مؤخراً ارتفعت وتيرة الحديث عن جريمة التحرش بشكل ملحوظ، مما جعل البعض يتساءل: هل هي ظاهرة حديثة نوعاً، أم أنها موروث قديم ازدادت حدته مؤخراً حتى أصبح في عداد الأوبئة الاجتماعية التي ضربت مجتمعاتنا حديثاً، وفي تزامن مدهش مع استسلام جماعي للحداثة وأدواتها الرهيبة!
لن أجنح هنا لنظرية المؤامرة التي اعتاد البعض اللجوء إليها للاحتماء بها بدلاً من إعلان المسؤولية عن الظاهرة والاعتراف بها بغية الوصول إلى أفضل حلول ممكنة لتحجيم آثارها.
وهنا يجب أن نبدأ بتحديد المعنى اللفظي للتحرش حتى تكون البداية صحيحة بعيداً عن أي اجتهادات شخصية أو تصنيفات فئوية.
معنى كلمة التحرش، وبعض أشكاله
كلمة التحرش في معناها القاموسي تعني القيام بإكراه شخص لآخر على فعل ما، أو استغلال جسدي غير مقبول أو انتزاع وعد لتقديم خدمات أو تنازلات جسدية أو جنسية نظير مقابل مادي أو بدون، أما التحرش كفعل فهو يعني الإتيان بلفظ أو حراك ذو طابع جنسي يكون من شأنه انتهاك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما، وجعله يشعر بعدم الارتياح أو التهديد أو الخوف، أو عدم الاحترام أو الترويع أو الإهانة، أو الإساءة أو الترهيب أو الانتهاك.
ومن أشكاله النظر المتفحص، التعبيرات الوجهية، النداءات والتعليقات، الملاحقة والتتبع، الدعوة لممارسة الجنس، الاهتمام غير المرغوب، الصور الإباحية، التحرش عبر الهاتف والإنترنت، اللمس، التعري، التهديد والترهيب، الاعتداء الجسدي بكل صوره.
التحرش في نظر القانون
هذا ووجب التأكيد على أن مفهوم التحرش غير مرتبط بمجتمع أو ثقافة أو زمن أو ظروف قدر ارتباطه بتغول أو تنمر سلطوي من شخص على أخر أو جماعة على أخرى، وهو جريمة يعاقب عليها القانون، وأمره لا يترك للعوام لتحديد قدر تأثيره على الضحية من عدمه!
لكن يبدو أن التعريف الاصطلاحي والقانوني بهذا العمل الإجرامي وتوضيح خطورته لم يكن رادعاً لحدوثه وانتشاره بالقدر الكافي، بل إن في بعض المجتمعات ظهرت طوائف شاذة تروج للأمر وكأنه طبيعة بشرية لا يمكن تفاديها، وهنا تكمن الخطورة التي وصلت في بعض الأحيان إلى توجيه اللوم للضحية وعقابها، وأدى هذا في بعض المجتمعات المنغلقة إلى ظهور سلوك قمعي للأطفال وخصوصاً الفتيات في سن مبكرة وصل إلى حد تشويه الفكر والشخصية والجسد.
منذ متى بدأت الدول بالاهتمام بوضع قوانين لتجريم التحرش؟
المدهش أن اهتمام أغلب الدول بوضع قوانين لتجريم التحرش جاء في العقود الخمس الأخيرة فقط على أقصى تقدير، أي أنه لم يكن هناك اهتمام مجتمعي في السابق لتجريم التحرش، أو حتى مجرد وضع ضوابط قانونية للتعامل معه كجناية!
دور وسائل التواصل في التعامل مع جريمة التحرش
فهل كان للثورة المعلوماتية دورٌ في تشجيع الأفراد على فضح هذا الجرم وملاحقة مرتكبيه، بل وتشجيع الضحايا على المجاهرة به وعدم الخوف من تبعاته بعد أن كانت طريقة التعامل المعتادة معه هي المداراة والتهرب، بل والخضوع المهين للانتهاك النفسي؟
الجانب الإيجابي
أعتقد أن هذا هو ما حدث بالفعل، حيث أن سرعة انتشار الخبر وتعدد الوسائل المتاحة للتواصل وسهولة استخدامها وصعوبة السيطرة على مجال تأثيرها قد أوجد نوع من الشجاعة غير المسبوقة لدى الضحايا للقصاص حتى ولو على المستوى المعنوي فقط من القهر النفسي المرتبط بجريمة التحرش.
