الطَليعَةُ الفِكْريةُ للاحتلالِ المَدَنيِّ المُعَاصرِ!(3)

ثم تأتي المرحلةُ الأخيرةُ و ذلك بعد تفكيكِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ حيثُ يُعادُ تشكيلها على الطراز الغربي من ناحيةِ العاداتِ و السلوكِ و التقاليدِ و المظاهرِ ، بل و التراثِ ، ليصير تراثها هو التراثُ الغربيُ و عاداتها هي العاداتُ الغربيةُ و الصوابُ هو ما يراه الغربُ صوابًا و الخطأُ ما يراه الغربُ خطأً و الحقُ ما يراه الغربُ حقًا و الباطلُ ما يراه الباطلُ باطلًا ، بل و الديِّنُ هو يعتقده الغربُ دينًا !

و لكنَّه لا يمكنُ بحالٍ أنْ تُعْطى هذه الأممُ معارفَ الغربِ و تقنيته الحديثةِ ، بل لابدَّ منْ إبقاء تلكَ الأممِ متخلفةً عاجزةً عن “التحديثِ” و إنتاج سلعِ ، و تِقَنِيَّةِ الغربِ ، عاجزةً عن اكتسابِ معارفِ الغربِ ، و إذا اكتسبَ بعضُ أفرادِها شيئًا من معارفِ الغربِ يجدُّ نفسَه غريبًا في وسطِ مجتمعٍ جاهلٍ متخلفٍ، عاطلًا عن العملِ ، و التعايشِ مع مجتمعٍ لا يُقَدِّرُ و لا يرتقي و لا يفهمُ قيمةَ ما يحمله من معرفةٍ و علمٍ ، فيجدُ نفسَه مضطرًا إلى النزوحِ إلى مجتمعِ المتفوقين” .

فإذا جمعنا ما مرَّ كلَّه جنبًا إلى جنبٍ في سياقٍ واحدٍ ، انكشفَ أمامَ الأعينِ كلُّ شيءٍ ، و لم يعد الأمرُ مجردَ جزئياتٍ متناثرةٍ هنا و هناك ، و إنما هو أمرٌ يُدَبَّرُ بليلٍ ، و بمكرٍ و خبثٍ تعجزُ عنه عقولُ الشياطينِ و قلوبُ الأبالسةِ .

ألا إنَّ استقراءَ التاريخِ ليقررُ أنَّ العلاقةَ بين الاحتلالِ – وليس الاستعمارِ- و التدينِ الحقيقي علاقةٌ عكسيةٌ ، فكلما زادتْ نسبةُ التدينِ الحقيقي ، كلما قلت فرصُ الاحتلالِ في السيطرةِ على الأممِ و الشعوبِ أو الاستمرارِ في احتلالها ، و العكسُ بالعكسِ ، و لهذا لا تجدُّ أمةً كانت متمسكةً بدينِها و تراثِها و حضارِتها استطاعَ محتلٌ –مهما كانت قوتُّه- أنْ يسيطرَ عليها أو أنْ يستمرَ طويلًا على أرضِها ، و اعتبرِ بحال ِهجمةِ “نابليون” على مصرِ و التي لم تستطع البقاءَ في مصرَ لأكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ ، مع قوةِ الفرنسيين العسكريةِ و ضعفِ مصرَ -حينها- عسكريًا و سياسيًا ، و لكن كانتْ الأمةُ المصريةُ متمسكةً بدينها و تراثها و قيمها تعملُ تحتَ رايةِ الأزهرِ الشريفِ ، فقاومتْ المحتلَ حتى طردته .

فلما جاء “محمد علي” و نحى الأزهرَ جانبًا ، و عملَ على تغريبِ مصرَ- لا تحديثها- و حولها إلى نسخةٍ من باريس ، حتى في التحللِ من الدينِ ، لم يكدْ يمرُ ثمانين عامًا حتى جاءَ المحتلُ الإنجليزي ، و قد زادتْ قوةُ مصرَ العسكرية و صار لها جيشٌ ، إلا أنَّه كانت قد قلتْ نسبةُ تدينِ أبنائِها ، فهُزِمَ الجيشُ و استمرَ المحتلُ أكثرَ من نصفِ قرنٍ من الزمانِ .

و لما كان المستشرقون من الغربِ و وكلائهم من الشرقِ يعلمون ذلك علمَ اليقينِ ، فقد كانوا دائمًا يعملون على محاربةِ التدينِ الحقيقي ، و على نشرِ التحللِ من الأخلاقِ، و نشرِ الإباحيةِ و الرذائلِ و الانحلالِ بل و الإلحادِ داخلَ المجتمعاتِ المرادِ احتلالها تحت مسمياتٍ براقةٍ كاذبةٍ من الحريةِ و الثقافةِ.

و بناءً على كلِّ ما تقدم نقررُ ما يلي : إنَّ دعاةَ التحللِ من التدينِ و القائمين على محاربةِ الثوابتِ و التشكيكِ في الدِّينِ و التشكيكِ في الغيبيات و الطاعنين في السنةِ النبويةِ المطهرةِ ، و الداعين إلى التفلتِ الأخلاقي و نشرِ الرذيلةِ في المجتمعِ ، و المروجين لتركِ الالتزام بالأحكامِ الشرعيةِ و الدينيةِ تحت شعاراتٍ براقةٍ كاذبةٍ من الحريةِ الشخصيةِ و الجنسيةِ و ما شابهها ، ليسوا إلا “الطَّليعَةُ الفِكريَّةُ للاحتلالِ في كلِّ زمانٍ و مكانٍ ” ، و أنَّ هؤلاءِ الذين يظهرون الآن فجأةً ، و في مصرَ خاصةً و في هذا التوقيتِ بعينِه ليسوا إلا جزءًا من المعركةِ التي تخوضها مصرُ نحو التحررِ الوطني و الاستقلالِ القومي ، و أنً هؤلاءِ المشككين في الديِّنِ الساعين لهدمِه إنما يعملون في خدمةِ الاحتلالِ المعاصرِ في صورتِه المدنيةِ –علموا أو لم يعلموا قصدوا أو لم يقصدوا- ، فهم –و بلا شكٍ- طليعتُه الفكريةُ الممهدون له الطريقَ و الناثرون له البذورَ .

أضف تعليقك هنا