هواجس من مستقبل مظلم
عندما تستمع الى الشارع التونسي بمواطنيه ، نخبه ، خبراءه و متكلميه تستوقفك جملة من المفردات في علاقة بمؤسسة مالية دولية هي صندوق النقد الدولي :عجز ، أزمة اقتصادية ، إصلاحات ، هيكلة ، شروط الصندوق.
تسريح الموظفين في تونس
في ظل هذه الحالة من الترقب والخوف والقلق التي يعيشها المجتمع التونسي جاءت تصريحات وزيرة المالية لمياء الزريبي لوكالة رويترز لتؤكد الهواجس الكئيبة ، فحكومة الوحدة الوطنية تخطط لتسريح ما لا يقل عن 10 آلاف موظف في القطاع العام بشكل اختياري في 2017 .
و في هذا السياق أكدت أن تسريح هذا العدد من الموظفين جاء في إطار التزامات تونس أمام صندوق النقد الدولي بإجراء إصلاحات اقتصادية واسعة في البلاد عن طريق التشجيع على التقاعد المبكر وبرامج التسريح الطوعي مشيرة الى ان الحكومة تدرس كذلك بيع حصص في 3 بنوك عامة خلال عام 2017 في إطار خطط لإصلاح القطاع المصرفي يطالب بها الصندوق هذا دون الاشارة للمأزق الاكبر بما أن صندوق النقد الدولي قد جمد صرف الشريحة الثانية بقيمة 350 مليون دولار والتي كان من المقرر دفعها في ديسمبر الماضي، من قرض مخصص لتونس بقيمة 2.8 مليار دولار بسبب تباطؤ الإصلاحات.
وجاء التحوير الوزاري الأخير الذي قام رئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد ليزيد من حجم التساؤلات عن علاقة حكام تونس بعرابيهم في الخارج و خصوصا بصندوق النقد الدولي و الدول الراعية له في ظل الحديث عن معركة العضلات المفتولة مع نقابات إتحاد الشغل خصوصا من خلال تعيين السيد خليل الغرياني وزيرا للوظيفة العمومية و الحكومة ،وهو الرجل الثاني في اتحاد الأعراف والمعروف بصلابته في إدارة الصراع الاجتماعي و علاقاته المتوترة مع النقابيين .
صندوق النقد الدولي، حكومة الحكومات
انتهاك سيادة الدول
صندوق النقد الدولى هيئة دولية وظيفتها الأساسية -كما رُوج له زمن إنشاءه- العمل على استقرار النظام المالى ومساعدة البلدان التي تعاني أزمات إقتصادية، والعمل على تلافى ما تعانى من مشكلات، غير أنه طوال السنوات الماضية أثبت بدون أدنى شك أن سياساته و تدخلاته في الشئون الداخلية للبلدان المقترضة تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، حيث ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ اجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي،و في كل هذه التدخلات، لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنودًا، بل كان يستعين بوسيلة غاية فى البساطة وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي وهى عملية التمويل كما يقول الباحث والمترجم الألماني أرنست فولف من خلال كتابه “صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية” .
النيوليبرالية في صندوق النقد الدولي
ويشير الكاتب الى تبني هذه المؤسسة المالية لقواعد النيوليبرالية التي صاغتها مدرسة شيكاغو الاقتصادية، ومن خلالها أقر الصندوق برنامج عنوانه “التكييف الهكيلي” تحت شعار ليبرالية، تحرر، إستقرار، خوصصة، وفي هذا البرنامج وضع الصندوق الدولي ثلاثة شروط للموافقة على اقراض الدول وهى المساعدة المالية والمساعدة الفنية والمراقبة وقد مكنت هذه الشروط إدارة الصندوق من التدخل المباشر في سياسات الدول الاقتصادية والاجتماعية فالصندوق لم يعد يقرض الدول فقط بل صار يحدد أين ستنفق هذه الأموال وصار يختار أيضًا الوزراء والحكومات وقيادات البنوك التي يرى أنها تحقق مصالحه و لنا في تونس مثال من خلال تعيين المكلّف بمهام في قسم الخدمة الزراعية الخارجيّة في السفارة الأمريكية في تونس ( يوسف الشاهد ) رئيسا للحكومة و أخيرا تعيين الرجل الثاني في إتحاد الصناعة و التجارة ،رجل الأعمال الليبرالي خليل الغرياني وزيرا للوظيفة العمومية و الحوكمة .
