أحمد زياد يكتب: استجابة اللاشيء

تقرير عن معاناة رجل عجوز..

قصة “العم بربور”

كعادتي كنت أستيقظ مبكرًا كل يوم كي أستقل «الميكروباص» الذي يقلني إلى الجامعة، أثناء فترة دراستي؛ وذات صباح شديد البرودة عام ٢٠١٧، صادفني رجل مُسن، ربما تجاوز الثمانين من عمره، خط العمر على وجهه خرائط، اتخذ من الرصيف مأوى له، وافترش الأرض في قرية «الكشح» بمركز دار السلام، جنوب محافظة سوهاج، يبيع أعواد القصب للمارة، اقتربت منه لاكتشف قصة هذا الرجل.. يدعى محمد محمدين محمود بحلق، وشهرته «العم بربور»، لا يملك بطاقة شخصية، ولا أي أوراق تثبت هويته، وعندما سألته عن عمره قال: «أعيش هنا منذ سنين، ولا أعلم كم أبلغ من العمر».

بالنسبة لطالب كان يدرس الإعلام وقتها ويعمل متدربًا في صحيفة «الدستور» بجانب الدراسة، كان ذلك كافيًا لصناعة قصة صحفية مكتملة الأركان، فالرجل بحاجة إلى المساعدة وأنا أيضًا يدفعني الشغف وابحث عن أي حدث يصلح أن يكون موضوعًا طازجًا يزاحم عناوين الأخبار، من هنا اتخذت القرار، وشرعت في إجراء مقابلة مع العجوز في الحال.. ازدادت القصة تشويقًا حينما علمت من العجوز أنه أعزب، وليس لديه أخوة ولا أبناء إلا شقيقة أرملة بلغت من العمر أرزله، ولا يجد مكانًا يأويه غير ذلك الرصيف.

اهتمام محافظ سوهاج بقضية العم بربور

جهزت التقرير بعدما التقطت بعض الصور للعجوز وعنونته بـ«عجوز لـ محافظ سوهاج: عايز سقف ومعاش يستروني» ثم سارعت بإرساله إلى الصحيفة التي نشرته حينها؛ بعد أيام هاتفني الزميل محمود عبد العال، مدير مكتب «الدستور» في سوهاج، يخبرني بأن التقرير نال إعجاب محافظ سوهاج الدكتور أيمن عبد المنعم وقتها، وأنه يرغب بمقابلة ذلك العجوز، أثناء زيارته إحدى القرى المجاورة لحضور جلسة صلح ثأري بين عائلتين، أبديت سعادتي وشكرت الزميل على اهتمامه، وقلت له أنها فرصة لتغطية الصلح، ثم أبلغت العجوز بأن المحافظ يريد مقابلته.

وعود محافظ سوهاج بتأمين سبل العيش للعم بربور

وبالفعل اصطحبت الرجل إلى حيث يتواجد المحافظ الذي اكتفى بإلقاء نظرة عليه عن بعد، وفي اليوم التالي كان قد صدر بيانًا صحفيًا عن الصفحة الرسمية للمحافظة، مفاده أن المحافظ كلف الوحدة المحلية للمركز الذي يعيش فيه العجوز، استخراج بطاقة شخصية له، كما كلف التضامن الاجتماعي بحث حالته ومنحه المعاش اللازم، والتنسيق مع إحدى الجمعيات الأهلية لصيانة السكن الخاص به، ذلك في إطار توفير المعيشة الكريمة للمواطنين..إلخ- مع أنه لا يملك سكنًا في الأساس.

نشرنا البيان مثلما فعلت معظم الصحف ولكننا اختصصنا به أنفسنا لأننا أصحاب الموضوع، ظننت أنّ الأمر قد انتهى وأنّ الجهات المعنية ستتولى المهمة، ولكن ما حدث في الواقع كان مخيبًا للآمال.. مرت أسابيع ولم يحصل العجوز على أي وعد من تلك الوعود، بدا لي بأنه قد يكون ثمة خطأ غير مقصود أدى إلى تعطيل الأمور.

