نحن -في اليمن- نعيش حربًا اجتماعية خالصة، حربًا لا تخضع لمبدأ الأشعار الرسمي، ولا تعلو فيها ضوضاء القنابل والصواريخ وأصوات الرصاص فحسب، بل حربٌ تحكمها مصالح متعارضة، استهدفت النسيج الاجتماعي وقيمه، وزعزعة استقراره، وأدت إلى تغييرٍ عميقٍ في بيئتة الاجتماعية، وخلق عجزًا مجتمعيًّا شاملًا، وذلك من خلال التأثير الذي يحدثه تجار هذه الحرب، عن طريق زعزعة ثقة المواطن بالدولة وبنفسه، لِيعيش بعد ذلك حالة من فقدان التوازن الاجتماعي وضعف دور الأسرة والمدرسة، مُحِدثًا ظواهر إجرامية وانحرافية مستحدثة في ظل غياب المعايير المعتادة التي كانت تنظم هذا المجتمع.
تأثير الحرب على المجتمع اليمني
إذ أن التغيير الذي حدث وما زال يحدث في تركيبة البنية الاجتماعية منذ أن نشبت هذه الحرب المسعورة هو بداية هذه التحولات المأساوية التي هدمَّت أهم أسس ودعائم هذا المجتمع، وذلك بإسلوب الإزاحة التعسفي لشرائح اجتماعية كانت قبل الحرب تحتل مراكز اجتماعية مهمة في سلم الهرم الاجتماعي، التي هي على سبيل المثال لا الحصر: علماء الدين والقضاه وآساتذة الجامعات والمعلمين والمحامين وسياسين، لحتل مكان تلك الفئات طبقة جديدة من تجار الفرص وأثرياء الحرب، ممن يجمعون ثرواتهم على حساب غيرهم، معتمدين على أساليب التعسف والقمع الممنهج والاحتكار والتلاعب بالأسعار، وغير ذلك من الأساليب الشاذة التي غالبا ما تُمارس أثناء الحروب.
الفساد في المجتمع اليمني هل له علاقة بالحرب؟
وعندما أصبحت هذه الازاحة القمعية محلًا للتدرج والانتقال لأفراد المجتمع صعودًا ونزولًا، ظهرت مظاهر الفساد بأشكالها المختلفة: الرشوة والوساطة والتزوير والسعي وراء الثروة بأقصر الطرق الذي هو السبب في تفاقم معايير الحرام والتجاوز على المال العام، وبذلك اختلت الجوانب الروحية الوطنية وانعدمت الأمانة، ما خلق حالة من الاضطراب الأمني والاجتماعي والنفسي للمواطن، وتحولت -إِثر ذلك- بعض المظاهر الإيجابية إلى أخرى سلبية؛ فحلت المادية والتعصب بدلا من التكافل والتآزر، والدونية وضعف الحياء بدلا من الاعتزاز بالنفس، وبذلك اختل الهرم الاجتماعي الذي يمثل الدعامة الأساسية لكل مجتمع.
هل زاد انتشار الجريمة في المجتمع اليمني بعد الحرب؟
ونتج عن كل ما سبق “الجريمة”، التي كانت قبل الحرب تأخذ طابعًا محدودًا لا تتعدى سرقة المحال التجارية والسيارات وبروز بعض عصابات السطو المسلح أو السلب على طرقات السير، وأصبحت جريمة اليوم تديرها شبكات محترفة وعلى مستوى عالٍ من التخطيط والتنفيذ وهي تمارس أفعالها الإجرامية بشكلٍ روتينيّ اعتياديّ، نالت الكثير من السياسيين والعلماء وأساتذة الجامعات ورجال الدين ومواطنين أبرياء؛ لأسباب مختلفة إما أن تكون سياسية أو عرقية. وغالبًا ما يكون الحصول على المال أيًّا كان مصدره هو أساس هذه الجرائم، مهما كلف الجاني من ارتكاب الأفعال الإجرامية، التي أدت إلى انعدام الأمن وتفكك المجتمع وصارت منهاج للفوضى، وأداة بشعة لِضياع الأموال والممتلكات.