يقول الاقتصادي الأمريكي وأحد أهم مساعدي الرئيس الأسبق كلينتون، جوزيف ستيغلتش، إن القروض التي تُقدم من صندوق النقد الدولي إلى الدول تكون ضارة في حالات كثيرة، وأوضح في بحث نشره عن قروض الصندوق للدول النامية، أن لوائح الصندوق الدولي تشترط عدم ممارسة ضغوط على الدول المقترضة لإجبارها على تبني سياسات لا علاقة بها بالمشكلة الإقتصادية، مؤكدًا أن تلك البنود يتم اختراقها في كثيرٍ من الأوقات.
وأكد أن الأرقام التي ينشرها البنك حول التغيرات الإقتصادية كمعدلات النمو والإستثمار والإدخار وغيرها ليست بالدقة التي يدعيها البنك بل إن فيها كثير من التعديلات التي يتطلبها إظهار البنك بمظهر المؤسسة الناجحة.
حكومة اليمين الليبرالي في تونس
لا أعلم صدقا هل أن أرباب السياسة و متنفذي الحكم في بلادنا على دراية بمساوئ السقوط في شراك صندوق النقد الدولي أو أن إغراءات التمويل و القروض لتيسير الحكم و خدمة طبقة أصدقاءهم المستثمرين جعلت من الضروري تقارب المصالح خصوصا وإن نظرنا بروية للتحالف الرئيسي الحاكم من زاوية نظر التصنيف الإقتصادي – السياسي نرى بوضوح أنهم من أتباع المدرسة اليمينية و أفكارها النيوليبرالية ( النهضة ، نداء تونس ، آفاق تونس ..)
و جاء التصريح الأخير لرئيس حكومتهم في قناة الحوار التونسي ليؤكد الفلسفة الجديدة للدولة التونسية ، أن دورها “تهيئة المناخ الملائم للاستثمار لا غير”، داعيا بطريقة مبطنة عموم التونسيين إلى الترحم على دولة الرعاية الإجتماعية .
فعلا علينا أن ننسى سيدي الرئيس أننا حلمنا يوما أن تقوم مؤسسات الدولة بتدخلات فعالة لحماية مواطنيها، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وبوضع السياسات وسنِّ التشريعات اللازمة لتنظيم قوى السوق وإصلاح الاختلالات الناجمة عن عملها ، لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة وضمان الاستقرار الاجتماعي والحد من الآثار السلبية للعولمة و النيوليبرالية الموحشة على الفقراء … نموذج عربي لدولة الرعاية، وما توفره من حماية لمتوسطي ومحدودي الدخل، تواجه محاولة تقليص وتجريف من أتباع اقتصاد السوق، الذين يدعمون خوصصة الخدمات الأساسية المقدمة من الدولة، بحجة تخفيض التكاليف، ورفع كفاءة الأداء من خلال التنافس.
لكن محاولات تقليص الدور الطبيعي للدولة ، لن تنتج سوى زيادة التفاوت الاجتماعي، والأزمات المالية ولك في الدول الغربية مثال . أما الدول النامية، التي طبقت الوصفات النيوليبرالية حول الخوصصة والفتح الغير عادل للأسواق، فلم تحصد سوى تردي الخدمات الأساسية، وزيادة الفقر والديون والبطالة، في ظل سطوة القلة المرفهة على الأغلبية المُعْدمَة برعاية خبراء صندوق النقد الدولى .
