بقلم: د. ايمان عقرباوي/ أستاذ علم الجغرافيا الطبيعية
تعرف البيئة كل ما يحيط بالإنسان من عناصر حية وغير حية، هي التي تمد الأنسان وسائر الكائنات الحية بمقومات الحياة، من الهواء والماء والغذاء، من خلال تفاعل وتبادل وتشابك جميع العناصر الحية وغير الحية في بيئتها والبيئات الأخرى، ولاستمرارية حصول الكائنات الحية لمصدر غذائها، تتداخل وتتفاعل الأنظمة الغازية والهوائية والبحرية والصخرية عبر حدود اتصالها.
الأنظمة البيئية
فالأنظمة البيئية متفاعلة ومتناغمة لتوفير مصدر للغذاء، فكل كائن حي يحصل على احتياجاته الغذائية تبعاً لنوعه ونمط حياته ومن خلال السلاسل والشبكات الغذائية، ولأجل استمرارية حياة الكائنات الحية والمحافظة على النوع لا بد من توفر:
- أولاً: الغذاء: إذ تسعى الكائنات جاهدة لحصولها على الغذاء بل تتصارع من أجله وتتنافس مع الأنواع الأخرى (تحت مبدأ الصراع من أجل البقاء)، وتنتقي البيئة الاقوى والأصلح، ففي شريعة الغاب تتعرض الكائنات الهزيلة والضعيفة والصغيرة والتي فارقت قطيعها للافتراس.
- ثانياً: الأمان: أن تتوفر للكائن الحي بيئة آمنة، بعيد عن الأخطار البيولوجية والطبيعية ، فلا تخلو البيئة من الأعداء ، وقد تتنقل الكائنات الحية من بيئة إلى أخرى بحثاً عن مكان آمن لها ولصغارها، بعيدة عن الأعداء وبعيدة عن المخاطر الطبيعية وهذا ما يفسر هجرة كثير من الكائنات الحية بعد تعرض بيئتها لخطر طبيعي مثل زلازل او براكين أو فيضانات، ورغم الخطورة التي تحدق ببيئة الكائن الحي الأ ان بعضها مزود بوسائل دفاعية ذاتية (كما هو بالنسبة للسلحفاة الذي يغطي جسمها درع واقي)، أو ان لون بعضها من لون البيئة التي تعيش بها، وتدافع عن نفسها بأستخدام قواها الذاتية.
- ثالثاً التزاوج والإنجاب: للمحافظة على استمرارية النوع وبقائه في البيئة تنجب الصغار، تبعا لنوع الكائن الحي.
الضغوط البيئية والوباء
ينتج عن التغييرات البيئة ضغوطات على الكائنات الحية، والتي تحدث بصورة دورية أما موسمية أو سنوية، أو تأتي بصور عشوائية غير منتظمة، وما تفرزه هذه الأحداث من أمراض، أو أوبئة، أو فيروسات من خلال خلق بيئة مناسبة لنشأتها وانتشارها مرتبطة ببئيتها؛ تهدد الكائنات الحية ومسببة الأمراض والأعياء وربما الموت. لقد شهدت البيئة العالمية انتشار وبائيات وفيروسات وكان منها ما انتشر للفترة الممتدة بين 2010-2020م (الأنفلونزا، وانفلونزا الخنازير، وانفولونزا الطيور، وأيبولا، وسارس، وفيروس كورونا الذي عرف بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية فكان منها فيروس كورونا، والذي عرف بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية)، وأخيرا فيروس كورونا المستجد والتي كان لها تأثير على البشرية، وأعلنت منظمة الصحة العالمي 11 أذار 2020م أن فيروس كورونا المستجد COVID-19 جائحة عالمية، أصاب أكثر من 200 دولة، وأصاب 4 مليون شخص، وتسبب بمقتل أكثر من 275 ألف شخص حتى يوم 9 مايو.
ويبقى السؤال الذي يدور في أذهان الكثير، من المسؤول عن انتشار وتفشي هذا الوباء البيئة أم الأنسان؟
إن عدم مراعاة الأنظمة البيئة والمحافظة على سلامتها، وزيادة تدخلات الإنسان بالبيئة بطرق عشوائية غير علمية ومدروسة، يؤدي بلا شك إلى خلل بالتوازن البيئي، فأصبح مؤكداً من قبل الباحثين أن اختلاط وعيش الأنواع من الحيوانات في بيئة واحدة بصورة لا تقبلها الطبيعة، والذي تسبب به الإنسان وبدون وعي أو أدراك وبشروط بيئة غير مناسبة، أدى بدورة إلى جلب المزيد من الكوارث البيئية والمخاطر البيولوجية، وتطور وانتشار المزيد من الفيروسات والأوبئة، والتي تنعكس سلباً على حياة الإنسان وأنشطته المختلفة.
