أدب الديستوبيا و اليوتوبيا في القرآن الكريم

خلال سنين عمري ومنذ أن كانت أمي – رحمها الله – تحفظني القرآن الكريم, وأنا أتساءل, أي عظيم هذا الذي ابتدعه, وأي جمال هذا الذي نستشعره ونحن نقرؤه, ولماذا نشعر بالراحة بعد تلاوته.

علمونا ونحن صغارا أن القرآن لم يترك تفصيلة في حياتنا إلا ووضحها لنا أو وضع لها أساسا, ولكن عندما كبرت أكثر وجذبني جمال الحرف والاشتغال بالأدب, وقرأت عن فنونه, وجدتني أقرأ القرآن بعين أخرى, عين الأديب والشاعر, وجدت القرآن به كل أنواع السرد وأشكال الراوي التي تعلمتها ,فيه مختلف الفنون وألوان البلاغة.

وسوف نبدأ بنوعين من أنواع الأدب, هما أدب الديستوبيا وأدب اليوتوبيا, لنبدأ بهما في سلسلة مقالات عن أنواع الأدب وفنونه في القرآن الكريم.

أدب الديستوبا
أدب الديستوبيا واليوتوبيا في القرآن الكريم - د ايمان مكاوي

بداية ,ماهو أدب الديستوبا , الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة يحكي عن مجتمع فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما, ويعني باليونانية المكان الخبيث أو الواقع المرير, والذي ينذر بنهاية العالم.

وعلى مر السنين أجاد الكتاب والأدباء في كتابة أدب الديستوبيا مثال ذلك:

  • رواية جورج أورويل – 1984
  • رواية صموئيل بتلر – ايرهون (1872)
  • رواية إدوارد بولوير ليتون – العرق القادم (1871)
  • رواية هربرت جورج ويلز – النائم يستيقظ (1910)

ولكن برجوعنا للقرآن الكريم نجد أنه سبق كل أولئك الكتَاب في أدب الديستوبيا بحديثه عن أهوال يوم القيامة ووصفه للنار والحياة الأبدية فيها .

هناك بعض السور التي تتحدث عن هذه الأهوال ، كسورة الحج ،  الطور، القمر ، الرحمن، الواقعة، الحاقة.

ويوضح القرأن أن الله سوف يهلك البشر أجمعين وكل كائن حي على وجه الارض ثم تظل الارض على هذا الحال إلى فترة من الزمن لايعلمها إلا الله ثم بعد ذلك يأتي النفخ في الصور وتُدمر الأرض هي والسماوات تنفيذا لأمر الله ثم يبدل الله هذه الأرض بأرض أخرى لانعلم شكلها أو ماهيتها.

ثم يتم الحساب ويكون جزاء جزء من المخلوقات هو الأبدية في مدينة مخيفة سميت بالنار .

يقول تبارك وتعالى: [يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ] [إبراهيم: 48]

يقول تعالى: [يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا(9) وَتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا] [الطور: 9-10] ويقول تعالى: [يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] [عبس: 34-37]

ذلك اليوم يُذهل العقول ويفزّع القلوب، والسماء تضطرب والأرض تشقق والجبال تندك والقمر ينخسف والشمس تتكوّر والكواكب تنتثر والبحار تُسجّر وتشتعل ناراً.

ذلك اليوم يشهده الأولون والآخرون ويحشر فيه الملوك وغيرهم حُفاة عُراة ، لا ينفعهم مالهم ولا جاههم ولا سلطانهم وتستوي الخلائق وليس بينهم وضيع ,الكل عبادٌ لله.

وبعد هذه الأهوال يأتي الحساب في مشهد عظيم أمام جميع الخلائق وبعده الدخول إلى المدينة الفاسدة التي أسهب القرآن الكريم في وصفها ,إنها مجتمع النار أو مدينة جهنم .

قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ . فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1-9].

قال الله تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ . لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية:6-7].

قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ . فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ . فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ . هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:51-56].

كلها آيات تصف تلك المدينة المظلمة ,وأوديتها الذاخرة بألوان العذاب ,وأنواع الطعام والشراب الذي لايسمن ولايغني من جوع .

إذا فالقرآن خير مدرسة لأدب الديستوبيا .

أدب اليوتوبيا

أدب واليوتوبيا في القرآن الكريم - د ايمان مكاوي

أما أدب اليوتوبيا فهو أدب المدينة الفاضلة وقد صاغ مصطلح اليوتوبيا توماس مور سنة  ١٥١٦

وأدب المدينة الفاضلة أو الطُوبَاوِيّة أو المِثَالِيّة أو يوتوبيا (الطوبى هي مكان خيالي قصي

جدا) هي ضرب من التأليف أو الفلسفات التي يتخيل فيها الكاتب الحياة في مجتمع مثالي لا وجود له, مجتمع يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل بني البشر.

كذلك أفلاطون والفرابي قدما نفس الرؤية لتصوير مجتمع المدين الفاضلة .

ولكن القرآن الكريم سبق كل هؤلاء بالحديث عن أوصاف مجتمع الجنة, فالجنة هي دار الخلود، ونعيمها دائم، لا يعتري سكانها نصبٌ أو همٌ أو حزن، ويتمتعون بما أحل الله تعالى لهم بفضله وكرمه، وفيها من النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَة . لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً . فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ . فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ . وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ . وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ . وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:8-16].

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ . وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ . يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لّا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ . وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} [الطور:21-24].

قال الله تعالى {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].

إذا نحن أمام أدب ديستوبيا ويوتوبيا من نوع خاص , نوع شاهدنا فيه مشاهد حية ورأيناها رؤي العين .

وإن كان النقاد يرون أن كاتب الديستوبيا يبالغ في سوداويته ,فأنا أرى أن كاتب الديستوبيا يحاول تصوير مدى فداحة وجود الشر وعواقبه ،وقد يقصد محاربة الشر،باظهار بشاعته،إذا هو يبحث عن المدينة الفاضله،كذلك القرآن صور جهنم وبشاعتها في محاولة لخلق روح الردع لكل كافر بالحق .

وكذلك كاتب اليوتوبيا ليس بالضرورة يقصد الهروب من الواقع ،لأفكار مثاليه حالمه غير موجوده،قد يكون هذا في حد ذاته منتهى الواقعيه ،لأنه يريد تغيير واقعه برسم حلم ،ويدعوا لتحقيقه،فكل ما انتهت إليه البشرية بدأ بحلم ،ولدينا دائما أحلام نرسمها في خيالنا قريبة للمدينة الفاضله ،ونقاتل من أجلها.

فلنقرأ القرآن أكثر ولنستزيد من ألوان الفنون الأدبية وإبداعاتها.

أضف تعليقك هنا