الجانب السلبي
لكن على الجانب الآخر من الصورة، نجد أن تلك الثورة المعلوماتية المذهلة كما أوجدت حلولاً، فهي قد أوجدت أيضاً قنوات جديدة لممارسة التحرش عن طريق الوسائط الإلكترونية المتعددة، والتي ربما يصعب حصرها هنا لضيق المساحة.
على من تقع مسؤولية استخدام وسائل التواصل في الجانب السلبي؟
وهنا أحسب أن المسؤولية بالكامل على الأسرة والمجتمع المدني بمؤسساته في مسألة حتمية الاهتمام بتربية أجيال تقدس الحرية وتعي معناها بوضوح، وعلى دراية كافية بخطورة إساءة استخدام تلك الوسائط والأدوات وأبعادها القانونية. الأمر هنا لن يحتاج للشعارات الرنانة التي مازالت تزين أسوار المدارس ودور العلم دون أي جدوى فعلية، أو وصلات الوعظ الديني لرجال دين يحللون في المساء ما يحرمونه نهاراً على شاشات وصفحات وسائل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، بل يحتاج فقط لعقول حرة متفتحة وكيانات متزنة.
نظرة في ظاهرة التحرش
نظرتي الشخصية للتحرش قد تكون مجال للاختلاف، فأنا أرى أنه جرم اجتماعي ذو موروث تاريخي مغرق في القِدم يقع في مساحة شائكة بين الغريزة والغواية، ويشكل مسؤولية تضامنيه بين طرفي فعل ورد فعل.
فالتحرش كفعل لا يقتصر على جنس محدد تجاه الأخر، بل أنه قد يحدث من طرف لآخر وبنفس القدر من الخطورة والتأثير، لكن جرى العرف أن يكون صاحب السلطة هو الأكثر ممارسة لهذا الفعل على أي ممن يقعون تحت سلطته.
والإنسان بحكم الغريزة يحمل داخله نزعات عاطفية ونفسية وجسدية تجاه الطرف الأخر من المعادلة، الأنثى للذكر، والعكس. وهناك مشاعر وأحاسيس وقيم تتحكم في تلك النزعات وتنظم مسارها قبل أن يتم قولبتها بالكامل حسب طبائع كل مجتمع.
علاج ظاهرة التحرش
لذا فبداية العلاج يجب أن تكون مبنية على كيفية تهذيب المسارات النفسية للغرائز حتى يكون الشخص سوي في اختياراته ومسؤول عن تصرفاته تبعاً للمرحلة العمرية التي ينتمي لها، بالطبع مع مراعاة أن ما يصلح في مجتمع ما، قد لا يتناسب مع الآخر.
وفي مقابل تهذيب تلك المسارات، يجب أيضاً وضع ضوابط إنسانية لمسألة الغواية لدى طرفي المعادلة، فلا يجب مثلاً تقديم الجوانب المادية على الأخلاقية في معايير الاختيار، خصوصاً لدى حديثي السن من أبناء المجتمعات الفقيرة. فالأمر بجانب أهمية إطلاق العنان لحرية الاختيار، يحتاج أيضاً إلى نوع من التوازن والعدالة الاجتماعية حتى تتحقق لدى الطرفين قناعة الاختيار السليم بعيداً عن أي مؤثرات مادية أو معنوية قد تصل لحد القهر.
أشهر واقعة تحرش رصدها التاريخ
البعض يتناسى أن أشهر واقعة تحرش رصدها التاريخ اقترفتها امرأة العزيز في حق النبي يوسف عليه السلام، وكان فقيراً مستعبداً، وهي كانت ذات سلطة وجبروت حينها.
وهكذا سرعان ما يتحول التحرش إلى صداع مزمن في تاريخ الإنسانية، ولدينا من الحالات آلاف الأنماط التي تصلح لإعداد مجلدات عن مسلسل الانحراف المجتمعي والمعايير المغلوطة على مر العصور، والوسائل البدائية والقبلية التي خلطت بين الحق والباطل بشكل مريض لم ينجح حتى الأن في تقديم علاج نهائي لتلك الظاهرة.