قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (4) القضاء

القضاء

أن القضاء في الفترة التي يتكلم عنها البديري كان بيد قضاة يتم تعيينهم من قبل الدولة، وهم يحكمون بين الناس في الخصومات التي تقع بينهم، ولكن غالباً ما يتولى حاكم دمشق فصل الخصومات بنفسه وإصدار الأحكام التي تتراوح ما بين الإعدام والحبس والتغريم، والجرائم الواقعة هي التي تقع في أي مجتمع، ولكن الأحكام القضائية لم تطال سوى الناس البسطاء بينما المتنفذين من التجار والعسكر وغيرهم فإن مساءلتهم كانت بيد الوالي بناءً على أوامر من الباب العالي.

أولاً – القضاة

يذكر البديري عدة قضاة توالوا على شغل منصب قاضي دمشق، ويصفهم بشكل عام بأنهم عقلاء، وغالباً لا يرضى الشعب عنهم، فالوالي كثيراً ما يحيل غضب العامة إلى المحكمة والقضاة، فتهجم عليهم العامة ويتعرضون للأذى، وهذا حال القضاء أيام الدولة العثمانية، فالقاضي كان في تلك الفترة لا يتمتع بالحصانة، وكثيراً ما يتدخل الوالي والعسكر في شؤون القضاء.

القضاة الذين يذكرهم البديري في مدونته هم:

ـــ القاضي عبد الوهاب أفندي الملقب بأبي زادة كان في عام 1155ه – 1742م.

ـــ القاضي محمد أفندي زادة كان في عام 1157ه -1744م، ويصفه بأنه رجل عاقل إلا أنه بفتقر للسياسة والتدبير.

ـــ ثم يذكر البديري فتنة العامة ضد أحد القضاة والتي حدثت عام 1158ه – 1745م، ولا يذكر اسم القاضي فيها، والأغلب أنه القاضي محمد أفندي زاده، وهذه الفتنة سببها أن العامة قامت من قلة الخبز وغلاء الأسعار وهجموا على السرايا، وقالوا لأسعد باشا الوالي آنذاك: ((أنت حاكم الشام ومسؤول عند الله عنا وعن هذه الأحوال))، فقال لهم ((اذهبوا للمحكمة واشكوا حالكم للقاضي))، فجاءوا إلى المحكمة رافعين شكايتهم بالصراخ والاستغاثة، فخرج إليهم رجال القاضي بالعصي وطردوهم فهجمت العامة ورجموهم بالحجارة، فأمر القاضي بضربهم بالبارود فضربوهم وقتلوا رجلاً شريفاً وجرحوا عدة رجال، فجددت العامة الغارة على المحكمة وساعدهم بعض الانكشارية وقتلوا باش جوقدار المحكمة وبعض أعوانه (وهو المسؤول عن حراسة المحكمة) فنهب العامة المحكمة وحرقوا بابها وسكرت البلد (أغلقت ابوابها)، وهرب القاضي من فوق الأسطحة مع نائبه وجماعته، فأخذه بعض الأكابر وصار يأخذ بخاطره، ثم جمع مال القاضي ومتاعه وردوه إليه، وما كان ناقصاً فرضوه على خزينة الوجاق (العسكر) وعلى بعض الأكابر والأعيان فأرضوه بذلك وردوه للمحكمة.