مفاتيح التعامل مع الفيروس
وفي الواقع أن فهم خصائص البيئة وعناصرها وكيفية تفاعلها [i]، وفهم سلوك الكائنات الحية فيها وطرق معيشتها، والتوسع في دراسة علم الوبائيات والفيروسات، من حيث نشأتها وظروف انتشارها، هي المفتاح الأولي: في مواجهة فيروس كورونا وغيره في المستقبل، أما المفتاح الثاني: هو الشروع في تنفيذ الأنظمة والتشريعات البيئية في الدولة، مع تركيز الأهتمام بالبيئة وسلامة ونظافة البيئة المحلية، أما المفتاح الثالث: يتمثل بإيجاد حلقة تعاون أقليمي ودولي في سرعة لتبادل البيانات والمعلومات الدقيقة في حال انتشار الوباء بين دول العالم. أما على مستوى الأفراد زيادة الاهتمام بصحة الفرد وتوفير الرعاية الصحية والبيئة الصحية للفرد، وتحقيق التباعد الأجتماعي، والتغذية الصحية، وممارسة الرياضة، لزيادة مناعة الأفراد، وهذا يمثل المفتاح الرابع، للحد من انتشار فيروس كورونا.
الآثار البيئية تفشي جائحة كورونا
رغم الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لجائحة كورونا المستجد، والذي تسبب بتعطل العمالة في مختلف الدول التي طالها الفيروس، وتؤكد منظمة العمل الدولية أن قرابة 25 مليون شخص قد يخسرون وظائفهم، وإغلاق شركات وتعطل قطاع السياحة، والطيران، ومؤسسات تعليمية، وشركات نقل…….، الأ أن آثار هذه الجائحة كان في معظمه إيجابياً وصديقاً للبيئة، حيث تمثلت حالة التعافي من آثار التلوث في البيئة من خلال:
- كثافة التثقيف البيئي والإعلام البيئي، بالوسائل الأعلام المختلفة من خلال القنوات الفضائية ووسائل التواصل الأجتماعي، أفلام وثائقية، نشرات ودعايات، من أجل أخذ التدابير والإجراءات الوقائية والاحترازية للأفراد والمؤسسات، وتزويدهم بمعلومات عن الجائحة وكيفية انتشارها، واشتركت في ذلك دول العالم.
- زيادة الوعي البيئي بأهمية نظافة وسلامة البيئة المحيطة بالإنسان، وضروره الإجراءات الاحترازية والوقائية، والاهتمام بنظافه وتعقيم في الأماكن العامة، للسيطرة على تفشي الفيروس.
- انخفاض نسبة انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتقليص ثقب الأوزون. لقد توقع المركز الدولي لأبحاث الطقس والبيئة الدولي في أوسلو أنخفاض انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري عام 2020م بنسبة 0,3%. وسجل ثقب الأوزون هذا العام أصغر حجم منذ اكتشافة في بداية الثمانينيات (1982م)، حيث تقلص عمود الأوزون في القطب الشمالي تبعا لموقع SomagNews. وشهد مستوى غاز ثاني أكسيد النتيروجين(NO2) انخفاضاً ملموساً، وتحسنت جودة الهواء في337 مدينة بنسبة 11,4% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، وانحسار انبعاثات الغازات في الصين بنسبة 25% في مطلع العام الحالي 2020م، وتراجع أستهلاك الفحم بنسبة 40% في ست محطات طاقة في الصين في نهاية عام 2019م تبعاً لما نشرته وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا). وتؤكد جامعة كولومبيا انخفاض غازأنبعاث ثاني أكسيد الكربون CO2 بنسبة 5-10% في كولومبيا خلال أسبوع واحد، بعد إعلان حظر التجول في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال الصور التي نشرتها الوكالة الفضاء الأمريكية(ناسا) للصين، وأوروبا (شمال ايطاليا، اسبانيا، المملكة المتحدة)، والولايات المتحدة أكبر الدول الصناعية في العالم أظهرت انخفاض نسبة أنبعاث ثاني أكسيد النتيروجين(NO2)، وتراجعها بشكل ملحوظ، فقد تراجعت نسبة انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري في نيويورك بنسبة 50% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، وانخفض تلوث الهواء في الولايات المتحدة نحو 30% منذ تفشي الفيروس، بسبب تراجع في النشاط الأقتصادي والحجر المنزلي، مما أدى الى تخفيض أستخدام وسائل النقل العام والقطارات والنقل الجوي، وإغلاق بعض المصانع وتخفيض ساعات العمل في بعضها الآخر، حيث لم تشهد الأرض تراجعاً لنسبة انبعاثات غازات الأحتباس الحراري بهذه الصورة إلا في عامي 2008/2009م بسبب الأزمة المالية.هذه الآثار الإيجابية التي لاقت قبولا ورواجا بين علماء المناخ والبيئة، والتي تسعى إليه المؤسسات البيئية للمحافظة على هذه المستويات، وتحسن جودة الهواء لما له من آثار على صحة الإنسان وتعافيه، ويشير مركز أبحاث الطقس والبيئة في أوسلو أن هذه المعدلات قد لا تعود إلى سابق عهدها في حال تركيز الجهود على دفع عجلة النمو الاقتصادي بالاعتماد على قطاعات الطاقة النظيفة.
