كيف تكون الفيزياء ممكنة…(إيمانويل كانط)

درس كانط الظواهر الفيزيائية عن طريق القياسات الرياضية، والتي تكشف العلاقة الثابتة بين ظواهر الطبيعة، فالفلسفة الطبيعية (الفيزياء) هي عبارة عن تطبيق الوجود المطلق على الوجود المادي، فالفيزياء ذات معرفة بعدية والأحكام فيها تركيبية قبلية.

الزمان والمكان عند كانط

ويرى كانط أن الزمان والمكان هما إطاران قبليان في الذهن وليسا معطيان تجريبيين، وبرهن على ذلك أنه لا يمكن إدراك الزمان والمكان بشكل حسي حيث لا وجود خارجي لهما، فهما منفصلان عن الواقع المادي لأنهما موجودان مسبقا كمفاهيم في الذهن (قبل التجربة)، والمكان ليس هو الأشياء والزمان ليس هو الأحداث واذا لا يمكن معرفتهما من خلال التجربة.

صحيح أنه لا يمكن للإنسان أن ينكر وجود الزمان والمكان فهما موجودان بشكل ضروري في الذهن، وهنا لا يقصد كانط أنني لا أستطيع أن أحرك أو أنزع شيئا من مكانه، ولكن إلغاء المكان كاملا لا يمكن ومثلما لا يستطيع الذهن أن يتصور فراغا، أيضا لا يستطيع تصور شيء بلا وجوده في مكان، وبالمقابل لا أستطيع أن أتصور أحداثا بلا زمان.

ونستنتج أن كانط يرى أنه طالما الزمان والمكان لا يمكن الإقرار بوجودهما في الطبيعة إذا يجب أن يكون الإقرار بوجودهما على أساس آخر وهو (الذهن). وجد كانط أنه طالما بحثنا في الطبيعة ولم نجد المكان والزمان (بمعنى أن الإدراك الحسي لم يشهد بوجودهما) فإنعدام وجودهما في التجربة هو دليل وحجة على وجودهما في الذهن بمعنى قبلية وجودهما في الذهن.

الفرق بين الذهن والعقل عند كانط

**و قد ميز كانط بين كل من الذهن والعقل، فالذهن هو عبارة عن نظام مكون من مبادئ ومقولات وهذه المقولات قبلية، بمعنى أنها موجودة في الذهن مستقلة عن التجربة، ولكنها في نفس الوقت شرط للتجربة، اذا وظيفة الذهن هي القدرة على استقبال معطيات التجربة وتنظيمها وفقا للمقولات، والعقل هو الذي يعمل على توحيد المفاهيم المتلقاة الموجودة في الذهن وهو على مستوى أعلى من الذهن، ويرى كانط أنه يعمل على تلبية حاجة الانسان للمعرفة (حتى المعرفة الميتافيزيقية).

ويعرف كانط الذهن على أنه تمثل عام أو تمثل لما هو مشترك بين عدة أشياء، بمعنى (المفهوم) وهو استطاعة تعيين نقاط مشتركة لعدة أشياء ومعرفتها بعد ذلك من خلال هذه النقاط المشتركة، فالذهن من خلال المبادئ القبلية والمقولات الموجودة قبليا فيه يعمل على تنظيم وخلق الانسجام في العالم،

النظام والترابط في الكون

لذلك نرى النظام والترابط في الكون وبالنسبة له طالما أن كل العقول مركبة بنفس التركيب وتمتلك نفس المقولات، وتدرك حسيا نفس المدركات، اذا فمعرفتها بالظواهر متوافقة وهذا ما جعل الفيزياء تجد قوانين الطبيعة وتنظم الظواهر المتواجدة فيها. بحيث يحتوي الذهن على 12 مقولة ويسميها كانط مقولات قبيلية وقد صنفها في أربع مجموعات.

والمقولات هي عبارة عن مبادئ تدخل كل ادراك حسي من خلال شروط عامة تحت تصورات الذهن:

  • من حيث الكم : كلية, جزئية، مفردة.
  • من حيث الكيف: موجبة، سالبة, لا محدودة.
  • من حيث الإضافة: حملية, شرطية متصلة, شرطية منفصلة.
  • من حيث الجهة: احتمالية, تقريرية, ضرورية.

ويرى أن للفكر الإنساني مصدرين

  1. الحدس (ملكة الحدس) وهي ملكة تلقي الحدوس الحسية.
  2. الفهم (ملكة الفهم) وهي الملكة التي تعمل على تطبيق التصور القبلي على الحدوس الحسية.

ومن ثم فالحكم الذي خرجنا به من بعد هذه العملية ليس حكما مباشرا صادرا عن الحدس الحسي بل هو حكم غير مباشر عن تمثلاتنا لهذا الحدس*، ومن ثم رتب كانط الأحكام حسب وظيفة الفهم في إضفاء الوحدة على التمثلات ( ترتيب ابستمولوجي ) من حيث الوظيفة المعرفية للحكم **، و مقولتي الزمان والمكان حاضرتان على مستوى الحدس والفهم:

  • على مستوى الحدس تكون مسؤوليتهما تنظيم الانطباعات وفق العلاقات المكانية والزمانية.
  • على مستوى الفهم تكون مسؤوليتهما تنظيم التمثلات الحسية وفق المقولات الموجودة مسبقا سواء المقولات الزمانية أو المكانية.

اذا فهناك معطيات حسية تستقبلها ملكة الحس وتنظمها وفق الزمان والمكان وتتلقى ملكة الفهم تلك المعطيات وتنظمها عن طريق المقولات القبلية الخالصة ونصل الى معرفة الموضوع والوصول الى كونه ضروريا و معمما.

ومن أمثلة كانط على أن المقولات قبلية وأنها تعمل على تنظيم الخبرة، تصوره للسببية، والسببية بالنسبة لكانط هي أحد المقولات القبلية فالخبرة ليست هي التي تمدنا بتصور السببية، فالخبرة تعطينا مجرد أمثلة وهذه الأمثلة لا تفسر لنا من أين أتت فكرة السببية في الذهن، السببية هي تصور قبلي في الذهن يستطيع من خلاله تنظيم وفهم الادراكات التي تأتينا من التجربة وتربط بينها، اذا السببية ذاتها قدرة أو إستعداد قبلي في الفهم يستطيع عن طريقه تنظيم الخبرة وإنتاج المعرفة.***

ضرورة وجود وسط بين الحدس والفهم

و وجد كانط أنه من الضرورة وجود وسط بين كل من الحدس والفهم وهذا الوسط يجب أن لا يكون تجريبيا كالحدس الحسي ولا خالصا كالفهم بل يتوسطهما ويوصل بينهما وهو ما أطلق عليه المخيلة التراسندنتالية ****، ووظيفة المخيلة هي التركيب بين انطباعات الأشياء وذلك لانتاج التمثلات، فالمخيلة تحتوي على عنصر عقلي خالص(الفهم) وعنصر حسي(الحدس).

المراجع

  • **أمانويل كانط, عبد الرحمن بدوي ص162 – ص166
  • *نقد العقل الخالص ترجمة غانم هنا (A68/B93)
  • ** نقد العقل الخالص ترجمة غانم هنا (A70/B95)
  • *** نقد العقل الخالص ترجمة غانم هنا (A90/A91) (B123/B124)
  • **** نقد العقل الخالص ترجمة غانم هنا(A140/B179)

فيديو مقال كيف تكون الفيزياء ممكنة…(إيمانويل كانط)

 

https://youtu.be/H1D3xMLkaic

أضف تعليقك هنا