجًا أساسًا لهذا الأسلوب النادر في التلاوة، لأن تلاوات الشيخ علي محمود الست التي لم نجد لها سابعة لا تكفينا للإحاطة بأسلوبه قارئًا، وإن كانت ترجمانًا بليغًا عن عبقريته التي لا تتكرر، ولأن القراء المنشدين العارفين بالنغم من المتأخرين، لم تخلُ أساليبهم من الاستعراض المتعمد للأنغام الذي يدركه السامع بوضوح، وليس الثراء النغمي الذي أدى إلى قلة القوالب في هذا النمط مُرجحًا لتفضيله على نمط التلاوة في القوالب، بل إن أكثر القراء الكبار والسميعة الكبار تكيّفوا على طريقة القوالب حتى صارت شكل التلاوة الأشهر، ومقياس الأداء الأظهر، وعلامة على صنعة التلاوة، لا صنعة النغم.
لكن تبقى القراءة خارج القوالب نمطًا نادرًا يحتاج إلى قارئ خاص، وسمّيع خاص.

بقلم: مصطفى رجب مصطفى أحمد

أضف تعليقك هنا