- باتت شواطئ الدول التي اجتاحها الفيروس أكثر نظافة، نتيجة قلة سياح الشواطئ والتجمعات حولها وقلة نسب الاصطياف بسبب الحجر المنزلي، ومن ناحية أخرى أغلاق الشواطئ من قبل السلطات المحلية، ومنها قرار السلطات المصرية بإغلاق كافة الشواطئ منعا لتفشي فيروس كورونا، خلال هذه الفترة تنفست الشواطئ واستعادت حيويتها وجمالها.
- انخفاض نسب استهلاك الوقود بسبب الحجر المنزلي وإغلاق الحدود، انخفاض عدد رحلات الطيران، وتوقف الكثير من الأنشطة الاقتصادية والتجارية.
- انخفاض النفايات التجارية والصناعية للأنشطة التي توقفت عن العمل، بالمقابل زيادة النفايات المنزلية، بسبب زيادة الاستهلاك.
- فرض منع أكل بعض الحيوانات البرية أو تصديرها ، وما حدث في الصين من خلال قرارات منع الأتجار بالحيوانات البرية واستهلاكها في فبراير، بعد تفشي فيروس كورونا، حيث استنثنت القرارات الصينية الكلاب والقطط من قائمة الحيوانات الصالحة للاستهلاك.
- انخفاض تلوث الأنهار في أوروبا، حيث رصدت المشاهدات في البندقية فأصبحت المياه الموجودة في الانهار أكثر صفاء، وقليلة التلوث بسبب انخفاض حركة القوارب، والذي ارتبط انخفاض أعداد السياح، وبسبب انخفاض تصريف مياه الصرف الصحي للأنهار. ورصدت حركة الحيوانات والطيور في الطرق العامة في الهند، وغزلان برية في اليابان، والإوز في البندقية.
وبذلك نجد أنه رغم كثرة السلبيات والأضرار الناتجة عن تفشي حائجة كورونا والتي طالت حياة الأنسان الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والصحية، الأ أنها أفرزت إيجابيات رغم محدوديتها، انعكست آثارها على جودة البيئة وكوكب الأرض، حيث تنفس وتعافى هذا الكوكب في كثير من أجزاءه في ظل كورونا، أن هذه الأيجابيات إذا ما استغلت بطرق جيدة للمحافظة على البيئة ومواردها من قبل متخذي القرار والمخططيين والمؤسسات البيئية كان لها أثارها الصحية على الفرد والمجتمع؛ حيث نؤكد على رفع مستوى صحة البيئة مؤشر على مستوى صحة المجتمع، وهذه خطوة متقدمة تؤثر إيجابا على المناخ. مع هذه الأستجابة العالمية من خلال الإجراءات المتشددة التي طبقتها الدول، أصبحت الكفة مرجحة لتحقيق وبدرجة عالية الثقة تفادي تداعيات التغيير المناخي، لكن يبقى التساؤل ما هي الفترة التي يمكن أن نحافظ فيها على استمرارية انخفاض هذه المعدلات من التلوث البيئي؟
صور وكالة ناسا تظهر تراجع نسب التلوث في إيطاليا بسبب تفشي فيروس كورونا
[i] تتميز الكائنات الكائنات بكييفها في بيئتها من خلال سلاسلتها الوارثة وطرق تكييفها المختلفة ،وكل كائن له ظروف بيئة خاصة به، وبصورة عامة فكل بيئة لها كائناتاتها الحية.