اصطحبت العجوز إلى الوحدة المحلية التابع لها وأبلغتهم قصته وتكليف المحافظ.. علمت أنهم لديهم علم ولكن لا يوجد موظف متفرغ كي يطوف المصالح الحكومية مع العجوز لمساعدته على استخراج الأوراق المطلوبة.. حينها أيقنت أنني أمام خيارين اثنين: إما أن أكلف نفسي بهذه المهمة وإما أن أترك الموضوع برمته، اخترت الخيار الأول من دافع غايتي الحقيقة لمساعدة العجوز وإلا فإن الموضوع يعتبر لم يحقق نجاحًا بالنسبة لي.

تعاطف وكيل وزارة التضامن الاجتماعي مع قضية العم بربور 

استخرجنا الأوراق بعد عناء ومشقة، خاصة أنّ العجوز لا يستطع قطع أي مشوار بمفرده دون أن يصطحبه أحد، وبعدها ذهبت إلى مسؤول العلاقات العامة بديوان عام محافظة سوهاج وشرحت له الوضع، وجهني إلى وكيل وزارة التضامن الاجتماعي بعدما أجرى معه مكالمة هاتفية يوصيه بأن يعمل اللازم، قصدت الطريق حيث مكتب وكيل الوزارة الذي بدا متعاطفًا مع العجوز لدرجة أنه عرض عليّ أن يعطيه مبلغ شخصي كمساعدة منه، بعدما شرح لي صعوبة حصوله على «معاش» لأنّ القوانين المنظمة تفتقد المرونة في التعاطي مع مثل هذه الحالات.

وعود بانتظار التنفيذ..

اعتذرت له وشرحت له أنّ العجوز يطالب بحقه المشروع في عيش حياة كريمة كما يكفل له الدستور ذلك، تفهم الرجل ما كنت أقصده وأبلغني أنه مستعد لتجهيز سكن بسيط للعجوز في قريته لكن بعد الحصول على موافقة الوحدة المحلية التابع لها على موقع السكن، وكتب لي خطابًا موجهًا إلى الشؤون الاجتماعية بمركز دار السلام، للقيام بالاجراءات الخاصة بالمعاش، غادرت مكتبه متوجهًا إلى الوحدة المحلية، بدورها قالت أنها على استعداد لمنحه سكن جاهز بمساكن الخرجين لكن بعد الحصول على خطاب مباشر من المحافظة والتضامن الاجتماعي، ليبقى الأمر معلق بين الجهات الثلاث، ثم انتقلت إلى الشؤون الاجتماعية أعطيتهم الأوراق.

ومرت أشهر أخرى دون جديد؛ فتوجهنا إليهم للاستفسار، فوجئنا بأنهم قد أضاعوا الأوراق، الأمر الذي دفعنا إلى إعادة استخراجها وتقديمها من جديد ولكن ما النتيجة؟ لا شيء.. لا العجوز حصل على سكن ولا معاش!!.

انتهت سنة ٢٠١٧ ورحل محافظ سوهاج الدكتور أيمن عبد المنعم؛ ليأتي خلفًا له الدكتور أحمد الأنصاري، وانتهت سنة ٢٠١٨ وها نحن في عام ٢٠١٩ وما زال العجوز يعيش المأساة ذاتها مع حلول الشتاء، يذهب يوميًا إلى الشؤون الاجتماعية كي يستعلم عن نهاية للوهم الذي يعيش فيه؛ ليخبروه موظفيها أنه جار البحث.. ذلك البحث الذي ظل عامين ولم ينتهِ بعد!!.

فهل يستجيب الدكتور أحمد الأنصاري إلى ذلك العجوز؛ لينتشله من الأوهام ويخبره أنه ما زال هناك أمل؟

فيديو مقال أحمد زياد يكتب: استجابة اللاشيء

أضف تعليقك هنا