نسبة البطالة والفقر في اليمن وعلاقتها بالحرب
ولم تكتفِ هذه الحرب اللعينة عند هذا المستوى، بل فاقمت نسبة البطالة والفقر بشكل غير مسبوقين، إذا أن هناك آلاف الشباب ولاسيما خريجو الجامعات وغيرهم دون فرص عمل؛ بسبب ركود سوق العمل نتيجة للدمار والتخريب والأعطال الذي أصاب المرافق الحكومية والخاصة في ظل هذه الحرب، والتوجه الكثيف إلى القطاع الخاص -بعد توقف الرواتب في القطاع العام- ولو بأسعار زهيدة. وعلاوة على ذلك، اتساع نطاق ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس والتوجه إلى العمل المبكر بسبب الوضع المعيشي المتدني الذي تعيشها الكثير من الأسر في ظل الوضع القائم.
ولا يستبعد من أن عماله الأطفال مبكرًا وكذلك وجود الكثير من الشباب دون عمل يماشون بها أوضاعهم البائسة في ظل حرب منسية لهما انعكاسات سلبية على الأسرة والمجتمع، وأن يكونوا فريسة سهلة للعصابات الإجرامية الخطيرة بإغرائهم بالمال وتوريطهم في أعمال إجرامية خطيرة. ولا تختلف عن تلك الظاهرتين أيضا ظاهرة التسول، التي هي واحدة من أهم الآثار السلبية على المجتمع نتيجة الحرب، دفعت فيها الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها اليمنييون، فئات عمرية مختلفة، للامتهان والتسكع ليجدوا ما يسد رمق جوعهم.
النزوح في اليمن وعلاقته بالحرب
بالإضافة إلى ذلك، أجبرت هذه الحرب آلاف العائلات على النزوح إلى أماكن أخرى، إما إلى خارج منازلهم أو إلى خارج الوطن بحثًا عن الأمان، وحتى وصل الحال بالكثير ممن فقدوا الأمل بحثا عن الامأن اللجوء إلى دولة الصومال عبر رحلات بحرية محفوفة بالمخاطر.
فالتشتت الذي يحدث في بُنية العائلة الواحدة، والقلق الاجتماعي الذي يطغى على الأسرة، كبارا كانوا أم صغارا، لأسباب مختلفة تختلف من أسرة إلى أخرى، إما لسفر أكثر أفرادها بحثاً عن سبل العيش وهروبا من الحرب، أو لسبب الاختلاف الذي قد يحدث في وجهات النظر بين أفراد العائلة الواحدة، أو لسبب الاعتقالات المتكررة و الفقدان المستمر لأحد أفراد الأسرة أو أكثر، ليس إلا نتائج هذه الحرب المجتمعية التي أضحت مشكلة كارثية تقضي على الفرد والأسرة والمجتمع على حد سواء، دون أن يكون هناك ردود أفعال للحد من هذه النتائج الهدامة لكل ما يحصل لهذا المجتمع في ظل هذه الحرب التي يقصدها موقديها بالتجارة الرابحة.
هل يمكن معالجة وإصلاح الآثار المادية المترتبة الحرب في اليمن؟
فقد يمكن معالجة وإصلاح الآثار المادية المترتبة للحرب على مجتمعنا هذا في المستقبل، ولكن ستظل الآثار الاجتماعية حالة مستعصية لا يمكن معالجتها بسهولة، وخصوصا في ظل استمرار هذا الوضع، بظواهره السلبية لفترة طويلة، والذي ستصبح فيه هذه الظواهر الشاذة البديل لشرائح واسعة من المجتمع، وعن ذلك، سينشأ جيل جديد يتكيف معها وتصبح بالنسبة له وضعًا طبيعيًا، واستمرار هذا الوضع المتصدع سيفرز حالة من التدهور في منظمومات القيم والمعايير الاجتماعية وسيستُفحل مظاهر الانحراف السلوكية والإجرامية في ظل ظروف يغيب فيها مفاهيم الحق والباطل والحلال والحرام، وخلل أصاب منظومة الضبط الاجتماعي التي تتمثل في الأسرة والمدرسة والجامع.