بقلم: جيهان القارة
إن البحث عن “الراهن و الوضعيات القصوى ” في الفن المعاصر يزداد تعقيدا يوما بعد يوم خاصة مع طفرة تطور التقنيات و الوسائل الاتصالية، حيث أنه يدفعنا للبحث في واقع وظروف الممارسة الفنية وفقا للحظة الإبداع، التي يضعها الفنان في إطار ما يعرف بالخصوصية الزمنية و الحدثية للعمل الفني.
الفن الرقمي الافتراضي
فغالبا ما نتحدث اليوم، في هذا السياق، عن كفاءة الآلة وقدرتها على إيقاف الوقت و نقل الحدث لحظة بلحظة دون زيادة أو نقصان إذا ما تعلق الموضوع بالفن الرقمي الافتراضي، فمن الواضح أنها لحظة فنية عابرة أرشفت عن طريق الجهاز وانبعثت في أشكال ومظاهر مختلفة. إنها في نهاية المطاف، “لحظة” قد لفظت أنفاسها الأخيرة، تقف على أعتاب مفارقة الحياة والموت داخل الفعل و الانفعال الفني.
فنون الزمن الراهن
و تجدر الإشارة أيضا إلى أن هذه المفارقة نفسها هي التي تميز العملية الفنية في المسرح، في التشكيل وخاصة في عروض”الأداء”، فهذه بامتياز فنون الزمن الراهن التي تحمل على أعناقها ما نعيشه من وضعيات أليمة و قصوى تتطلب مراجعة ، إعادة نظر و خاصة التأقلم معها بل حتى بناء علاقة سلمية تارة و ندية تارة أخرى. لأننا بالفعل نراهن على الوجود الفعال والمعقد لكينونة الجسد في منطقة التلاعب بالزمن مع الحركة و الحدث، وبالتالي التوقيع على إنشاء الفعل الفني رغم ما يدور من حوله من اضطهاد و تعسف، خارج عن سيطرة و يد المبدع.
إلا انه تختلف المفاهيم و المحاورات العلمية حول نظرية تشكيل تصور واقعي واضح وإدراك جماعي للعمل الفني إلى جانب معضلة الزمن ألحدثي ، فالفن إزاء الوضعيات القصوى يأخذ منحى موضوعي يحذو حذو التقني بل أنهما اليوم مع تسارع الأحداث حولنا أصبح مفهوم “الراهنية الفنية” ذات وقع و صدى خاص، ببساطة لا يمكن المرور عليه بمجرد الذكر لأننا نعيش بالفعل عصر “الحدث”.
ما المقصود بالقراءة الفنية؟
فأصبحت بذلك القراءة الفنية عملية ذات صلة خاصة و علاقة وثيقة بالفكر الجمالي الإستطيقي و المعاصرة الفنية حتى أن الفلسفة أخذت من راهنية الفن الحصة الأكبر و اعتنت بمفاهيمه و أبعاده أحسن عناية فجاءت مراجعة “هيغل” الفلسفية في هذا الإطار مؤكدا من خلالها على أنه و : “في الأعمال الفنية، أودع الناس تصوراتهم الداخلية و الجوهرية ، حيث يشكل الفن الجميل في كثير من الأحيان المفتاح ، حتى عند بعض الشعوب هو المفتاح الوحيد ، الذي يسمح لنا بفهم حكمتهم ودينهم “[1].
في الواقع، تظهر العديد من التجارب في العالم ككل التي يحتل فيها هذا المبدأ الآن مكانة مركزية لا بل أن الواقع أو الراهن بما يشكله من وضعيات قصوى تحول أمام الإبداع و الانجاز الفني في بعض السياقات بالنسبة للعديد من المبدعين يمثل مادة شهية طيعة تستثير انفعالاتهم و تفتح لهم بوابة المعاصرة الزمانية لما حولهم، فكانت البذرة الأولى لأعمالهم و إصداراتهم الفنية المعاصرة فينطلقون من أحداث عالمهم المحيط سياسية أو اجتماعية أو صحية.
لم تكن الحياة خرساء بل أنها تخاطب و تحاجج ما يربطنا بها من توقعات و مجادلات تدفع الفنان لإطلاق العنان نحو فرشاته اللونية و خطوطه فيستثير حواسه و أحاسيسه تجاه قماشة يهتك عذريتها في رد قاس تارة و لطيف تارة أخرى لما يدور حوله، أو أن يلتقط بعدسته صورا رأى فيها ما أشعل لهيب بركان خامد.
أنواع الفن
انه ببساطة اتجاه شامل و عالمي تشجعه الظروف الراهنة التي يعيشها المجتمع أولا و العالم ككل لمسناه و دققنا تفاصيله الحزينة مع تكعيبية “بيكاسو” الشهيرة “غرنيكا” التي جاءت و كأنها عمل فيلمي توثيقي رسم ملامح معركة لا تموت في أنفاس و ذاكرة الاسبانيين و تواصلت مع العديد من المبدعين الذين رأوا في الراهن قيمة فنية لا يمكن ملامستها من بعيد بل من الضروري الغوص في أحجيتها اللونية و التعبيرية انه الراهن في أعين الإبداع.
فللإبداع الجمالي إلى اليوم نوافذ مفتوحة على مصراعيها تتشرب و تتأقلم مع الوقت ضمن برمجيات مجموعة من التقنيات الجديدة والشبكات الاجتماعية المتفرعة، خاصة و إن تحدثنا و ارتمينا في حقل معجمي لطوفان من المفاهيم الجديدة، أهمها “الرقمنة” و “الميكنة” إلى جانب المنصات الرقمية أو التدفق ألمعلوماتي، كاستعارات “لحياة الفنان السريعة”.
النقطة المحورية و الجوهرية لمختلف هذه الأفكار المنحصرة في “الآنية” و “الراهن” تدور حول النشاط الموضوعي و التقني على حد السواء. ففي الفترة الراهنة، تمكن صائغي الأفكار من إيجاد بدائل واقعية في إنتاج المعرفة والأعمال الفنية، على حساب التخيل الميتافيزيقي للمواضيع و القضايا المطروحة على القماشة أو المحمل الفني الافتراضي.
الحياة الفنية داخل المجتمع الواحد
بهذه الطريقة تمكنوا فعليا من اكتساح المعارض، مسلحين بقوة مضمون الصورة الجماعية التي تسمح لهم بالحفاظ على قدر معين من الاستقلال الفكري و الإيديولوجي منغمسين في منظومة النقد الساخر أو اللاذع. بدون غض البصر عن هدفهم الأول و الأهم و هو تغيير ظروف أو معالم الإنتاج الثقافي وأنماط الحياة الفنية داخل المجتمع الواحد. وهكذا تثير الحياة اليومية والعلاقات الشخصية اهتماما جديدا فتصبح مسيسة تارة ، اجتماعية تارة أخرى … في بعض الأحيان مؤلمة و البعض الآخر مجحفة إلا أنها تلتقي في نقطة واحدة و هي الراهن.