الطريق إلى اليونان
ادى تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي وبرامج التقشف لمعالجة ازمة ديون اليونان الخارجية الى تعميق الازمة الاقتصادية والمالية والى اعلان اليونان افلاسه و عجزه على الوفاء بخدمات ديونه الخارجية وانهيار اقتصاده . فقد ارتفع حجم الدين الخارجي بين سنوات 2004 – 2009 الى اكثر من 70 مليار يورو . وتشير الاحصاءات الرسمية ان حجم الدين الخارجي الحقيقي قد يصل الى اكثر من ترليون يورو.
و نرى بوضوح أن الاقتصاد اليوناني في حالة انهيار بسبب ما يعانيه من عجز دائم واقتراض خارجي وداخلي. فالعجز الدائم في الميزانية يدفع باستمرار الى الاقتراض الخارجي .
وقد أدت اجراءات التقشف التي نفذتها اليونان إلى انهيار العديد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والى إضعاف قدرة الدولة وفاعليتها. وارتفع عدد العاطلين عن العمل الى اكثر من مليون شخص وتدهور النمو الاقتصادي إلى الصفر مما ادى الى تدني القدرة التنافسية للسلع اليونانية وتخفيض الاجور و رفع نسبة الضرائب وانعكس ذلك سلبا على المستويات المعيشية واصيب الاقتصاد بالركود والتضخم و الكساد . كما ادت خطة التقشف إلى خروج العديد من الشركات الأجنبية واليونانية إلى دول مجاورة وهروب رؤوس اموال تقدر باكثر من 100 مليار يورو .
ونستنتج من ذلك ان اجراءات صندوق النقد الدولي لانقاذ اليونان أدت إلى تعميق الأزمة المالية والاقتصادية وتعقيدها ، و الى انهيار الاقتصاد اليوناني.
لا تضعوا وزر الخراب في سلة الصندوق وحده
انتظارا للقرارات الاقتصادية الصادمة والمؤلمة التي تفكر الحكومة في اتخاذها من خلال الترفيع في الضريبة على القيمة المضافة وزيادة الضرائب و خوصصة المنشآت العمومية وتقليل الإنفاق على صـندوق الدعـم إضـافة إلى مراجـعة صنـاديق الجـراية وصنـاديق التـغطية الاجتـماعيّة تطبيقًا لسياسات صندوق النقد الدولي هل لنا أن نسأل حكومتنا الموقرة لماذا لم تتخذ خطوات حقيقية في تطبيق العدالة الجبائية والتصدي للتهرب الجبائي و تتبع المتلددين من سداد ديونهم للبنوك العمومية بل تراخت في وضع سياسة إجرائية لمحاربة التهريب والتجارة الموازية؟
مقاومة الفساد
أين الإرادة الحقيقية في مقاومة الفساد واستخلاص ديونها لدى الشركات والمؤسسات باعتبارها موارد ضخمة للدولة وواجبات قانونية فرطت الحكومة في النهوض بها وهو ما يدفعها إلى الخضوع لالتزامات خارجية مجحفة ومخلة بالسيادة الوطنية،
إن التضحيات لا يجب ان تكون فقط على كاهل الطبقات الفقيرة و المتوسطة بل باتخاذ اجراءات موجعة لمحاسبة المهربين و استرجاع اموال الشعب التونسي المهربة فما هو ذنب المواطن التونسي ” الزوالي ” الحالم بقرض سكني أو الفلاح البسيط المتعود على الاقتراض للاستثمار فلماذا تخفي الدولة التونسية أن بنك الاسكان قد استرجع نسق تطوره ، و أن البنك الوطني الفلاحي الذي يمول حوالي 80 بالمائة من القطاع الفلاحي واسترجع هو الآخر عافيته .. أم أن حكومة رجال الأعمال لا هم لها الا استرضاءهم و كانه صار شرطا لبقاءهم. أو ربما كان شرطا لوصولهم.