تعليم العقل

تعليم العقل

“لقد بقيت ثلاثين سنة أفتي بالفقه من كتاب سيبويه”.

هذه الجملة قالها الجرمي (ت 225 هـ): -والكتاب الذي يقصده الجرمي هو كتاب “الكتاب” الذي توفي صاحبه ولم يسمه، ولأنه أول كتاب منهجي ينسق ويدون قواعد اللغة العربية، فقد انتشر وأُشتهر، فسماه بعضهم ” الكتاب ” وبعضهم سماه ” كتاب سيبويه[1] في النحو-.

فاحتار الناس كيف يفتي في الفقه من كتاب نحوي؟

فذهبوا إلى عالم جليل آخر وهو المبرد (ت 286) وكان فقيها عالما بالنحو واللغة[2] فلما سألوه عن جملة الجرمي؟

قال: نعم سمعته أذناي، إنما أراد أن كتاب سيبويه يعلم العقل، فنقل علم العقل من كتاب سيبويه إلى علم الفقه فأفتى من كتاب سيبويه[3].

ولعل هذا الموقف وتلك الإجابة تفتح الباب على قضية مهمة جدا، وهي طريقة القراءة، أو

كيف يتعامل عقلك مع القراءة؟

وبالنظر إلى واقع القراءة مع العقل لدى الإنسان يلمح أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

  1. المرور: وهو مَن يقرأ ولا يقف عند كل الجمل والعبارات، فالمهم عنده كم قرأت؟، ومنهجه “إن لم تفهم هذا فتجاوزه إلى ما تفهمه”، فلا داعي للتعب والاجهاد.
  2. الاستيعاب: وهو مَن يجتهد في فهم الكتاب، وإعمال العقل في حل ألغازه وعباراته، فالمهم عنده “كم فهمت”.
  3. التعمق: وهو المرحلة الأعلى والأصعب، وهي محاولة الوصول إلى كيفية تفكير الكاتب والدخول إلى عقله وسبر أغواره، مع السعي الحثيث في توظيف تلك العقلية والقواعد في الحياة عامة والإضافة عليها بما يتناسب مع عصره وزمانه، فالمهم عنده: كيف أستثمر عقل الكاتب.

والمتأمل في منهج سلفنا وأئمتنا وعلمائنا وجهابذتنا يلمح أنهم من الصنف الثالث غالباً، ولذلك برعوا وأبدعوا وتركوا للبشرية تراثاً ضخماً لا تزال تستظل به، ولعل القصة التي ذكرتها أحد الأدلة على ذلك.

وأكاد أجزم لو أن تعليمنا كانت يرتكز على تدريس أدوات التعمق وإكساب المتعلمين مهاراته وإتقانها في مختلف العلوم – ومنها العلوم الشرعية والعربية -فقط، لكان ذلك كافياً لإخراج جيلاً لا أقول يبني بلداً، بل يبني العالم أجمع.

فمن أي صنف أنت؟

1439هـ -2018 م

[1] سيبويه (ت 180هـ):

إمام النحو، حجة العرب، أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر، الفارسي، ثم البصري، “وإنما سمي سيبويه لان أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه رائحة التفاح” البادية والنهاية لابن كثير، وقال الذهبي في سيره: سمي سيبويه، لأن وجنتيه كانتا كالتفاحتين، بديع الحسن

[2] قال عنه الذهبي في سيره:

” “. وكان إماما، علامة، جميلا، وسيما، فصيحا، مفوها، موثقا يقال: إن المازني أعجبه جوابه، فقال له: قم فأنت المبرد، أي: المثبت للحق، ثم غلب عليه: بفتح الراء ”

[3] ذكر هذه القصة:

أ.د محمد محمد أبو موسى أثناء شرحه لكتاب “دلائل الاعجاز” لعبد القاهر الجرجاني

أضف تعليقك هنا