عجوز سبعينية ترتدي خماراً يغطي جزءاً عظيماً من جسدها النحيل الذي نالت منه سنوات الحياة, تلتزم بارتداء كمامتها الطبية كما ينبغي أو كما يوصى بها من لدن الجهات المختصة بذلك, حتى لم يفضل سوى أعلى أنفها و عينين شديدي الدقة أعياهما الزمن وزادتهم تجارب الحياة شيء من الحدة، تمشي في تثاقل كأنها تحمل أطنانا من الملح, تكاد لا ترفع رجلها حتى توشك على السقوط بحذائها الرياضي من النوع الذي يلبسه أصحاب العيون الضيقة من أهل شرق آسيا, رأسها مثبت في الأرض ورقبتها تميل من زاوية لأخرى في بطء شديد وكأنها تبحث عن شيء ضاع منها.
فرحة عجوز سبعينية بقطف النبتة النادرة
عندما تقابلت مع المقهى الذي أنا جالس فيه, انحنت في خفة غير متوقعة من أن تبدر من هذا الجسد الواهن, انطلقت في قطف أغصان و عروش خضراء دون أن تلتفت إلى العالم الذي حولها حتى امتلأت قبضة يدها اليسرى بما يقارب السبع عروش, استوت في وقفتها و راحت تحرك تلك الباقة بسرعة فيها نوع من المهارة قربتها من أنفها و أخذت نفسا عميقا, بعد هذه الحركة تيقنت من أنها نبات “المخينزة” ذو الرائحة القوية و المنعشة و التي تدغدغ خلايا دماغك عند استنشاقه, حيث يستعمل في الطب الشعبي المغربي لعلاج الحمى و ارتفاع درجة حرارة الجسم.
راحت الجدة منصرفة تهرول في مشيتها منتشيه بعد أن ظفرت بغنيمتها التي أصبحت من نوادر هذا الزمان بعدما كانت تعج بها الحدائق و المساحات الخضراء, بين الفينة و الأخرى تعاود شم باقتها برائحتها النفاذة عبر الكمامة التي لم تكن حائلا على ان تخترقها و تنعش أنها و تحرك جانبا عظيما من مشاعرها.
إدارة دواليب ذكريات العجوز بامتلاكها العشبة
نبتة حقيرة تنبث بشكل عشوائي على جنبات الحدائق و البساتين و أحيانا بين أجداث المقابر، لها مفعول استشفائي سحري يضاهي مفعول أقوى المضادات الحيوية, نبتة لها وقع حسي كان قادرا على إدارة دواليب ذكريات عجوز و تقليب دفاتر ذكرياتها, صندوق حاجياتها, رسائل الماضي ونفض الغبار عن مغامرات الأمس بحلاوتها و مرها و طرافتها، سارعت في مواراة باقتها تحت خمارها الأسود كما سارعت الخطى نحو سبيلها كمن لا يريد مصادفة أحد حتى لا تقاسمه غنيمتها النفيسة.
غادرت الجدة و توارت عن أنظاري ولم تغادرني رائحة “المخينزة”, ولم تبرح أنفي لدقائق, غازلها وطبطب عليها وسأل عن أحوالها بلهفة مثل عاشق التقى بحبيبه الأولي, شريط ذكريات تراءى أمامي هلع أمي و نظراتها لي وأنا مهدود تحث رحمة الحمى, يدها المطلية بالحناء تجس حرارة جبيني الملتهب, وتمدني بوصفات شتى هذا عصير برتقال مع اليقطين الأخضر و هذا عصير “المخينزة” وشاي بالخزامى, ساعة واحدة طريح فراش المرض كانت كفيلة بأن أبتلع مختبرا من الأعشاب والوصفات الشعبية من إعداد ست الحبايب, كأن المسكينة لا تطيق أن تراني على هذا الحال لثانية واحدة, يضايقها ملازمتي للفراش كرها و أنا الذي لا يستكين في الفراش إلا ليلا.