ـــ ويذكر في العام 1162ه – 1749م تعيين قاض جديد في الشام هو محمد أفندي بشمقجي زادة، وبعد أن أقام قاضياً عدة أشهر خرج إلى الصالحية مع حريمه، ثم رجع منها مع حريمه وقت العصر أيضاً وهو شاهر السلاح بيده (طبنجة)، وفي إحدى رجليه بابوج والثانية حافية بلا بابوج، ولم يزل على هذه الحالة حتى وصل إلى المحكمة، ثم تبين أنه سكراناً.
ويقول البديري أنه تحقق من خبر نزول القاضي بهذه الكيفية، فتبين الأمر بخلاف ما ذكرنا من كونه سكراناً، وإنما هو من حدة مزاج وقع منه، حيث كانت له سرية مغرماً بها بشدة حتى طلق زوجته لأجلها، والقصة كما يرويها البديري أن جاريته التي يحبها قدمت لضيوف القاضي طعاماً مكون من الدجاج مما صنعته للقاضي، فرفضت زوجة القاضي القديمة ذلك وكانت بخيلة، فشكت الجارية ذلك للقاضي وبكت فغضب غضباً شديداً لأنه كان يحبها، فطلق زوجته ونزل إلى المحكمة على الحالة المذكورة سابقاً، فأظهر أعداؤه أنه سكر والأمر بخلافه، ثم شكته زوجته المطلقة إلى الدولة العلية، ولم تزل وراءه حتى جاء فرمان بعزله ونفيه إلى جزيرة قبرص وضبط أمواله وتسليمها لزوجته، ثم تأسف عليه غالب الناس فقد كان مستقيماً قنوعاً متواضعاً وسخياً ولا يأكل الرشوة فمالت عليه أهل الشام مع زوجته حتى تم عزله حيث يقول البديري: ((ولما كان لا يأكل الرشوة ولا يميل في دعوى مالت أهل الشام عليه مع زوجته كما هي عادتهم قديماً)).

  • ثم في عام 1172ه يذكر مجيء قاضي إلى دمشق واسمه رضا افندي ويقول إنه لم يحرك ساكناً.

ثانياً – الجرائم والعقوبات

جرائم بعاقب عليها الوالي

يذكر لنا البديري الكثير من الجرائم التي عاقب بها الوالي المجرمين دون الرجوع للقضاء، وهذا كان منتشراً أيام الدولة العثمانية، ومن ذلك قتل أسعد باشا العظم للسيد صالح بن ابراهيم بيك السوقية، وكان السبب أن أباه اشتكى للباشا أن ولده صالح تكلم معه بكلام فاحش وأراد أن يقوّسه، فأرسل الباشا بإحضار ولده مهاناً وعند المساء أمر بخنقه ورمي.

ويذكر البديري كذلك قصة مقتل رجل درزي لشريكه التركماني، وقد كانا متشاركين على خمسمئة رأس من الغنم، فأمر الباشا بالقبض على الرجل الدرزي وقتله واستلاب الغنم وإرسالها للشام، فأمر الباشا ببيعها طرحاً على لحامة الشام، كل رأس بثمانية غروش، ولم يعطِ أهل القتيل التركماني شيئاً ، وهنا يقول البديري ((ولله الأمر))، فمن كان يشتكي لرفع الظلم عن نفسه يؤدي خدمة للحاكم في نهب أموال الخصم وأمواله نفسه، ولربما الرجل الدرزي لم يقتل التركماني ولكن هذه الفرصة لا يفوتها الحاكم في سلب الأموال، والظاهر أن الحاكم العثماني كان يستغل الناحية الطائفية إذا كان المتنازعان من طائفتين مختلفتين ويستغل الناحية العرقية إذا كانوا من عرقين مختلفين،

ومن الجرائم التي لا يرحم فيها الوالي جرائم سك النقود المزورة، وهذه تشكل أخطر جريمة لتأثيرها على تحصيل الوالي من الضرائب، وقد كان يعاقب بشدة على تلك الجرائم، ومن ذلك تجريصه (إهانة وإذلال) لثلاثة أشخاص حيث تسخم وجوههم بالهباب (الشحوار) ويركبون الحمير بالمقلوب ويدورون فيهم بالبلد.

جرائم ضد مجهول

ويذكر لنا البديري في مدونته الكثير من الجرائم التي قيدت ضد مجهول، وذلك يعود لعدم تمكن الأجهزة الأمنية من ضبط مرتكبي تلك الجرائم إما بسبب سطوة المجرم الذي قد يكون من الانكشارية أو القبيقول أو لأن الضحية شخص فقير وضعيف فلا يطالب أحد بدمه، والحاكم يركز على ملاحقة الجرائم التي تعود عليه بالنفع المادي فإذا وجد في الجريمة فائدة مادية سعى للاقتصاص من الجاني حتى ولو اتهم شخصاً آخر غير الجاني الحقيقي، ولم يكن هناك قضاء مختص بالتحقيق ثم الإحالة للمحكمة.