إن الحياة تقدم للعمل الفني مادة كونية مرئية في شكل جمالي توليفي قابلا للتفكيك و إعادة التركيب، ترمم الواقع بصورة تجعل المشاهد يتحلل في زوايا ذاك العمل فيفرض قراءته بطريقة مرتبة منمقة، يسرح مع الألوان و يبحث في المقابل عن المعنى من وجودها في العمل و في الواقع، جامعا في تركيبته المادية بين التناقضات العالمية والفردية، الداخلية والخارجية، الروحية والطبيعية.
ما هو هدف الفن اليوم؟
فالفن اليوم يهدف إلى كشف النقاب عن الحقيقة في شكل تصويري فني فيه من الهجانة و الغرائبية ما يجعلنا نحاول قراءته بين التشفير و التحوير، لإظهار التوافق بين هذه المعارضة الضمنية لواقع يرفضه الفنان، فيحاول إبرازه و نقده في طيات أعماله الفنية، وبالتالي يكون له غايته النقدية . في هذه التعرية لراهن إيديولوجي أو اجتماعي سلبي هناك طرح فني ثقافي ايجابي. بعبارة أخرى، الغرض من الفن هو الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي تعترضنا حول “الراهن” أو “الآن” أو ما يعرف بالوضعيات القصوى؟ و كيف يستطيع الفنان أن يشرحها بسهولة وبإيجاز في إطار عمل فني؟
الفن في مواجهة الوضعيات القصوى من الفلسفة إلى الصورة
يظل “مرلوبونتي” وفيا لفلسفة الراهن في ظل الوضعيات القصوى عبر فكرة الوجود حيث قال: “بمجرد أني ولدت، يمر الوقت بداخلي”[2]. فحدده بما يتعلق بالوجود الذاتي الفيزيائي و تواتر نسق الحياة و هو ما نواجهه من أسئلة وجودية غير ملموسة، تطبع على أجسادنا و تجاعيد وجوهنا وعلامات مروره الزمني على ما حولنا. تسمح لنا التجارب المتعددة اليومية بالتحقق من وجود البعد “الراهن” عبر: حركة الغيوم، تحولات الطبيعة و تغير أجسادنا فكلها تبقى علامات على نشاطها و تحولها الزمني. و مع ذلك يبقى الزمن جزءا من كل شيء وفي كل مكان حتى أنه جوهري، ذو حقل معجمي غني بمختلف المترادفات و المفاهيم: الحاضر، المستقبل، اليوم، غدًا، عصر، معاصرة، العصر، الخلود و الوجود…
الفن والتصوير الفوتوغرافي
تعود بعض المراجعات الفلسفية إلى علاقة الفن بالوضعيات القصوى من بوابة الجانب الفني و تحديدا مع بروز التصوير الفوتوغرافي خاصة، فللوهلة الأولى ينظر إليه على أنه ليس فنا أو وسيطًا زمنيا بل هو تأريخ و توثيق لما يدور حولنا أو أنها محاولة لمواجهة طوفان مقيت فظيع من المسببات التي تعيق صيرورة و سكينة الفن بما يجعله في جمود و ركود لا يتطور”في الوقت المناسب”، ثابت، غير متحرك باعتبار التقاط الصورة في وقت محدد لحدث محدد لا يتكرر هو تخليد لهذا الحدث و لكتابة التاريخ وقراءة ذكريات النزاعات في عصرنا والاختلافات الجماعية و الحروب الاستعمارية إلى جانب الظروف الصحية.
فالكثير من الآلام والندوب حاول العديد من المدعين تفكيكها و فك شفراتها في أكثر أشكال الإبداع تنوعا (الرسم، النحت، الفنون البصرية، الموسيقى والشعر). هذه الجداول الفنية المتتالية للحالات المؤلمة التي مرت بها الشعوب في العالم إضافة إلى العديد من الاحتمالات الجمالية المقدمة للخروج من بوتقة الوضعيات القصوى نحو فهم أفضل للدمار الجسدي والعقلي الذي يعاني منه البشر في زمن النوبات المؤلمة.
فما لا يمكن عرضه يمكن تمثيله و تقديمه بشكل جيد. كيف نروي هذه التجارب الغير المشتركة، وكيف نكتشفها ونعيد تأريخها، في حين أن وسائل الإعلام تقصفنا بالأحداث الفورية و بمسرحيات يومية؟ أراد العديد ممن المبدعين استخراج العديد من الأعمال و المصادر، مكتوبة ،مرئية وصوتية، تم التقاطها في لحظة انبلاج جروح الجسد أو الروح، قبل الموت مباشرة، أثناء القسوة والرعب، الحزن، الدم والدموع.
ما هو الغرض من الفن؟
على الرغم من أن هذا النوع من الأعمال الفنية يثير لغطا و عدم قدرة على الفهم و الاستيعاب بين المتفرجين ويمكننا أن نتساءل بحق عن مزايا إعطاء مكانة التأريخ الحدثي و النقد للفن إلى جانب الأداء التعبيري أو هو سؤال من شأنه أن يقودنا إلى تحديد ما هو الفن و ما الغرض منه؟ هذه الأسئلة تتطلب مراجعة الإحداثيات المفاهيمية لما بين الصورة بشتى أصنافها و الوضعيات القصوى التي تدور حولها، فالعديد من المفكرين أمثال Amandine Cha-Dessolier “أماندين شا داسوليي” قد ربطت هذه المعضلة بالعنف الجسدي المتمثل في مخلفات الحروب و المآسي و الكوارث الصحية أو البيئية و التي دفعت بالعديد من المبدعين إلى الاعتماد في تركيبة أعمالهم على مفهوم التهشيم و التكسير و اللطخ …تجاه الذات المبدعة أو تجاه المتفرج.
الفن المعاصر
فلطالما كان الفن مهتما و في مواجهة العالم وقد تم تحويل الرسم والنحت، من بين فنون أخرى، إلى بناء علاقة متينة و واضحة بينه و الوضعيات القصوى عبر الخوض في قلب هذه المشاكل، وإعادة تقديمها من جديد بهدف الوصول إلى حلول واقعية لمشاكل الإنسان لا الهرب به إلى عوالم لونية وفكرية حالمة. ومع ذلك، فإن للفن المعاصر خصوصية تجعل المشاكل التي تحيط بنا أكثر صدمة للمشاهد فتستشعر سكونه الداخلي و توقظ ذاك البركان الخامد داخله: وسائط جديدة أكثر واقعية، ومسافة أقل بين العمل والمتفرج.
