الذكريات المتعلقة بالآخرين، في الغالب ما تموت وتطمس فور موت هذا الشخص أو مغادرته لحياتنا المسيجة بالورود والخيبات والأشواك والأحلام الوردية، وحدها الأيام كفيلة بوأد أصغر التفاصيل والجزئيات التي من شأنها أن ترجع شريط حياتنا الى تلك النقطة المتعلقة به أو سبق له المشاركة في أحد أدوارها.
ما هو الشيء القادر على إحياء الذكريات الخالدة فينا؟
وحدها الأماكن و الأغاني قادرة على إحياء بعض من الذكريات الخالدة داخلنا, فور أن تطأ قدميك زقاق حي ما أو ركن مقهى أو كرسي مهترئ وسط حديقة المدينة, أو ربما عربة قطار أو مقعد صلب صدئ داخل حافلة عائدة من الجامعة في مساء تقاطعت فيه شعاع شمس المساء بزجاج الحافلة المغبر و الذي نقش عليه أحرف تعود لمن هم مروا من هنا, مثل هاته الجزئيات تبقى كفيلة بربط حاضرك بماضيك السحيق كلما استسلمت لها و أذعن لها دهنك لكي تسرد لك تفاصيلا عشتها هنا, ملامح تتراءى لك و تمر بالعرض البطيء أمامك, مداق و روائح عطر و طعم وجبات و أحمر شفاه كلها تغازل أنفك وتحرك ما بداخلك.
دور الأغاني وعناوين الكتب في نبش خبايا الذاكرة
عناوين كتب ما قرأتها تزامنا مع أحداث تعيشها، كلمات ونصوص قادرة على تجديد العهد بماضيك وكأنها ندبة وشمت على ساعدك، تعيد لك سيناريوهات عشتها بحلوها ومرها منها الثمينة والعبيطة، ستفتح ثغرك مبتسما وربما تعقد حاجبيك مكشرا، لكن في النهاية سترتسم على وجهك ابتسامة بلهاء تفقدك الإحساس بمحيطك او بمن هم حولك، ستتملك رعشة تحن بها الى هذه الأيام و تتحسر عليها حتى و إن كانت هي أسوء بكثير مما أنت عليه الآن.
مقاطع الأغاني هي أغرب والأكثر السلطة مما يمكنه أن يحيلك على حقبة ما، صوت مطرب لا صلة له بك لكنه قادر على التقليب في دفاتر مذكراتك، له سلطة فريدة في نبش خبايا ذاكرتك التي اعتبرتها في وقت ما أنها ميتة الى الأبد وغلق نعشها بألف مفتاح، لحن واحد يمكنه تعرية واقعك، نوتة موسيقية تحملها معها وجوها وأحاسيس وبيت حقير تكتريه رفقة شلة من رفاق الجامعة الذين لم يعد لهم اليوم وجود في حياتك.
هل من الممكن إعادة الماضي؟
هو حنين بعيد كل البعد عن المنطق، وتقديس مبالغ فيه للماضي الزائل بأشخاصه الذي لن يعود قطعا أو على الأقل لا يمكن نسخه بأدق تفاصيله.
دائما ما كانت البطولات الأخلاق والأوقات الزاهية الجميلة والحياة النبيلة محسوبة للماضي…”في أيامنا”, “جيلنا كان يجيد…”, “هذا الجيل عديم الأخلاق وعديم الكفاءة”, “الجودة في زماننا”….
هناك من يحن حتى لزمن الاستعمار وسنوات الرصاص والقمع، هناك من اشتاق لزمن العبودية والسوط، ولأيام الجوع والطاعون في سبيل اعلاء راية الماضي الجميل، في ارتباط وثيق وغريب من اجل اثبات أن أيامهم كانت هي الأفضل.