كنا فين ورايحين على فين؟

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

(1)
في الخمسينيات من القرن العشرين تبنت الحكومة المصرية برنامجا طموحا لتطوير الاقتصاد المصري بكافة عناصره وتوسعت في التعليم لتخريج كوادر قادرة على تشغيل المزارع والمصانع وما شابه بالإضافة للكوادر الإدارية في المصالح المختلفة. وأدى ذلك لحدوث حراك اجتماعي ضخم في المجتمع المصري نقل الآلاف من الطبقة البسيطة إلى الطبقة الوسطى التي تشكل عماد المجتمع. (راجع كتاب “ماذا حدث للمصريين؟” للدكتور جلال أمين والذي تحدث فيه باستفاضة عن التغييرات في حياة المصريين بين عامي 1945 و 1995).

ومع هذا الحراك المجتمعي كان المستوى المعيشي متقارب لأن الجميع كانوا يعملون في الدولة ويتقاضون رواتب متقاربة ويشترون حاجياتهم من نفس الأماكن تقريبا وبالأسعار التي تتحكم فيها الدولة ولم تكن هناك تطلعات استهلاكية كبيرة. لم تكن الحياة رغيدة لكن الناس كانوا راضين بها لأن الآمال والطموحات لمستقبل أفضل للبلد كانت كبيرة. (في أوائل الستينيات إلتحق والدي بالعمل في شركة السكر التي أوفدته لبعثة إلى الهند لدراسة الماجستير في صناعة السكر وعاد ليعمل في إنشاء مصنع سكر “إدفو” واستمر يعمل في مختلف مصانع الشركة وإداراتها حتى خرج للمعاش).

الستينيات والسبعينيات

في الستينيات والسبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات كانت جميع البيوت المصرية تحصل على حصة من المواد التموينية وكان الجميع يشرب شاي التموين (شمتو)، ويغسلون ملابسهم (يدويا) بصابون غسيل ماركة الشمس، وكان صابون الوجه ماركة “عبير” أو “س18″، الجبن الأبيض من دمياط، والخضار والفاكهة (على قدر الاستهلاك اليومي) من السوق، واللحوم من الجزار والدجاج من الجمعية التعاونية، والمياه الغازية كان إسمها “سيكو” والشيكولاته “كورونا” أو “إيكا” لا يحصل عليها إلا البرجوازيون.

المدارس الابتدائية

كان جميع الأطفال في المدارس الابتدائية يرتدون مرايل “تيل نادية” لونها كاكي وكانت مصاريف المدرسة رقما يبدو زهيدا ونحصل على الكتب مجانا، وندفع فقط ثمن الكراريس ماركة “رومني” التي جلدتها من الكارتون السميك ونقوم بتجليدها بورق ملون حتى نحافظ عليها حتى نهاية العام (وكان بعض المدرسين يطلبون تجليد الكراريس بورق الصحف للتخفيف على التلاميذ الغير قادرين).

ملابس من عمر أفندي

كان الجميع يشترون ملابس من عمر أفندي وصيدناوي وبنزايون وغيرها (وهي المحلات التي تم تأميمها في أوائل الستينيات) أو من شركة بيع المصنوعات المصرية (التي أنشأها طلعت حرب ضمن شركات بنك مصر)، ويحصلون على الكستور بالبطاقة التموينية ليفصلوا منه بيجامات لجميع أفراد الأسرة وفي الثمانينيات تم عمل مشروع “الكساء الشعبي” ليبيع ملابس مستوردة من الصين بأسعار بسيطة لموظفي الحكومة، وقبله في السبعينيات تم إنشاء “صيدناوي الجامعة” ليبيع ملابس للطلبة بأسعار مخفضة.

الثلاجة

كانت الثلاجة الإيديال ترفا يتم حجزها لفترة طويلة قبل استلامها (كان العادي أن يضع الناس أشيائهم في ثلاجة الجيران) وكذلك كانت غسالة الملابس تستخدم صابون الغسيل المبشور أو مسحوق غسيل “راسبو” أو سافو” وفي كل الأحوال يجب غلي الملابس البيضاء مع البوتاسا الكاوية ثم وضعها في منقوع الزهرة (النيلة) لتعود بيضاء ناصعة. (عندما ذهبت للعمل في كزاخستان في بداية الألفية شاهدت هناك نفس صابون الغسيل وأدركت أن الروس هم من أنشأوا تلك المصانع في مصر).

التليفونات

كانت التليفونات نادرة ولم يتم إنشاء شبكة تليفونات جديدة إلا في أوائل الثمانينيات، ووقتها أعلنت مصلحة التليفونات أنها ستقوم بتوصيل تليفون “فوري” لمن يدفع مبلغ ألف جنيه نقدا وكان مبلغا هائلا بمقاييس وقتها.