ولكن في المقابل المؤرخة “أنيت باكر”Annette Becker لها في هذا الموضوع رأي آخر فلقد أيقنت في قراءتها للفن و علاقته بالراهن و الوضعيات القصوى بأنه سلاح فتاك قادر على قلب موازين العالم بمجرد انقياده نحو التحرر و كشف ماوراء حدود ذاك الإطار أو الصورة .[3]
الفن في رأي الفلاسفة
الفنانون محكوم عليهم بالتكيف مع الحقائق المتعلقة بالسنوات المظلمة على غرار “بيكاسو”، الذي أكد على أن” الإبداع يعني المقاومة، و اللوحة ليست مصنوعة لتزيين الشقق.بل إنها أداة حرب هجومية و دفاعية ضد العدو”.[4] و في نفس السياق جاءت أطروحة “البيرتو جياكوماتي” Alberto Giacometti الذي أرسى في رسوماته و منحوتاته قاعدة “لدغة الواقع”[5]، التي تطلب الدفاع و الهجوم بشكل أفضل.
و للمضي قدما قدر الإمكان على جميع المستويات، في جميع الاتجاهات، إلى الدفاع ضد الجوع، ضد البرد، ضد الموت، ليكون الفنان حرا قدر الإمكان فلا يقف أمام ما يواجهه العالم بل يتحرر في محاولة لرؤية أفضل و لفهم أفضل لما يحيط به. فيقول “لفهم أفضل، لأكون أكثر حرية و أكبر قدر الإمكان ولتشغيل مغامرتي الابداعية ،لاكتشاف عوالم جديدة ، ولجعل حربي ، من أجل المتعة؟ للمرح؟ من الحرب، من أجل الفوز والخسارة. “[6]
علاقة الفن بالصورة
على الرغم من أن الفن المحفوف بأزمات يركز على مسألة نقل الواقع (أو علاقة الواقع / الصورة)، فإن مسألة الواقع في التصوير الفوتوغرافي خاصة لا مفر منها و أظهرت سطوتها على الفن المعاصر مع العديد من المبدعين الذين قاموا بتحويل أنظار المستهلك الذي لم يعد يبحث عن الجمالية الفنية، بل عن تغذية بصرية. من خلال تعديل حالة الصور نفسها ، والتي تتحول إلى سجل أرشيفي مع الحفاظ على علاقتها بالفن التشكيلي.
في مقال نشر مؤخرا في مجلة Études Photography، يؤكد أندريه قونثيرت André Gunthert أن الواقع و ما يرومه من تحولات و مشاكل يطبع بالأساس على العمل الفني و على انفعالات المبدع فلا يمكن أن تبقى الأعمال في حدود النقل و لكنها تتجاوز حد النقد و المجاوزة ، لكنها تبقى مثل أي أرشيف يؤرخ الراهن و ينسج من الوضعيات القصوى حلولا و نتائج، ف”يقترح بدلا من نقل الواقع كحالة ثابتة و نهائية للماضي ، بل حلولا و نتائج مستقبلية[7]. كما أنه يستنكر “المكون النفسي لحجة مؤشر الواقعية[8]”.
إن التفكير في لوحة زيتية أو رقمية، فيلم روائي طويل، سلسلة فوتوغرافية.. في ضوء مفهوم الترجمة الفعلية للراهن أمر ليس بالبديهي، خاصة و إن تعلق الأمر بالأعمال التي تم إنشاؤها في فترة زمنية صعبة والتي تقدم في الغالب المادة اليومية. و بالرغم من أن الرقص والسينما والتصوير.. ليست بلغات تتحدث بدقة، ولكنها بالمقابل تتسم بقوة الدلالة و الانفعال المتبادل إزاء المتقبل، و هو ما يؤكده كريستيان ميتز بالقول “تتشارك الفنون و تتفاعل لتشكيل ممارسات مقننة حسب الوضع الراهن لتتحول بنيتها إلى لغة”[9].
كيفية نقل الراهن إلى ساحة العمل الفني
إنها مسألة تتعلق باكتشاف كيفية نقل الراهن إلى ساحة العمل الفني و التي في المقابل تساعدنا في التفكير فيما لا يمكن اختزاله، في الرابط بين الاجتماعي و الجمالي، في عملية إعادة عرض بسيطة للحياة اليومية، فهم على أنها مرور لتجربة حقيقية في صورة فنية بتقنيات و أساليب مختلفة. في هذا الإطار سنسلط الضوء على تعقيد العلاقة المنسوجة بين التجربة الاجتماعية أو السياسية أو الإيديولوجية… الراهنة والتجربة الجمالية. فالفن حسب “لبينيديتو كرتوشي Benedetto Croce ” هو تعبير حدسي، باستخدام ثنائية المحتوى والشكل، يجمع ما بين الواقع و فرضياته إلى جانب التعبير و خصوصيته”.[10]
أكثر من أي وقت سلكه فناني العصر الحديث و ما قبله، فإننا نشهد كثافة و حركة رقمية “ديجاتيلية” في تداول الفنانين والمنتجين والنقاد للمادة الفنية . و التي سمحت بإدراك المشاريع الضخمة التي لم تكن لتظهر للنور لولاها خاصة في فترة انتشار الجائحة ” كوفيد 19″. في هذا السياق، يمكن النظر إلى حقبة الخلق الفردي أو الذاتي باعتباره محطة لا يمكن تجاوزها لما يسمى بما بعد الحداثة.
و بالتالي فتشير كل هذه المجموعات إلى التجارب السابقة التي تدعو إلى التلاحم القوي بين الفن والحياة الراهنة للفنان أو بما يحيطه من أحداث أو مرجعيات تستحق النظر إليها بعين المبدع أو الكاتب أو الناقد.ليصبح للشكل الفني “هيغليا” “مهمة التعبير بطريقته الخاصة ، أي في شكل فني ، عن روح الشعب”[11]
التشكيلات الفنية الجماعية الجديدة
تعتبر هذه الأفكار شعارا و أولوية لدى التشكيلات الفنية الجماعية الجديدة. تتخللها الركيزة الثقافية اللاسلطوية لهذه المبادرات، العروض والتدخلات النقدية، كما أنها تخلق نوعا جديدا من الحساسية الثقافية التي تتطلب بعدا نقديا للممارسة الفنية بقطع النظر عن التقنية أو الوسيط المعمول به، فيركز المبدع أكثر على الوضعيات القصوى التي تحتم عليه العمل تحت ظلالها إما عن طريق الفرشاة اللونية أو العدسة الضوئية …. و هو ما يؤدي بهذه الممارسات الجديدة إلى إنكار الفنان كبطل أو صانع فردي عظيم بل إلى ناقد و ناقل حرفي للراهن.
هل العمل الفني يشجع على فتح الحدود بين اللغات الفنية؟
و النتيجة الثانية لهذه الحركة، ذات الأهمية الكبيرة لفهم الفن المعاصر، هي حقيقة تجميع المهارات المتميزة في منصة رقمية واحدة في غياب دور العرض أو الرقابة المسلطة على الإبداع. وبالتالي، فإن العمل الفني يشجع على فتح الحدود بين اللغات الفنية أو الثقافية، في حوار بين التقنيات المختلفة القادرة على حشد الموسيقى والأدب والفنون المرئية معا، وكذلك التقنيات التقليدية والرقمية، فضلا عن النوايا الجمالية والإيديولوجية. لذلك، فهو اختراع فن جديد، ينجح في إشراك عدد متزايد من الممثلين، لتغيير الواقع وإعادة إنشائه.