ومن تلك القصص يذكر لنا البديري عدة جرائم وقعت في سنة واحدة وهي عام 1161ه، هذه الجرائم لم يعرف مرتكبيها وضاع فيها دم المقتولين هدراً، ومنها مقتل رجل على فراشه في قرية زبدين، ومقتل رجل شريف في داره في حارة باب السلام، ومقتل رجل نصراني في الشاغور، ومنها أيضاً مقتل رجل مشنوقاً في قصر السرايا وبقي معلقاً للعصر ولم يعلم قاتله وذهب دمه هدراً، فكيف برجل يُشنق أمام السرايا ولا يعرف قاتله.

جرائم ضد الطفولة

ومن الجرائم التي تقع بحق الأطفال مقتل طفلة عمرها أربع سنوات على يد أبيها، حيث كانت أمها مطلقة فدست عليها زوجة أبيها فضربها ضرباً مبرحاً ثم ربطها بشجرة في فناء الدار وتركها طوال الليل وكانت ليلة باردة فماتت، فأحضر أسعد باشا والدها وصادر الكثير من أمواله لقاء تركه بدون عقاب، فانظروا كيف كان الوالي ومن يلف لفيفه يستفيدون من أي أمر يقع في الشام.

مجرم خطير

ويذكر بنا البديري بعض المجرمين المتمرسين الذين لم تقدر الدولة عليهم وعلى رأسهم رجل شقي من الصالحية يسمى بالفستقي، وقد كان داهية دهماء ومصيبة عظماء كما يقول البديري، وكان لصاً مشهوراً ومن حيله وشطارته أنه متى ما وضع يده على الحائط يصير بأعلاه حيث يتسلقه بأظافره وظهره للحائط، ولكثرة تعدياته على أهل الصالحية دسوا عليه رجلاً فاغتاله.

جرائم الشرف

ويذكر البديري بعض جرائم الشرف وأن الوالي لم يكن متشدداً في العقاب على تلك الجرائم وخاصةً إذا قام الرجل الزاني مع الزوجة الخائنة بقتل الزوج، وكل ذلك لنشر الرذيلة والفساد في المجتمع الدمشقي الذي كان رافضاً لكل الفسق والفجور الذي عمل الولاة على فرضه، ومن تلك القصص قصة رجل يعمل فرًان فلما ذهب للعمل ليلاً عاد لمنزله فوجد بعض الرجال عند زوجته، فلما رأت منه الشر صاحت بهم فقام أحد الرجال فضربه بطبنجة في صدرة فقتله، فلما وصل الخبر للوالي أسعد أمر بحبسها للتحقيق ثم ذهب دمه هدراً.

الانتحار

انتشرت في فترة تدوين البديري لمدونته حوادث الانتحار، وكان السبب في أغلبها إما غلاء الأسعار وضيق العيش أو الشعور بالظلم والقهر، أو الفساد الكبير في المجتمع، حيث يذكر البديري أن رجلاً ألقى بنفسه من أعلى منارة جامع الدقاق فهلك سريعاً واسمه الشيخ حسن بن يوسف الرفاعي، وسبب انتحاره أن أخا زوجته أتى بامرأة الى بيته وكانت من بنات الخطا، فنهاه عن ذلك فلم يرتدع بل ضربه أيضاً، فأخبر أكابر الحارة فلم يلتفتوا إليه لأنهم فوق ذلك بالانغماس كما يقول البديري، فذهب إلى جامع الدقاق وصلى الصبح مع الإمام وصلى على نفسه صلاة الموت وصعد المنارة ونادى: يا أمة الإسلام الموت أهون ولا التعريص (ارتكاب الزنا) مع دولة هذه الأيام، ثم ألقى بنفسه إلى الأرض.

ويذكر أن رجلاً يقال له المجري وضع طبنجة في بطنه وقتل نفسه، والسبب أنه كان مديوناً فقتل نفسه لشدة كربه وقهره، ثم يقول فلما فتشوا داره وجدوا عنده خمسة أكياس قمح مخزونة فما سمحت نفسه ببيعها لوفاء ديونه فخسر الدنيا والآخرة.

فيديو مقال قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (4) القضاء

أضف تعليقك هنا