المواصلات العامة

المواصلات العامة كانت قطعة من العذاب لأن المتاح كان فقط أتوبيس النقل العام في القاهرة (والحناطير في الأقاليم). كنت أذهب للمدرسة -القريبة نسبيا- ماشيا على الأقدام، وللجامعة كنت أركب أتوبيس النقل العام (وكان معي أبونيه الطلبة) وأتفعص في الزحام وكنت أستفيد من طول قامتي بأن يكون رأسي أعلى من الباقين لأستطيع أن أتنفس. واستمريت أركب الأتوبيس النقل العام بعد تخرجي في كلية الهندسة لبضعة أعوام حتى زاد مرتبي قليلا وانتقلت لفئة الميكروباصات. اشتريت سيارة ١٢٨ بعد أكثر من عشر سنوات من التخرج وكنت أعتبرها نقلة في السلم الاجتماعي. الٱن أمتلك سيارتين ولاحظت أن أبنائي لايعرفون المواصلات العامة ولذلك أركن السيارة كل فترة ونركب ميكروباص حتى يعرفوا كيف يعيش باقي الشعب.

التليفزيون

كان التليفزيون قناتين فقط ويبدأ الإرسال في الخامسة مساء و ينتهي في الحادية عشرة بالقرآن ثم السلام الوطني. ولم تظهر القنوات المحلية إلا في منتصف الثمانينات. وربما يذكر البعض أن الإرسال كان ينقطع لتظهر لوحة على الشاشة مكتوب عليها القناة الأولى ونسمع صوت مذيعة الربط تقول: “نعتذر عن هذا العطل الفني ونعاود الإرسال بعد قليل”. إعلانات التليفزيون كانت بسيطة وعن أشياء في متناول الناس وكثير من الإعلانات كان عبارة عن لوحة على الشاشة وتقرأ المذيعة محتويات الإعلان.

السينما

تعلمت الذهاب لسينما مترو في أوائل الثمانينات وكانت قيمة تذكرة البلكون خمسة وستون قرشا وعندما فتحت سينما التحرير في الدقي في أواخر الثمانينات كانت قيمة التذكرة رهيبة حيث بلغت إثنين جنيه للصالة (بالمناسبة كان أول فيلم يعرض في تلك السينما هو “الإمبراطور الأخير” لستيفين سبيلبرج).

استمرت تلك الحياة بحلوها ومرها حتى ناءت الدولة المصرية بعبء توفير أساسيات الحياة للمواطنين بعد أن خاضت عدة حروب أتت على جميع مواردها ليجد الرئيس السادات نفسه في منتصف السبعينيات أمام اقتصاد منهك وخزانة خاوية وشعب يطالبه بالرخاء بعد أن شد الحزام سنوات طويلة بسبب الاستعداد للمعركة. وبعد أن خذله حكام الخليج لم يعد أمامه إلا فتح قناة السويس للملاحة ليستعين بدخلها وانتهج سياسة الانفتاح الاقتصادي ليجذب رؤوس الأموال من الخارج والذي بدأ بنشر أنماط استهلاكية وبدأ المصريون يعرفون الكوكاكولا واللبان التشيكليتس بعد سنوات طويلة من الحرمان. كانت الخطة هي الانتقال للصناعات الثقيلة بالتوازي مع إنشاء التجمعات العمرانية الجديدة ولكن للأسف لم يمهل القدر الرئيس السادات حتى يستكمل مشروعه ودخلنا إلى الثمانينيات حيث قررت الدولة التخلي عن التزاماتها القديمة شيئا فشيئا.
(2)

بعد الحرب

بعد ارتفاع أسعار البترول بعد الحرب، سافر كثير من المصريين للعمل في الخليج وهناك عرفوا أشكال من الرفاهية غيرت سمة حياتهم وحياة الكثيرين. وفي الثمانينيات كان تأثير الأزمة الاقتصادية قويا على الشباب – في تلك الفترة – الذي اضطر للرحيل للخارج لتدبير مصاريف الزواج وثمن شقة الزوجية (بعد أن اختفت شقق الإيجار) وهناك عاش حياة لها مفردات أخرى وضعف انتماؤه للوطن الذي لم يوفر له هذه الاحتياجات. وأنجب هؤلاء الغربة جيلا كبيرا من المصريين نشأ وترعرع خارج الوطن تعود على نمط الحياة الاستهلاكية السهلة ولا يشعر بالانتماء لأي وطن.
بالطبع لم يسافر جميع المصريين للعمل في الخارج ولكن اتسع الفارق المادي بين أبناء العائلة الواحدة ظهر واضحا في الفرق بين أنماط حياة الأجيال التالية ليفقد الوطن انتماء عدد من أبنائه يتوقون لنمط حياة استهلاكي لا يقدرون على تكاليفه.