هل الفنون التشكيلية تحاكي الواقع الاجتماعي والسياسي؟
لم تعد الفنون التشكيلية نشاطا تفاخريا كلاسيكيا، ترفا يدور ضمن دائرة ما يسمى بالنشاط الثقافي الأحادي الجانب بقدر ماهو تعاطي اجتماعي سياسي يعكس الواقع بسلبياته و مطباته. و وفقا للسوسيولوجي الفرنسي “هووارد بيكر” ، “إن دمج الفنون في حركة التقييم النقدي للأنشطة البشرية يسبب خلطًا تاما بين القيمة الفنية والقيمة الايديولوجية[12].” يشير هذا التحول إذن إلى أن الفنون تحتل مكانا جديدا في ديناميكيات المجتمعات وأن وظيفتها الاجتماعية قد تغيرت.
باختصار، أن العلاقة بين الفن والمجتمع قد خضعت لتعديل هيكلي يشكك في الهدف ذاته من الفن، ليصبح وسيطا افتراضيا لا حدود له. فمختلف هذه الأفكار تحيل إلى مجموعة من النقاط التي تتطلب بحثا و تعقيبا خاصة إذا ما أطرت مكانيا بالتجربة التونسية و زمانيا بطبيعة الحال الواقع الراهن ما بعد الثورة التونسية إلى اليوم مع اجتياح جائحة الكورونا.
ما الذي يجعل الفنان قادراً على ابتكار عمل فني؟
فماذا يحدث للفنان على المستوى النفسي في ظل مجموعة من الضغوطات التي تقصي نشاطه و تحد من مردوده الفني؟ ما الذي يجعله قادرا على ابتكار عمل فني؟ وما المعنى الذي يعطيه له إبداع فني خاص و نابع من الواقع؟ و الذي تم إدراجه بحدود المنظور الاجتماعي أو السوسيولوجي الثقافي، تركز هذه الورقة العلمية على المعالجات الفنية التي تميز نشاط الفنون البصرية في الراهن.
من خلال التجارب الفنية المعاصرة لنخبة من المبدعين التونسيين على غرار “سامي بن عامر”، “نجوى عبد المقصود” و “منى الجمل السيالة” ، تهدف من ناحية إلى فهم كيف يتم التعبير عن العمليات التخيلية والإبداعية فيما يتعلق بـالبيئة المادية والاجتماعية والثقافية التي تحيط بالفنان ، ومن ناحية أخرى لاستكشاف مما يعني أن نشاط الفنون المرئية يمكن أن يقوم به لمن يمارسونه. من بين العديد المفاهيم الموضحة في هذه الورقة، سنجد مفاهيم النشاط اليومي والخيال الإبداعي و الموارد الرمزية ل”ما لا يقوله الفن …”
تؤدي هذه الممارسات إلى مراجعة مجموعة من الأفكار الجاهزة حول الهوية الذاتية والإبداع والموهبة والعبقرية التقنية. وصلت هذه المفاهيم، التي فرضت نفسها منذ الحداثة، إلى يومنا هذا. في هذا السياق، يمكن اعتبار الصورة التي يمتلكها الفنان عن نفسه و عن راهنه كشخصية مألوفة ليست بالغرائبية شكلا أو مضمونا للمطالبة بالذاتية والفردية كقيمة ، كان من المفترض أن تحدد الحداثة من أجل منذ وقت طويل.
هل نفهم دور الفن أم الفنان في الجمال؟
فهل نفهم حقا دور الفن أم الفنان؟ بالنسبة للكثيرين، تقتصر فائدة الفن على الأشياء الموجودة في المتحف أو الزخرفة أو حتى على مستوى السكاتشات، إلا أننا اليوم نتحدث عن صورة مرآتيه تعكس ما نعيشه بشفافية مفرطة التفكير. حيث يتمثل دور الفنان في طرح الأسئلة ضمنيا بين خطوط و ألوان أو بين صور فوتوغرافية ملتقطة وجعل الآخر يفكر فيها ويراقبها جيدا إما بعين الناقد أو بعين السارد للحدث.
لا طالما كان الفن غير موضوعي ويقودنا إلى التساؤل عن فهمنا ورؤيتنا للواقع فيزعج المتفرج في كل علاقاته مع البيئة المحيطة به انه يحاول أن يجلبه ويجعله يشعر بالعواطف و يتحسس انفعالاته و يتفكر راهنه و يستشرف غده.و هو ما عادت إليه “مارينا ابراموفيتش” Marina Abramovic عن راهنية الفن زمن الجائحة بالقول “إذا قمت على الفور بإنشاء عمل حول فيروس كورونا ، فسيكون الأمر أشبه بإعادة تدوير الأخبار اليومية ، ولا أعتقد أن هذا هو موضوع الفن. يجب أن يكون الفن مزعجًا ، ويجب أن يطرح الأسئلة ، ويتنبأ بالمستقبل. “[13]
بين ديستوبيا و يوتوبيا الفن: الخلق في زمن فيروس كورونا
تسبب الوباء في حدوث تمزق وتوترات في الزمكان كما انه أثر على إدراك أجسادنا و صلابة أجسادنا. في هذا السياق حيث يكون للحجر الذي يفرضه الوضع الصحي الأسبقية ، فيقدم الفنانين مواقف و وجهات نظر معاكسة لما يعرف الخمول الثقافي، فالعديد قد طوروا من استراتيجيات للتكيف أو الرفض. نقترح في هذا الجزء من المقال دراسة الأشكال الفنية المؤقتة التي ظهرت في مواجهة الكارثة الصحية وأزمة العلاقة بين الفنان و بيئته و ثقافته الفنية….فلم نكن نستطيع صرف النظر عن المستوى الأليم الذي بلغت عليه الكرة الأرضية بعد اجتياح الجائحة بمعظم أقطارها.
