قارئي العزيز يومك سعيد سأخبرك عن قصة صاحب مزرعة خلوق وحنون ومثابر ذاق ألم فراق من يحب، تأمّلها فلعلّلك انت هو هذا المستثمر العجيب! (إقرأالمزيد من المقالات التي تجكي قصصا مختلفة على موقع مقال في قسم قصة )
قصة مالك المزرعة صاحب رسالة في قارورة عطر و فراق زوجته
بدأ صاحبنا هذا مثلي ومثلك طالب مجتهد ثم موظف مخلص ثم استثمر مدخراته في مزرعةٍ صغيرة جميلة تقع على طرف المدينة
هذه المزرعة محاطة بسورٍ مزخرف ومنقوشٌ عليه رسومات تمطر فرحاً وبراءة والوانها تضخ الحياة في قلب الصنم
وعلى السور اضواء خافته توفر قليلاً من الضوء حول المكان عند المساء
وصف المزرعة وأشجارها وثمارها
وبداخل المرزعة شتلاتٌ صغار من كل انواع الثمار؛
عنب ورمان وتين وفواكة وحمضيات
ومكسرات لوز وجوز وبندق وكاكاو
ونباتات عطرية صنوبر وصندل وحبق وريحان وفل وياسمين
وشجيرات حولية بقدونس وملوخية وطماطم وجرجير وزنجبيل
بل وحتى البن والزيتون مغروسٌ فيها!
في مطلع الصباح مع خروج الشمس بكسل تشم رائحة البن والهيل ورائحة خبز الفرن المخمور الساخن تتراقص بشقاوة مع رائحة بخور المعمول على الجمر الاحمر تملأ المكان صخباً في هدوء!
مزيج من العبق يغمر القلب بقطرات من الحب تتغلغل الى بشرة الروح فتشع نظارةً وسلاماً.
أصوات الأطفال تملئ المزرعة بين لعب وضحك وبكاء
وفي اول المساء تسمع اصوات الاطفال يقفزون كعقد لؤلؤ تناثر في المكان بين ضحك وبكاء ولعب
ينتظرون طبق الغداء المدلل ليلتفّوا حوله كالطيور الضمئ وقت الظهيرة تتبلل بالماء وتسكن الى اخر المساء..
ومع وداع الشمس يبدأ فصل آخر من الجمال خليطٌ من الروائح والاصوات والاضواء التي تعشب لها صحراء الحياة خليط يصعب تفسيره او معرفة مكوناته انما هو خليط فاخر يتقلب بين الحب والصمت خليط من الدفء والبرودة خليط من روائح الصابون والقهوة والشواء واطباق الحلوى والمعجنات وكأنما المجرّة كلها تزاحمت في هذه المزرعة وتضيئها المصابيح الصغيرة المتناثرة على السور.
مالك المزرعة وسفره و فراق أهله ليلاحق رزقه
لكن مهلاً اني لا ارى صاحب المزرعة في الجوار !
تذكرت ؛ انه هناك يتنقّل حول اطراف المدينة يلحق تجارته باجتهاد فمرّة هو على زورق واخرى على حصان وثالثة ببطن غواصة ورابعة وخامسة يجمع المال بكل نشاط ليرسله الى المزرعة التي يعشقها ويتمنى ان يراها تتوسع وتكبر وتصبح علماً يتباهى به في كل مكان!
وفعلاً بمال هذا المستثمر الذي يرسله ازدادت الاضواء العالية وهجاً على سور المرزعة التي اصبحت اكبر مساحة وتضخمت الاشجار حتى تدلّت اغصانها الى خارج السور واصبح البيت اكبر واعلى مما بدأ به كما لو انه قصر داخله منارة يحكي الجميع عن حسنه وجماله.
ويلف دولاب الحياة بلا توقف وتتعاقب الفصول والسنون على المرزعة وصاحبها الذي يعشق عمله المتعِب بل ويتلذذ في هذا التعب وكأنما هو متسابق ينتشي على لذة الفوز ويكره الهزيمة مهما نزفت قدماه دماً من بُعد المسافات واتصالها
تعب الحياة يترك أثره على جسد مالك المزرعة بعد طول فراق
الى ان مضى ثلاثون عاماً طار غرابه وتقوّس ظهره ووهن عظمه وبصره وانتهى مضمار السباق وانقضت الجوائز لمن في مثل عمره واقفل في وجهه الباب الذي ماتعوّد يوماً الا أن يدخله.