أدرك كثير من ذلك الجيل (سواء من سافر ومن بقى) أن القادم لن يكون سهلا وأراد أن يجنب أولاده مشقة صعوبات البداية فاضطر الكثيرون للعمل والكد من أجل توفير شقق لأطفالهم الصغار (!!) تظل مقفولة حتى يأتي وقت زواجهم، و بدلا من المدارس الحكومية سجلوا أبنائهم في مدارس اللغات وتطور الأمر للمدارس الدولية لتخرج أجيال تعيش حياة منفصلة عن حياة باقي المصريين.

تغلبت الحياة الاستهلاكية على المصريين وما كان بالأمس من الكماليات أصبح حاليا من الأساسيات (أذكر أن أحد أصدقائي تزوج عام 1990 وكان سعيدا أنه اشترى جميع الأجهزة الكهربائية بأقساط من المعارض التي كانت ترعاها نقابة المهندسين في حين أنه كان من الطبيعي أن يكون بيت ابنته التي تزوجت عام 2016 مجهزا بهذه الأجهزة وأكثر منها). وبعد أن كانت أغلب السلع متاحة من خلال المنافذ الحكومية ويتم توزيعها بالبطاقة التموينية؛ أصبح السوق حرا وجميع البضائع موجودة ومتاحة لمن يمتلك ثمنها. وتغيرت أنماط الحياة بحيث لم يعد الجيل الجديد الذي خرج للنور في التسعينيات يفهم معنى كلمة “صابون غسيل” أو “وابور الجاز” (ناهيك عن كيفية إشعاله) واختفى مصطلح “طبيخ بايت” بعد أن أصبح من المعتاد طهو الطعام وحفظه في الفريزر لفترات طويلة، واندثرت علامات تجارية مثل: “كورونا” و”باتا” (اللذان احتفى الناس بهم مؤخرا من باب الحنين للماضي فقط لأنها مازلت سلعا قليلة الجودة). توقف الناس عن النوم على مراتب قطن واستبدلوها بالمراتب الجاهزة، ولم يعد الكثيرون يرتدون الملابس الداخلية “جيل” وتحولوا إلى البوكسرات. وطبعا لا مجال للمقارنة بين التليفون والتلغراف في أواخر السبعينيات وبين الهاتف المحمول الذكي الذي نتكلم منه صوت وصورة عبر الإنترنت. وأنا شخصيا برغم أنني عاصرت كل ذلك واجهت صعوبة في تذكر مفردات الحياة في السبعينيات لأكتبها في صدر هذا المقال.

الثمانينيات

(3)
في الثمانينيات كانت فترة التحول من الاقتصاد المقيد للاقتصاد الحر صعبة، وكان الجميع قلقا خصوصا مع الانهيار الغريب لأشياء كثيرة: النقل العام انهار تماما، مصيف المعمورة أصبح شعبيا، غيّب الموت كثير من عظماء الكتاب والفنانين، انتشرت أفلام المقاولات في السينما، وعلى المستوى الإقليمي تشتت العرب في إتجاهات مختلفة وكان اجتياح إسرائيل للبنان صادما وأشعر الناس بالعجز. لم يعد المستقبل مشرقا.
في التسعينيات وما بعدها إزدادت وطأة الضغوط الاقتصادية وأصبح الآباء يعملون أكثر – سواء في الداخل أو الخارج – لتوفير احتياجات أبنائهم، وبالتبعية لم يستطيعوا تقضية الوقت الكافي مع أبنائهم الذين أصبحوا فريسة للاستقطاب من أي جهة تستطيع أن تملأ فراغ غياب الأب والأم في حياتهم. وهنا أخص بالذكر “عمرو خالد” – الإخوانجي المتخفي – الذي أقنع الشباب بالتدين القشري والمظهري.

اليوم

ومع تخلي الدولة عن التزاماتها دون أن تقدم بديلا، استشرى الفساد السياسي الذي صحبه بالضرورة فساد اقتصادي بحيث فقد الكثيرون الأمل في أي مستقبل للبلد. ولكن الأحداث التي مرت على المصريين منذ يناير 2011 أعادت لهم الأمل في بناء مستقبل جديد لبلادهم عندما أدركوا قدرتهم على تغيير حاضرهم.
(4)
المشكلة الآن أنه أمام الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يواجهها الوطن نجد أن جيل الآباء والأجداد على استعداد لتحمل التقشف المطلوب للمرور من هذه الأزمة لأنهم عاشوا ما هو أسوأ من ذلك، في حين أن جيل الأبناء والأحفاد الذي نشأ على الحياة الاستهلاكية لا يفهم هذا الكلام ولذلك يجب أن يكون الخطاب الإعلامي لهم مختلفا حتى لا تنشأ فجوة بينهم وبين آبائهم يستغلها “إخوان الشر” في التفريق بين المصريين. وأن يتم وضع عقد اجتماعي جديد يكون واضحا فيه مسئوليات الدولة تجاه المواطن ومسئوليات المواطن تجاه بلاده.

#تحيا_مصر

بقلم: حسام عطاالله

أضف تعليقك هنا

حسام عطاالله

مهندس مصري مهموم بمستقبل بلده.