تأثير جائحة كورونا على الفن
فأضحى كل فنان يستخدم تجربته وبيئته في عمليته الإبداعية محاولا أن يصوغ تصورا فنيا ل”فيروس كورونا ” شكلا و لونا و تركيبة . فينتج العمل عن طريق تفاعلات معقدة متباينة بين العوامل الجينية ،البيولوجية والنفسية ، جنبا إلى جنب مع التفاعلات الاجتماعية والثقافية الأخرى المحيطة به. لذلك يتطور الفنان وفقًا لتجاربه الشخصية وأحداثه وتغيراته الاجتماعية. هل ولدت ممارسات جديدة خلال فترة الحجر؟ كيف كان رد فعل المبدعين على نقص الموارد والحرية؟ هل سيؤدي الحبس وامتداداته إلى انعكاس عميق على البيئة في الفن؟ هل يمكننا أن نؤمن بتخصيص مضخم وخلاق ومستدام لأدوات العصر الرقمي؟
الفن زمن الكورونا
تبدو حياتنا اليومية أقرب إلى الخيال العلمي. تبدو الحدود بين الخيال والواقع الآن ضعيفة ويبدو أن بعض كتاب السيناريو أحيانًا يكونون متنبئين للمستقبل. اغلب عناوين الصحف كانت في تلك الفترة تنحو منحى الفن زمن الكورونا فكتبت صحيفة نيويورك تايمز: “لقد خلقوا عوالم كابوسية للتلفزيون. الآن أصبح هذا الكابوس واقعهم “[14]. وبالتالي ، فإن رؤية مدن بأكملها في الحجر الصحي، وشوارع مهجورة، ومطاردة المارة من قبل طائرات بدون طيار قد دفع بالعديد من المبدعين من اتخاذ ورشتهم ملاذا للعمل و الخروج من بوتقة ديستوبيا المكان السريالية نحو يوتوبيا فنية ذات رؤية جمالية.
و هو ما أشارت إليه مجلة Le Courrier International الرقمية: “في غضون أسابيع قليلة، اتخذ العالم مظهر كابوس سريالي”[15]. تحت منظور قراءة أعمال الفنان سامي بن عامر وتصوره عند مراقبة المجتمع، يضع الفيروس كعنصر يولد أشكالًا جديدة من التحكم الشامل عالي التقنية عبر الأدوات الرقمية ويجعل الأجساد سهلة الانقياد. من الواضح أيضا أن الوباء يولد نماذج أخرى من الفنون. من هذه الأزمة ، يمكن أن تولد شهوانية جديدة لا يزال يتعين إعادة اختراعها.
بعيدا عن الركود والجمود الذي انغمس فيه المجتمع، اختار بعض الفنانين العمل الفردي في فضاءهم الخاص. بالعودة إلى التقارب الذي طرحه “جيل دولوز” بين فعل الخلق وفعل المقاومة الذاتية ، فقد اختاروا الاعتماد على استراتيجيات الالتفاف لتفعيل المقترحات المبتكرة. هذا ما يشهده سامي بن عامر، الفنان، الجامعي و الناقد، الذي أخذ حالة الذهول التي غمره فيها الحجر كنقطة انطلاق له، والمشاعر الغزيرة والمتناقضة التي رافقته . إن “العائق” الأوحد لدى الجميع و هو الذي دفع إبداعه قبل كل شيء للبروز رقميا.
عملية “إيكولوجيا الأحياء” والتصوير الإبداعي لفيروس كورونا
في مفترق طرق الفن والبحث، في مقالته بعنوان “Les somatechnies: verse displose émersive”[16] ، يشير “برنارد أندريو” إلى أي مدى ، مع مجمل تلك التقنيات ، يتم إنشاء عملية ما يطلق عليها “إيكولوجيا الأحياء” [17]من بين العديد من المبدعين الذين ركزوا على التركيبة الشكلية و اللونية لفيروس كورونا المبدع سامي بن عامر الذي نظر إلى الجائحة بكل ما فيها من كمال وتعقيد حتى انه قام بتفكيكها و إعادة تركيبها بصيغ متعددة و ألوان مختلفات فيها من الأحمر و الأسود ما اظهر قتامة مخلفاتها على البشرية و فيها من شكلها الدائري الذي جعلها ملكوتا يطوف حوله البشر.
فيقول :” اللمسة انها مهمة عند الكائن البشري و منبع الحنان و لكنها أصبحت مصدرا للحزن.”[18] . فأصبحت التجربة فضاء مخبري يتم فيه توجيه المتقبل للمشاركة الافتراضية لكونها تجربة جماعية بالأساس، تجربة حساسة وليس فقط لتمثيل “الجمال الفني” بقدر ما هي تجربة حسية صحية يضع من خلالها فيروس كورونا تحت المجهر يدقق في تفاصيله و يجزئ مكوناته خطيا و لونيا فيقول”آخر إنجاز مهمّ لي في المجال الفني هو المعرض الافتراضي الذي أنجزته خلال الحجر الصحي في مايو/ أيار 2020 بعنوان “لمسة مميتة” والذي قدّمت فيه مجموعة من الأعمال الفنية الرقمية التي تتناول موضوع كوفيد 19″..[19]
لا يمكن في المقابل دحض الفرضيات الداعمة لفضل الشبكات الاجتماعية في متابعة تطور عرض الأعمال الرقمية و الفنية ديناميكيا على الصفحات الافتراضية خاصة فترة الحجر الصحي. و هو ما دعى بالجماهير إلى مواكبة العروض الفنية الحية و التواصل مع الفنان مباشرة، بالمقابل تعتبر نقطة مهمة لمراجعة دور و وسائط المعرض و دفع عجلة الفن ناحية التطور الرقمي و الافتراضي .
Menace ou Toucher fatal. Peinture numérique de Sami Ben Ameur. Mars 2020 ( Contre la contagion)
عكاز الأعمى: منمنمات تخيلية أم هي واقع مرتقب ؟
من الممكن للمبدع أن يتصور عالمه بطريقة خاصة فيها من الجمال ما هو فوق الميتافيزيقي أو أن يرسم من خياله واقعا يرتقبه و يتأمله أو أن يعود بفطرته العفوية و الطفولية إلي ماضي سعيد و جميل عبر مطية الخط و اللون. تتمثل فرضيتنا البحثية في النظر ليس فقط في التفاعلات الزمنية بين الماضي، الحاضر والمستقبل للعمل ولكن أيضا وضع تصورات و بناء علاقة تعبيرية و تقنية بين مختلف مكونات العمل.
إنها محاولة للابتعاد عن كل أشكال الدمار و القسوة التي نعيشها بين طرق الحياة و هو ما خطه الأستاذ فاتح بن عامر في وصفه لوظيفة الفن حيث يقول ” الفن بوصفه مقاومة مسالمة لقسوة و للدمار و للخذلان و لكل أشكال التواطؤ الكريه.”[20] هذه الكلمات جاءت في قراءة سلسة لمعرض المبدعة و الأستاذة نجوى عبد المقصود “عكاز الأعمى” التي اتسمت أعمالها بذاك الارتداد و الفعل الزمني المنمق بلمسة تخيلية و شاعرية كأنها حلم يرى النور في صور معلقة على الحائط.
أعمال الفنانة والأستاذة نجوى عبد المقصود
أعمال الفنانة تضعنا أمام اتجاهين للقراءة الدالة على أوفر قسط من الخيال السعيد والذوق السليم.: الأول السمة و الطراز الفني للمنمنمة الفردوسية ، كشكل شاعري حالم من أجل إبراز المضمون التخيلي و هو من الموضوعات التي حفلت بها الكتب والمخطوطات في العصور الوسطى، وتضمنت صوراً تسجيلية للحياة ،البيئة ،العادات ،المعتقدات ،الطقوس والأحداث التاريخية، فضلاً عن قيمتها الفنية والعلمية التي تطورت عبر التاريخ.