وهنا حان وقت العودة مكرهاً لا مختاراً الى المزرعة لينيخ رحاله من بعد طول الاسفار والاعمال
وبعد ان سُلِب منه قسراً ما كان يعشقه ليجد مفاجآت لم يكن يتوقعها!
وقف طويلاً يطرق باب السور وعلى وجهه ابتسامة العائد بشوق الى وطنه وقد حطّم العابرون المصابيح التي كانت تشرق وتملأ المكان امناً ونوراً
يبدو ان المنزل العملاق اصبح خاوياً من ساكنيه اللطفاء الذين كانوا يملؤه أنْساً وسلاماً
عودة مالك المزرعة من أسفاره إلى مزرعته
وبعد انتظار طويل لم يجبه احد ملّ وكلّ وركل بوهَن باب المزرعة ليدخلها في صمت بلا ترحاب
فتذكر كيف تركها اول مرة ودموع الصغار وامهم تنحب فراقه وتتوسل رفقته او بقاءه
تنهّد بعمق ودخل بتثاقل وهو يسمع صوت الصمت المفزع الذي يصدر من اوراق الشجر الذابلة تتشاجر على الارض والاغصان اليابسة تمد ايديها لتخنقه بشحوبها
تقدم نحو باب المنزل ببطء حتى لا يتعالى انين الارض اليابسة وهو يفتتها بقدميه حينما يطأها باقدامه.
لم تستقبله الروائح ولا الاصوات ولا الاضواء كما في السابق اجل فالمنزل خالٍ من اصحابه.
حتى الباب لما فتحه له ازيز مؤلم وكأنه شيخ كبير يسعل سعالاً جافاً وكأنه يتوسل شربة دواء تخفف وجعه.
اضاء مفاتيح الكهرباء فوجد بعضها يرتعش من الوحدة وبعضها اصبح معتماً من طبقات الغبار؛
مشى متثاقلاً شاحباً حتى وصل الى الكرسي الهزاز الذي كانت تجلس عليه زوجته الحسناء حينما ترسل اليه رسائل اشواقها ودموعها تتساقط على شاشة الجوال تمسحها عنه فتخطئ املاءها وترسلها فيرد بوجه مبتسم او قلب احمر صغير او فقط يكتفي بقراءتها والرد آليّاً بعلامة صح ارزق !
او تجلس تنتظر اتصاله اليتيم بعد انقطاع بالاسابيع ليسألها كم من المال تحتاجه لمصروفهم!
كانت غالباً ماتجلس تتوكأ ركبتيها وقد ضمتها لصدرها وهي تعتلي الكرسي الهزاز وتحدّث نفسها بتزاحم مهام زوجها واشغاله التي تحول بين اتصاله وشوقه وتهتز وتهتز فوق الكرسي حتى تنام هي واشواقها الى ان تجف دموعها ولا يبقى منها الا الملح يرسم اوديةً على صفحة خدها حتى الصباح؛
رسالة الزوجة لزوجها مالك المزرعة بعد عودته من طول فراق
هو اليوم يجلس على ذات الكرسي وحيداً ليرى بجواره على الطاولة صندوقاً خشبيّاً داكناً جميلاً علقت به رائحة زوجته وكأنما عاشت بها عظامه فيفتحه بلهفة لينبعث منه شيئاً من عطر جسدها يرافقه ايقاع موسيقى حنونه لحن كله امل اعتادت سماعه كلما فتحت الصندوق وبداخله اوراق نقدية تغطيها ورقةٌ مكتوبة بقلم رصاص:
زوجي الحبيب ياقطعةً من روحي تركت لك مالك الذي اعتدت ان ترسله جمعته لك لتشتري به الحب والسعادة والمشاعر وكل ماترغب بشراءه
امّا انا فقد استنفذت رصيدك من صبري من املي من مشاعري من لهفتي وخوفي وغيرتي
لم اكن كافيةً لك كزوجة وصديقة وام وطفلة تركتني بذرة رقيقة منبوذة تسقيها ايدي الغرباء بغلظة
انا لم اكن احتاج من الحياة الا قطراتك ولكن حتى القطرات تكاثرتها عليّ
كنت لك الهواء الذي تحيا به بلا ضجيج ولكن مع الاسف تنفستني لتحيا انت واموت انا
اعتذر لأني لم اكن انثاك التي تبحث عنها وارجو ان تجد انثى تنفق عليها ماتبقى في جيوبك من مال وفي عروقك من عاطفة وتعوضك عني
شكراً لأنك وهبتني عمراً آخر استمتع به في اجساد ابنائي واحفادي
ستبقى الرجل الذي اُحِبه جسداً وروحاً بلا منافس
رغم ابتعادي وسيبقى برّك خالداً في عروق ابنائي
ارجوك عش سعيداً فالساقية تدور ولن تنتظر احداً ليرقص بجوارها
ملاحظة: تجنب تناول الكيوي فلديك حساسية منه!