نظرًا لوجود سجلين للنشاط الخيالي في عملية الحلم المافوق الواقعي: يشارك الخيال الواعي في إعادة تنظيم المحتوى الظاهر للحلم الذي يشكل الإعداد الثانوي ، ويتم تسجيل الخيال اللاواعي في أصل تكوين الحلم . فإن الخيال هو مبدأ الواقع الراهن بالعودة لفلسفة “فرويد” ف”الخيال هو تأثير تأسيس عدم وجود الوجود وفقدانه هو التأثير الذي سيكون نصيب هذا الطموح إلى الاكتمال المتأصل فيه”.[21]
حاولت نجوى عبد المقصود أن تحتل تجربتها الفنية موقعًا معينًا فيما يتعلق بالخيال في علاقته بالراهن ، أي إبراز النقص المتأصل في الرغبة في ماهو أفضل. كل التفاصيل التي قام بها “مارسيل دوشامب” على سبيل المثال و الذي أحدث ثورة كبيرة في فن القرن العشرين وأعطاها اتجاهات جديدة ، يبدو لنا أنه يأتي من هذا التصور بأن الفن دافعه الأول و جوهر الفعل الإبداعي، هو إظهار للواقع والافتقار اللذين يشكلان أساس كل خيال.
الأساس الذي بُبنى عليه الخيال الفني
إذا كان الخيال بناءًا رمزيًا وهميًا ، فإن الأساس الذي بُني عليه يكون حقيقيًا بشكل بارز، خالٍ من الواقع. إلا أن نجوى تحاول امتلاك المشهد اليومي بصورة ملونة و مشعة: يبدو أن شخوصها يعيشون عالما و لحظة روحانية و كأنهم في فردوس من الجمال و الخيال [22]. ويبدو أن هذا الوحي هو نفسه الذي يصطدم بالذات في تقاطع الخيال اللافت للنظر للغاية هو إصرار عبد المقصود على تمثيل هذه الشخوص في لحظات بحيث يكون هناك عتبة أو بوابة تفصل بوضوح بين العالم الراهن وما وراء الرمزي – الحقيقي. عالم في نظرها دائما مشمس و نظيف على عكس ما نعيشه في الواقع بالعودة إلى أزمة البيئية في ولاية صفاقس تحديدا[23] تسمح لنا نجوى عبد المقصود باستئناف أطروحتنا التي تفيد بأن العمل الفني هو بناء وجودي نابع من الذات وصولا إلى الواقع الراهن.
تمامًا كما أوضحت في أعمالها الوجود الكلي لهذا الإصبع الذي يشير إلى خارج اللوحة القماشية نفسها ، باعتباره مؤشرا على رفضها للواقع المظلم ،”تلك المعادلة الرهيبة بين الصلابة و الهشاشة صلابة الحياة و تحجر عديد من أركانها و زواياها و هشاشة الذات اما ضعفها و انكسارها ازاء واقع عنيد .”[24]
نحو الحقيقة من خلال النظرة التي تتحرك من الثبات إلى الحركة الراقصة في تحرك الأشجار و رونق الأزهار. من العالم المرئي نحو هذه المنطقة المتبقية خارج المجال المرئي، فلا يمكن الوصول إليه من خلال رؤية المتفرج بل عبر الحلم المنحصر في راهن مثيل لماهو مطروح على القماشة. و هو ما فسرها المفكر و السوسيولوجي “انطونيو كوتينهو” Antonio Coutinho بالجرأة لتغيير حدود النافذة التي شكلها الواقع الخيالي ووضع أنفسهم أمام الواقع ، من خلال الكشف عن إغراء الهيكل الذي يشكلنا.[25]
القضايا التي تُعالجها نجوى عبد المقصود
تعالج نجوى عبد المقصود العمل في بيئة مرتقبة، تظهر السماء في نقاط مضيئة في الجزء العلوي من الصورة مزدانة برسوم الأشجار و الزهور غاية في الإبداع، إلى جانب صور الأشخاص التي روعي فيها جمال الملامح مما وضعها قاب قوسين من المنمنمات الفارسية التي ارتكزت في الكثير منها على المشاهد الفردوسية من المناظر الطبيعية التي تحتل المكانة الأساسية في التكوين المتوازن تماما والأمل في فردوس الأعلى و التي يعتبر من أقصى درجات الصقل الفني.
تعبئة الفراغ، سمة مميزة للعبقرية الفنية لدى نجوى عبد المقصود، تجعل الحدائق مليئة بالحيوية حيث تغطي أصغر قطعة من الأرض بالورود. الخطوط منحنية ، غالبًا ما تكون لولبية أو أنصاف دوائر يمكن أن تمثل تيارات ، تساهم في نعومة وانسجام الكل فيقول الأستاذ فاتح بن عامر أنها:”تحمل في طياتها نزعة تشخيصية اختزالية و اختيار لونية ذات توليد عجيب لا يعرف سره المتراكم من عجائن الاكريليك فوق قماشة تخلت عن عذريتها من اجل إخصاب بديع.”[26] عمل بعنوان يا دارنا الخضراء عيني في عينك عمل من عكاز الأعمى تقنية مزدوجة على قماشة تقنية مزدوجة
فوتوغرافيا/ فسيفساء: السيالة بين الحاضر و الماضي
تقودنا نظرية الزمن و راهنية الصورة في بيئتها، إلى الخلط بينهما وبين الوضعية الزمنية: اللحظة و قرينها الحدث. يبدو أن ظهور اللحظية الفوتوغرافية يتوافق مع ولادة أداة قادرة على التقاط الحدث بغض النظر عما يجوب حولها والكشف في الآن نفسه عن طبيعته الحقيقية. للوهلة الأولى، يبلور التصوير الفوتوغرافي لحظات الحياة العظيمة، غير العادية والاستثنائية، يحافظ على لحظات الرحلة من الزمن ليعطي الوهم باسترجاعها مرة أخرى في ذاكرة الروتين اليومي[27] فيتلاعب الفوتوغرافيون أيضا مع الوقت، وبالتالي يكسرونه في الرغبة في فهمه عبر التقاط لحظة من الزمن و تخليدها.
و هو ما يمكننا من التمييز بين ثلاث فئات على الأقل من الصور الزمنية التي تنتج عن هذا الموقف: الصورة الفورية، الصورة (الحدث)- المدة والصورة متعددة الزمان. تسمح لنا هذه التسمية برؤية كيف يمكن لممارسات التصوير الفوتوغرافي، أن تشكك في الوقت من خلال التعبير عن مفهومي اللحظة والحدث يقول “سيرج تورسون” في هذا الإطار”لقد مر التصوير الفوتوغرافي في أقل من عشرين عامًا من الانشغال الوثائقي بالتفكير في نفسه.هناك أيضًا مفهوم مختلف لماهية الصورة” [28]
تعتبر “منى الجمل السيالة” من بين الفنانين المعاصرين الذين اشتغلوا على الحياة اليومية من الفترة الراهنة متخطية بذلك اختزال المفاهيم التي يمكن أن تولد فكرة واسعة و “عائمة” وغير مستقرة ل”أزمنة الفن في الصورة ” منذ اندلاع “ثورة الياسمين” إلى اليوم أخذت الكاميرا الفوتوغرافيا و حولتها إلى عين راصدة تتصيد عبرها الأحداث بطريقة عفوية تتخطى الوضعيات القصوى المحيطة بها .إلا أننا مع ذلك نعتقد أن هذا التعبير يجعل من الممكن تجديد التفكير في تنوع الأنماط الزمنية في الفنون. من منطلق الراهنية الزمانية و الفنية، قامت بتطوير عدد من الأطر التي توفر توجهات بحثية مفتوحة مع تحديد مجالات بحثها.
الإبداع الذي قدمته منى الجمل السيالة
تعمل “السيالة” على تفكيك الجزيئات المادية و التقنية للعمل فتهرب بسلاسة من كلاسيكية الصورة إلى تمثيل الفكرة بطريقة معاصرة فياضة لا يمكن في بعض الأحيان تصنيفها إلا إذا ما فتحنا أبواب التفكير المعاصر بترهاته و مكامنه كما يمكن أن تتخذ شكلا آو تطبيقا عبر وسائط متعددة تتفق مع المعايير و المفاهيم الجمالية التشكيلية هذا من جهة أولية إلا أنها لم تقف في حدود ممارسة جافة بل انها سايرت متغيرات التكنولوجيا الرقمية و الأداء الفني المعاصر و أوجدت أشكالا جديدة من التركيب الرقمي و فن الفيديو و الرسوم الحاسوباتية.
فتميز إبداعها بأنه يكسر الحدود و القواعد السابقة عليه، فتجتاح خطوطها و ألوانها عذرية الورقة و تصبح منصات مسرحية واقعية أو صورا وثائقية توثيقية أو منحوتة افتراضية فسيفسائية تخلد صرحا تاريخيا . فهل للصورة الرقمية المستحدثة لل”سيالة” تأثير في آليات بناء الأنظمة الشكلية في الفن المعاصر؟ و كيف تمكنت من “تونسة” الصورة الرقمية و الفنية في إطار الفن المعاصر؟
هل يمكن فصل الحدث اليومي عن الفن؟
حقيقة لا يمكن فصل الحدث اليومي عن الفن، فمنذ الأزل و منذ انحلال الفلسفة في التفكير اليومي المعيشي استنفذ الفلاسفة أفكارهم و عصارة عقولهم على مسألة واحدة اهتمام الفن بالواقع حتى و إن كان في قالب ميتافيزيقي ساخر، وهو انتهاج اتبعته “منى الجمل السيالة” فانتماءها و إحساسها العميق بأنها جزء من هذه الهوية و من هذه البلاد بتقلباته و مرارته، جعلها تنساق نحو ماهو موجود و تنطلق من أحداث ما بعد الثورة و معطيات نعيشها خاصة في ما يتعلق بالمرأة التونسية فعرفت النقيضين معا ،ذروة اللذة و ذروة الألم ،أعظم جمال و اشد قبحا ،أعمالها عبارة عن وجوه تونسية مجتمعية تنتفض في ثورة فنية نرى فيه وجوهنا الحقيقية نرى صورا و صفحات من حياتنا حتى تلك العارضات البلاستيكية المنتشية أمام المحلات لم تهرب من عدسة “السيالة” وقفت منتصبة فارعة، دخلت طائلة العمل الفني المعاصر كمفردة تشكيلية متكررة.
راهنية العمل الزمنية و المكانية
تمر راهنية العمل الزمنية و المكانية اجتياحا كبيرا للمواضيع التي طورت رؤية الفنان من ذاتية الصورة إلى عالمية الصورة . إنه أيضا الشارع الذي اختاره “إرنست بينون-إرنست” كوسيط للتفكير والإبداع. منذ الستينيات ، بدأ هذا الفنان العصامي طريقة عمل لا تزال حتى يومنا هذا. يقوم بدمج الصور في البيئة الحضرية عن طريق لصقها بمجرد لصقها على الجدران، تتعرض هذه الأعمال سريعة الزوال بطبيعتها لسوء الأحوال الجوية، ولكن أيضا للأضرار المحتملة: لتبدأ حياة ثانية. لعل “السيالة” و “بنيون” رفيقا درب و الشارع ثالثها، لتمزج أيقونة العناصر المركبة للشارع مع عدسة “السيالة” و ملصقات “ارنست بنيون ارنست” لتصبح مرجعيات أرشيفية قديمة و معاصرة. لا تختلف تجربة منى الجمل عن بنيون في البحث عن ما وراء الصورة، فماذا يظهر لنا الفنان؟
تستثمر “السيالة” الفضاء الجماعي، وتحوله إلى استجواب متوتر ولكن أيضا في الضوء لا يخشى التعرية. تشكك صورها في مجتمعنا وذاكرتنا الجماعية وقضايانا الاجتماعية ففي هذا المكان الحقيقي الذي تم التقاطه في تعقيده و شفافيته.يهدف هذا الإدراج إلى جعل المكان مساحة تشكيلية والعمل على ذاكرته، للكشف عن الحقيقة وإزعاجها وتفاقمها. في غضم ذلك، تقدم رؤية بطولية و نقدية لتاريخ يكتب اليوم فهو “التزام الفنانة بواقعها و حلمها بمستقبل أفضل عبر أدواتها التعبيرية “[29]
يجمع العمل إشارات لا حصر لها لصور مختلفة. يختلط الواقع مع الخيال بطريقة خفية، مثل مجتمعنا المعاصر الذي يلغي تدريجياً الحدود بين المعلومات والترفيه. يستحضر العمل الفوتوغرافي صورا مجمعة، تشير كل قطعة منها إلى فترة زمنية ومساحة مختلفة. مجتمعة، تخلق حالة من الاصطدام البصري الدائم والمعنى و في الآن نفسه رؤية نقدية لحالة معينة من العالم. فتقول “منى الجمل السيالة” في هذا الإطار “انني منغمسة في الواقع البصري التونسي الى الحد الذي أخشى عدم مقدرتي على الخروج من كل هذه الفوضى الا ميتة و لكن السنا بالفعل أمواتا؟[30] خوضة المعرض الشخصي للفنانة منى الجمل السيالة.