انتهت رسالتها وبدأت دهشته.
حزن صاحب مالك المزرعة على ضياع العمر و فراق زوجته
اقفل الصندوق في اسى ووحدة ثم اسند ظهره ليهتز به المقعد واطرق بصره في رسالتها التي اختصرت ثلاثون عاماً من العمر وتساءل:
ماذا لو أنني اعطيتها الحب مع المال وبقيت اتقلّب في نعمة امتلاكي لها روحاً وجسداً
فهي اعطتني كل شئ ما قيمة هذا القصر المشيد وقد خلى من زوجتي؟
من ابتسامتها وضحكها وحتى سخافتها
من رائحة جسدها وعطرها وطبخها ونظافتها وازهارها
من ملمس اصابعها وهي تفرك قدمي المتعبة او تفرك جبيني او تغطي قدماي حتى لا يصيبني الروماتيزم من برودة الهواء
من صوتها الذي يلهث راكضاً خلفي بالدعوات وانا اخرج وبالترحاب وانا ادخل
من اعجابها الذي تغمرني به بعيون ذابلة تخفي الم الحزن والخوف كي لا تزعجني وانا اسافر هاجراً لها
اما كان يكفيني القليل من نجاح العمل لأفوز بالكثير من حبها لي في هذا العمر واتلذذ به
في سابق الصبا كانت حولي تلفني كالهواء بحب بلا ضجيج حتى ترعى راحتي رغم انزعاجها
تيك توك تيك توك !!
الكلمات الأخيرة التي سمعها مالك المزرعة قبل فراق زوجته
هذا اخر صوت سمعه قبل ان يستيقظ على صوت الجوال الذي انطلق مفزعاً بجواره ليفتح عينه ويجد زوجته بجواره مستلقيه وقد ايقضها صوت المنبه فزعة لتلتفت اليه قائلة:
اعتذر حبيبي رن الجوال واقفلته مرهقة الآن اقوم اطلع شنطتك عند الباب لا تفوتك الرحلة.
امسك يدها بقوة كالذي نجا من الغرق وقال بثقة:
انا لن اسافر اليوم ولا اي يوم آخر سأبقى معكم في وظيفتي المتواضعة لاستمتع معكم بابريق الشاي المنعنع وخبزك المخمر بالسمسم وحبة البركة
ابتسمت في خجل:
ما سر هذا القرار؟
رد صاحبنا: رأيت البارحة كابوساً عجباً واكره ان اشيخ ثم لا اجدك تغمريني بانفاس حديثك ولحافك المنقط!
لفت بيديها الدافئتين تفوح منهما رائحة عطر المسك على وجهه المتوتر بكل رحمة وقالت:
اعلم يقيناً انك تحب عملك وتحب ان تكون ناجحاً فيه وانا اسعد لسعادتك وافخر بك محلّقاً كالصقر تعتلي القمم واعلم انك لن تهجرني مهما ابتعدت سيعيدك طيبك وروحك وميثاق ربك الى حضني سالماً وسأبقى شابةً مزعجة انتظر عودتك على مدى السنين مهما تجعد جلدي سيبقى شبابي في روحي يستقبلك واحبك
سافر بجسدك واترك هنا قلبك فأنا اقيم في وتينه واتغذى بدماء اهتمامك وابتسامة نجاحك في عملك وحينما تعود ستجدني هنا على العهد والوعد انتظرك!
فلكل زوج او حتى زوجة
من الجميل ان تسابق الزمن للفوز بالقمم وبناء مستقبل افضل لترتاح بالكبر ولكن خلال رحلاتك لا تنسى ان تستمتع بمن تحبهم فهم ينتشرون حولك كالهواء فإن ذهبوا اختنقت بالندم.