خاتمة
في الختام لا يمكن غلق بوابة النجاعة التقنية خاصة مع نجاح الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت، و التي ارتبطت ممارسة التصوير الفوتوغرافي بها ليتكثف في نفس الوقت الذي يتحول فيه تدريجياً. اليوم نشهد حماسا خاصا لمشاركة الصور التي تمثل أجزاء قليلة من الحياة الراهنة ، اللحظات اليومية والبيئات الشخصية و “العادية” و تخليدها زمنيا و مكانيا على مواقع التواصل الاجتماعي ك Facebook أو Twitter أو Instagram. هذه الذاكرة الحالية مهتمة بدمج هذه “الصورة اليومية “في التعبير عن الذات على المساحات الشخصية على الإنترنت. و هو ما يفتح مجموعة من الإشكاليات حول قدرة تلك الصور على ان تكون صورا فنية ؟ هل من الممكن إدراج مواقع التواصل الاجتماعي في ما يعرف بالفن الافتراضي؟
المصادر والمراجع
- [1]– HEGEL, G.W.F., Cours d’esthétique III, trad, de Jean-Pierre Lefebvre et Veronicka von Schenck, Paris : éd. Hotho, Aubier, 1997, p. 540.ترجمة ذاتية
- [2] . Maurice Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception (III, 2, Tel-Gallimard, 1945, rééd. 1990, p. 488). ترجمة ذاتية
- [3] Annette Becker L’immontrable – Guerres et violences extrêmes dans l’art et la littérature. XXe-XXIe siècles Créaphis éditions 21/10/2021ترجمة ذاتية
- [4] Maurice de Vlaminck, Comœdia, juin 1942. Cité par Antonina Vallentin, Picasso, Paris, Albin Michel, 1957, p. 355 ; rééd. dans Picasso, Propos sur l’art, Paris, Gallimard, 1998, p. 171 ترجمة ذاتية
- [5] Alberto Giacometti, Ecrits, Hermann, 1990, p. 77 Dossier pédagogique L’ART EN GUERRE, FRANCE 1938-1947 de Picasso à Dubuffet ترجمة ذاتية
- [6] Alberto Giacometti, Ecrits, Hermann, 1990, p. 77 Dossier pédagogique L’ART EN GUERRE, FRANCE 1938-1947 de Picasso à Dubuffet المصدر السابق ترجمة ذاتية
- [7]André Gunthert, « Une illusion essentielle », Études photographiques, printemps 2016, en ligne : http://etudesphotographiques.revues.org/3592 ترجمة ذاتية
- [8]André Gunthert, « Une illusion essentielle », Études photographiques, printemps 2016, en ligne : http://etudesphotographiques.revues.org/3592 المصدر السابق ترجمة ذاتية
- [9] Christian Metz, « Le cinéma : langue ou langage ? », Communications, 1964, vol. 4, n° 1, p. 52-90 ترجمة ذاتية
- [10] L’esthétique de Benedetto Croce Paolo D’Angelo, Traduit de l’italien par Rita Di Lorenzo Dans Revue internationale de philosophie 2014/ ترجمة ذاتية
- [11] – HEGEL, G.W.F., Cours d’esthétique III, trad, de Jean-Pierre Lefebvre et Veronicka von Schenck, المصدر السابق ترجمة ذاتية
- [12]” H. S. Becker, “La distribution de l’art moderne”, dans R. Moulin (dir.), Sociologie de l’art, Paris, La Documentation française, 1986, p. 438 ترجمة ذاتية
- [13] Marina Abramovic : « En cette période folle de coronavirus, j’ai réussi à finir une œuvre »
- INNA BAZHENOVA ,LOUISA BUCK & BEN LUKE 31 août 2021 https://www.artnewspaper.fr/interview/marina-abramovic-en-cette-periode-folle-de-coronavirus-j-ai-reussi-a-finir-une-oeuvre
- [14] https://www.nytimes.com/ ترجمة ذاتية
- [15] « Pandémie. Et si les séries dystopiques avaient vu juste ? », Le courrier international, 04 avril 2020 cf. https://www.courrierinternational.com/article/pandemie-et-si-les-series-dystopiques-avaient-vu-juste
- [16] L’art face à la pandémie Art in the face of the pandemic – Astasa journal Revue « Astasa »Publié le lundi 25 mai 2020 par Elsa Zotian https://calenda.org/780249 ترجمة ذاتية
- [17] L’art face à la pandémie Art in the face of the pandemic – Astasa journal Revue « Astasa »Publié le lundi 25 mai 2020 par Elsa Zotian https://calenda.org/780249 المصدر السابق ترجمة ذاتية
- [18] Dossier toucher fatal aventure numérique et interrogation sur soie Sami ben ameur ترجمة ذاتية
- [19]وقفة مع سامي بن عامر تونس العربي الجديد 23 يونيو 2021 https://www.alaraby.co.uk/culture/%D9%88%D9%82%D9%81%D8%A9-%D9%85%D8%B9-%D8%B3%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A8%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%B1
- [20] استاذ دكتور فاتح بن عامر تجليات الفردوس في عكاز الاعمى لنجوى عبد المقصود الشارع المغاربي العدد 301 2022
- [21] Art et traversée du fantasme [*]Marco Antonio Coutinho Jorge Dans Insistance 2005/1 (no 1), pages 145 à 153 ترجمة ذاتية
- [22] استاذ دكتور فاتح بن عامر تجليات الفردوس في عكاز الاعمى لنجوى عبد المقصود الشارع المغاربي العدد 301 2022
- [23] نجوى عبد المقصود روبرتاج أخبار الوطنية
- [24]استاذ دكتور فاتح بن عامر تجليات الفردوس في عكاز الاعمى لنجوى عبد المقصود الشارع المغاربي العدد 301 2022
- [25] Art et traversée du fantasme [*]Marco Antonio Coutinho Jorge Dans Insistance 2005/1 (no 1), pages 145 à 153 ترجمة ذاتية
- [26] استاذ دكتور فاتح بن عامر تجليات الفردوس في عكاز الاعمى لنجوى عبد المقصود الشارع المغاربي العدد 301 2022
- [27] BOURDIEU P., BOLTANSKI L., CASTEL R., CHAMBOREDON J.-C., Un art moyen : essai sur les usages sociaux de la photographie, p.49 ترجمة ذاتية
- [28] Interview de Serge Tisseron [*] L’identité et les liens transformés par les nouvelles technologies Laurent Belhomme Dans Cahiers de psychologie clinique 2010/2 (n° 35), pages 31 à 55 ترجمة ذاتية
- [29] – شوقي البرنوصي معرض خوضة لمنى الجمل ااسيالة : فوضى الحاضر و فسيفساء المستقبل العدد 292 4 جانفي 2022
- [30] شوقي البرنوصي معرض خوضة لمنى الجمل ااسيالة : فوضى الحاضر و فسيفساء المستقبل العدد 292 4 جانفي 2022 المصدر السابق
بقلم: جيهان القارة
https://cdn.pixabay.com/photo/2016/12/15/20/21/texture-1909992_960_720.jpg